فى ظلال رسالة (دعوتنا) – 6

مع زاد السائرين – في ظلال رسالة دعوتنا (6)
للإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله
الحمد لله والصلاة والسلام على سول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد

تابع : شرائط إنجاز الأمة هذا التكليف الضخم

خامسًا: وحدة روح الأمة وإرادتها (حاجتها إلى الإمام أو الخليفة الذي يوحِّد إرادتها)
فروح الأمة هي من إنزال الله عز وجل عندما جعل لها مثلًا أعلى تلتف كلها حوله بحيث تصبح إرادتها كلها جميعًا لا تكون إرادات موزعة؟ لأنَّ المجتمعَ الساقطَ هو مَن توزَّعت فيه الإرادات لمجتمعاتٍ أُخرى أو لدولٍ أخرى أو لمبادئ متعددة أو لأفكار متباينة؛ ولذلك هاجم الأستاذ البنا كل ما يهدد هذه الروح من أن تكون جميعًا. من الحزبية من ناحية ومن المذهبية الفقهية من ناحية أخرى بحيث تكون الأمة روحًا واحدة، إرادة واحدة.

كما يحكون عن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعا لشاب كان في أحدِ الوفود التي جاءته كما يروي ابن القيم فقال له الرسول: “وأسأل الله أن يميتك جميعًا”، فقالوا: “كيف يُميته الله جميعًا”، فقال: “إنَّ الله سبحانه وتعالى عندما لا يعبأ بعبدٍ يفتح عليه الدنيا فلا يعبأ به في أي أوديتها هلك”، تتفرق إرادته فبدل أن تكون لله فقط تُصبح متفرقةً في أغراضِ الدنيا المتعددة، فالإنسان تُصبح إرادته جميعًا ونفسه جميعًا وطاقته جميعًا متى؟ عندما تكون الروح واحدة في خدمةِ مثلٍ واحد.

ولذلك فإنَّ الإمام البنا كان يتكلم عن كل ما يهدد تلك الروح؛ لأنه يعلم أنَّ النشاطَ البشري من شروطِ إنجازه، ومن البواعث المعللة لدوامة واستمراره أن تكون الإرادة واحدة، روحًا واحدة، ولذلك، كل ما يشتت هذه الروح أو يوزع تلك الإرادة ينبغي تقييده أو إلغاؤه، روح الحزبية، وما فيها من التناحر، الدعوات الوطنية والقومية، وما فيها من التباين، الخلاف المذهبي وما فيه من الاختلاف.

أراد أن تكون الأمة روحًا واحدةً من أجلِ تحقيق ذلك المثل الأعلى والقيام بهذا التكليف الذي يحمل على الإشفاق ويبعث على الاستنفار، والذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يُثبت جدارته بأحقيته بتكريم الله له من إقامةِ العدل وحقن الدماء.

لذلك هذا الشعور الذي يملأُ نفسه هو الذي جعله يُحارب الحزبية من ناحية والدعوات القومية والوطنية من ناحية أخرى، والخلاف المذهبي من ناحيةٍ ثالثةٍ من أجل أن تكون روح الأمة روحًا واحدةً، ومَن ثَمَّ تكون إرادتها إرادة واحدة عندما تعرف أنَّ ليس لها إلا مثل أعلى واحد.﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾ (الشورى).
هذا هو الذي يجعل روح الأمة واحدة، وهذا الذي جعل الإمام البنا يقف أمام ذلك كله، وحتى صورة الخلاف كانت تعبر عن روح الأمة بمعنى آخر وهي قدرتك على استيعاب الآخر والعيش معه. فالخلاف الفقهي إن عبَّر عن شيء فإنما يُعبِّر عن قُدرةِ هذه الأمة بسعةِ جوانحها أنها تستوعب الآخر تستوعبه بقضاياه وتستوعبه بمشاكله.

ولذلك هي الأمة الوحيدة التي عاش فيها مواطنون على غير عقيدتها، لهم الأمن والحرية والاستقرار. أمة بهذه العقلية إن كانت طبيعة الاختلاف الفقهي تعبر عن هذا من ناحية وناحية أخرى تعبر عن حاجةِ الأمة أو تكريسها للمعنى العظيم الذي أشار إليه الإمام البنا (حاجتها أنه لا بد للناس من إمام) حاجة الأمة إلى إمامٍ يرفع حكمه الخلاف، ولذلك الإمام البنا يُوظِّف هذا المعنى وهو يشير إليه أن طبيعة الخلاف تُكرِّس هذا المعنى.

قديمًا قال سيدنا على – رضي الله عنه -: (إن من إنعام الله على عباده الجماعة والإمام)، ولذلك تجد الإمام البنا يُكرِّس هذا المعنى في أنَّ الناسَ قديمًا إذا اختلفوا رجعوا إلى الخليفةِ وشرطه الإمامة، لرفع الظلم، وعلى الناس الآن أن يوجدوا القاضي ثم يعرضوا عليه قضيتهم. وهو يكرس هذا المعنى من أجل الوحدة أيضًا، وحدة روح الأمة وإرادتها.

سادسًا: وجود الجماعة (ودورها في الدولة الإسلامية)
ولا يبقى إلا فتوى الإمام محمد عبده وهي ذات مغزى عندما يسأل (هل يمكن في الدولة الإسلامية أن تقوم جماعات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟) فقال: نعم؛ لأنَّ من أعمال هذه الأمة الضرب على أيدي الظالمين، فإنَّ الظلمَ أنكر المنكر، وإن إقامة العدل أعرف المعروف واشترط الفقهاء وجود الجماعة؛ لأنَّ الظالمَ لا يكون قويًّا إذا وجد الجماعة القوية المتحدة؛ لأنها لا تُقهر ولا تُخالف ولا تُغلب، لذلك اشترط الفقهاء وجود الجماعة التي تقوم بهذا الأمر، فضلًا على أنه ضمان لامتثال الظالم لأمر الله تعالى. ﴿وَشَأوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (آل عمران: من الآية 159) ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية 38)، فإن لم يمتثل لأمرِ الله تعالى فماذا يكون؟ تبقى الجماعة موجودة تضرب على يدِ الظالم؛ لأنَّ الظلمَ هو أنكر المنكر وإقامة العدل هو أعرف المعروف).

واشترط الفقهاء للقيام بهذا الواجب وجود جماعة قوية متحدة لأنَّ الجماعة لا تُخالف ولا تُغلب ولا تُقهر، لا تعتذر بضعفها عن القيام بواجبها؛ لأنها أن تركت ذلك انتشر الفساد في مجموع المسلمين. يقول الإمام الجويني: فإن جار وظلم (أي الحاكم) تواطئوأ على درئه ولو بنصب الحروب وشهر السلاح، وعلى ذلك لا يستطيع أن يجور أو يظلم. ويجوز أن يكون لها رياسة، لأن ذلك أملك لعدم شيوع فساد المقاصد، إذا اختلفت الآراء ونكثت القوى.
ويعقب الشيخ محمد عبده ويقول: اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ﴾ (آل عمران: من الآية 105) بمعنى أنَّ هناك نهيًا عن التفرق والاختلاف؛ لأنَّ التفرقَ والاختلاف يؤدي إلى اختلاف المقاصد الذي به يكون الفساد بتباين الآراء وتنكيث القوى، ولذلك كان وجود الرئاسة ضروري لتوحيد المقاصد.

ولذلك عقب الله على قوله بالخيرية لهذه الأمة ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ﴾ (آل عمران: من الآية 105) فعدم التفرق وعدم الاختلاف (كما قال الشيخ محمد عبده) واجب لا إذن له، لأن الله أعطانا الإذن فإذا غابت هذه السلطة (الدولة) والخلافة وحدة المسلمين، وإقامة حكم الإسلام إذا غاب ذلك كله يبقى الواجب كما قال سيدنا عمر- رضي الله عنه – وعمله الأستاذ الإمام البنا (لا إسلامَ إلا بجماعة ولا جماعة إلا بطاعة ولا طاعة إلا ببيعة). وهذا ما فعله الإمام البنا، ولذلك قال المنهاج والمؤمنون والقيادة الموثوق فيها، وهذا تعبير له تعبير وأنت يوسف هذه الأحلام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

———————————-
انتهى الجزء (6) وهو الجزء الأخير من شرح رسالة دعوتنا. والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات.

اترك تعليقا