قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية (1)

قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية (1)    – بقلم: حمدى شعيب

توطئة المقال: (موقع زاد السائرين) 

يتناول الكاتب فى هذا المقال، دروس وقطوف تربوية من قصة (أصحاب القرية)، وسيتم نشر المقال على جزئين، هذا هو الجزء الأول منهما، والمقال بجزئية يحدد جولات ثلاثة في قصة أصحاب القرية هي: (1- المواجهة بين الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأصحاب القرية، 2- والمواجهة بين الرجل المؤمن وقومه، 3- والتعقيبات القرآنية الخاصة والعامة).

ويقف الكاتب من خلال هذا المقال بجزئيه على دعامتين للتغيير الحضاري، وهما: (1- دعامة القاعدة المؤمنة الصُلبة. 2- وجود القاعدة الجماهيرية). 

وإن شاء الله في الجزء الأول سيتم تناول الدعامة الأولي (وجود القاعدة المؤمنة الصلة)، مع بيان تفصيلي، بالسمات الأساسية لهذه القاعدة، وعددها (إحدى عشر سمة). وقد قدم الكاتب لمقاله المتميز بمقدمة تمهيدية لموضوع المقال، وتناول فيها السنن الإلهية في التغيير الحضاري.    وإلى المقال.

(دعامتا التغيير الحضاري)

قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)). سورة يس.

وهي القصة التي وردت في سورة يس من الآية (13) إلى الآية (32).

وهي تحكي قصة رسولين أرسلهما الحق ـ سبحانه ـ إلى إحدى القرى، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله ـ سبحانه ـ برسول ثالث لتقويتهما؛ فما كان من أصحاب القرية إلا أن استمروا في رفض الرسالة، بل وهددوا الرسل الثلاثة بالرجم والتعذيب.

ثم كان هذا الموقف العظيم للرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة، أي من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى، أي يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يُبتلى فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان ولا وقت، بل سعى ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في القضية، وانتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.

واستمر أهل القرية في رفض الرسالة، وكذبوا الرجل المؤمن، ثم أقدموا على قتله، فلقي الله ـ سبحانه ـ شهيدًا، وبشره الحق ـ سبحانه ـ بالجنة، فتمنى لو أن قومه يعلمون بمصيره وحسن عاقبته.

وبعد ذلك جاءت التعقيبات القرآنية الخاصة، والتي تبين مصير أهل القرية المكذبين؛ حيث أصابتهم صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين خامدين، كما تخمد النار. وهي سنة الله ـ عز وجل ـ الإلهية مع المكذبين.

ثم كانت التعقيبات القرآنية العامة، والتي تعلن الحسرة على كل من لا يقرأ التاريخ، ويشاهد سننه ـ سبحانه ـ الإلهية مع أعداء الدعوة، ومكذبي الرسالة، على مر تاريخ المسيرة الدعوية، ولا يعتبر بها، ولا يعي معنى الرجوع إليه ـ سبحانه ـ للمحاسبة والجزاء.

أهمية الرؤية المنهجية:
وعندما ننظر إلى هذه القصة القرآنية العظيمة، برؤية منهجية شاملة واعية، نجد أن لها بُعدين:
* البعد الأول الظاهر القريب: هو أن هذه القصة تتكون من جولات ثلاث:
الجولة الأولى: هي جولة المواجهة بين الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وبين أصحاب القرية.
الجولة الثانية: هي جولة المواجهة بين الرجل المؤمن وقومه.
الجولة الثالثة: هي جولة التعقيبات القرآنية الخاصة والعامة.

* أما البُعد الآخر البعيد: فهو البعد التربوي العظيم الذي نستشعر من خلاله أن هذه القصة قد أوردت تلك التجربة الدعوية من ملفات تاريخ مسيرة الحركة الدعوية كمثال ثابت، وترجمة تطبيقية لسنَّتين اجتماعيتين عظيمتين من سننه ـ سبحانه ـ الإلهية.

والسنن الإلهية منها السنن الإلهية الكونية في الآفاق، أي في مجال عالم المادة. ومنها كذلك السنن الإلهية الاجتماعية في الأنفس، أي في عالم البشر والأحياء عمومًا.
وهذه السنن هي آياته ـ سبحانه ـ الدالة على صدق الرسالة، من حيث البرهان على إعجاز الله ـ جل وعلا ـ في الخلق، وعلى تفسير التحولات الاجتماعية والتغييرات الكونية والحضارية: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْـحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53].

وهذه السنن الإلهية لها سمات ثلاث:
أ- الثبات: أي لا تتبدل ولا تتغير: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 62].
ب- العموم: أي أنها تشمل كل البشر والخلائق، دون تفريق، ودون استثناء، وبلا محاباة: (لَيْسَ بِأَمَأنِيِّكُمْ وَلا أَمَأنِيِّ أَهْلِ الْكِتَأبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) [النساء: 123].
ج- الاطِّراد: أي التكرار أينما وجدت الظروف المناسبة مكانًا وزمانًا وأشخاصًا وأفكارًا: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَأنَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137].

وهي عبارة عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها الحق ـ سبحانه ـ لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط وعوامل النهوض الحضاري.

والسنن الإلهية الاجتماعية هي المرتكز الذي على أساسه يقوم مجال واسع في المنهج، وهو الفقه الاجتماعي والحضاري، وهذا الفقه يقوم على دراسة عوامل قيام وسقوط الحضارات.
وقد جاءت التأكيدات القرآنية المستمرة والمتعددة،على ضرورة دراسة هـذا الفقــه، ووضحـت أن مدخله هـو السير في الأرض، وفتـح ملفـات الأمـم السـابقة، لاســـتجلاء ســننه ـ سبحانه ـ لفقهها، ولمعرفة حسن تسخيرها: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَأنَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ) [الأنعام: 11]. والقصص القرآني ما هو إلا برهان ثابت، وتطبيق عملي موثوق حـول فاعـلية تلك السنن.

أما عن السنَّتين الاجتماعيتين:
أولًا: السنة الإلهية الاجتماعية الأولى: فقد وضحت تجربة أصحاب القرية ـ كغيرها من التجارب الدعوية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ـ أن عملية التغيير الحضاري، وبعث أي أمة جديدة، إنما تقوم على دعامتين أساسيتين، أو قاعدتين رئيسيتين، هما:
الدعامة الأولى: هي وجود القاعدة الصلبة التي تقود التغيير، وتكون بمثابة الطليعة الفاعلة، والأداة المحركة، والقوة المنفذة، والتي تمثلت في وجود هؤلاء الرسل الكرام، وحركتهم بالرسالة داخل تلك القرية.
الدعامة الثانية: هي وجود القاعدة الجماهيرية، أو الرأي العام الذي يناصر الرسالة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص على انتصارها؛ والتي تمثلت في حركة الرجل المؤمن الذي جاء يناصر الرسالة، ويدافع عن الدعوة، ويؤيد الدعاة.

ثانيًا: لقد بينت القصة سُنَّة إلهية اجتماعية أخرى؛ حيث أوردت صورة من صور سُنَّة التدافع الحضاري، أو قانون المدافعة القرآني.
وهي السنَّة الإلهية الاجتماعية التي تبين إرادة الحق ـ سبحانه ـ في أن يستمر الصراع والتنافس والتدافع، سواء كان فرديًا أو جماعيًا، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الإيمان وأهله والكفر وأهله، ما دامت السماوات والأرض؛ وذلك حتى تتم عملية انتقائية لتفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء، سواء كانت أفكارًا أو آراء أو أفرادًا أو أممًا، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية المختلفة الصور كان الفساد في الأرض، وهذا من فضله ـ سبحانه ـ من أجل ديمومة واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]؛ حيث نجد أن هذه التجربة ـ وكذلك كل التجارب الدعوية التي عرضها القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة ـ قد عرضت أمرين مهمين بارزين:
الأمر الأول: مدى حرص الرسل والدعاة على توصيل عقيدتهم ودعوتهم إلى جماهير الشارع بكل الوسائل.
الأمر الثاني: مدى حرص أعداء الدعوة على كل عمل مضاد، يواجه هذه العدوى الدعوية، ويؤدي إلى عملية عزل الدعوة عن الناس، وتحجيم الدعاة، وإن أدى الأمر إلى سجنهم أو نفيهم أو قتلهم.

مخزون الأمة المعرفي:
تبدأ القصة بهذا التوجيه إلى الرسول ﷺ: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا) [يس: 13]. وهو توجيه يدعوه أن يذكر مثلًا توضيحيًا يقرب المعنى للأفهام حول القضية التي كانت موضوع الساعة آنئذ، وهي بيان إحدى صور حركة الداعية بالفكرة أو بالدعوة داخل المجتمع البشري، وبيان طبيعة البشر أمام الرسالة، وانقسامهم إلى فصيلين، أو إلى فريقين، وبيان مصير كل منهم، والذي يكون بناء على موقفهم من الرسالة قبولًا أو رفضًا؛ وذلك في أسلوب قصصي يوضح الأسلوب التقريري الذي ورد في آيات مطلع السورة حول:

الفصيل الأول: فريق أصحاب القلوب المغلقة على دعوة الرسل، المكذبين للرسالة، الرافضين للهداية، وهم أصحاب القرية، فكانت رسالة تهديد واضحة لقريش، ولأعداء الدعوة، في كل عصر.
الفصيل الثاني: فريق الذي يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب، أصحاب الفطر السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيقبل الرسالة، ويتبع الرسل، كما يمثله الرجل المؤمن.

وكانت رسالة تثبيت وتبشير للجماعة المسلمة من أصحاب الرسول ﷺ، ولكل المؤمنين في كل عصر. و(لَهُم) تشمل كل من يحضره المثل، سواء في ذلك أعداء الدعوة من الكافرين ـ وهم مشركو مكة في ذلك الحين ـ أو المؤمنون؛ وذلك لأن المنهج القرآني كان يرسخ قواعد ثابتة لقضية عامة، وسنة إلهية اجتماعية، يلزم أن يفقهها الجميع.

ويرى «المحققون المنصفون من العلماء على أن قصص القرآن واقعي وليس رمزيًا، وحقيقي وليس تمثيليًا» (1).
ولأن الفائدة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإننا نستشعر من هذا التوجيه الإلهي أنه توجيه لكل داعية أن يستخدم الأمثلة التوضيحية لبيان عقيدته، ولتوضيح قضيته. وهي أيضًا دعوة صريحة لقراءة التاريخ، وفتح ملفات الأفراد والأمم السابقة، بغرض التذكير والموعظة، واستجلاء الدروس.

لذا فإننا نضع أيدينا على مرتكزات ثلاثة تكوّن الثلاثية المعرفية المطلوبة من أجل إعادة صياغة وتشكيل العقلية المسلمة:
أـ فهم جيد للرسالة.
ب ـ فقه بصير بالواقع يتم من خلاله تقريب العقيدة والقضية بأمثلة توضيحية، من خلال البيئة المحيطة والمالوفة للسامعين.
ج- قراءة عميقة للتاريخ يتعرف بها على السنن الإلهية الكونية والاجتماعية الثابتة والمطردة أي المتكررة، والعامة التي تنطبق على أي واقع بشري مشابه، وعلى ضوئها يمكن تفسير مغزى المقولة: التاريخ يعيد نفسه، أو ما أشبه الليلة بالبارحة.

وانطلاقًا من هذه الثلاثية المعرفية يتم إعادة صياغة العقلية المسلمة، حتى تصل إلى حالة الوعي المنشودة، وهي الحالة التي يمكن من خلالها استقراء الواقع وأحوال الحاضر على ضوء تجارب ورصيد الماضي، مما يعين على النظرة المستقبلية الاستشرافية.
وإذا ارتقت العقلية المسلمة إلى حالة الوعي المنشودة تلك، فيمكننا أن نقول إننا قد نجحنا في عملية تصحيح وتنقية للمخزون المعرفي داخل عقل الأمة.

ومصادر هذه الثلاثية المعرفية التي هي مرتكز تشكيل العقلية المسلمة:
1 – القرآن الكريم.
2 – السنة النبوية المطهرة.
3 – فقه الواقع.
4 – قراءة التاريخ.
وهذه المصادر هي المرتكزات الأربعة التي تكوِّن المخزون المعرفي لأمة الدعوة والرسالة، أمة الوسطية، والمناط بها دور الخلافة الراشدة والشهادة على البشر.
وعن طريق هذا المخزون المعرفي العظيم يمكن إعادة صياغة للعقلية المسلمة، فتتكون حالة معرفية أو إدراكية راقية لعقل الأمة، وحصول أو تكوين ما يسمى بـ (منظومة الوعي البشري) عند أفراد الأمة.

وهذه المنظومة المنشودة للوعي البشري هي عبارة عن حالة معرفية راشدة يمتزج فيها الوعي بالماضي والحاضر والمستقبل، فتؤدي إلى الدراية والوعي، بكل شهود التاريخ البشري وبكل سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية في الأنفس؛ أي في عالم الأحياء، وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق؛ أي في عالم المادة، وهي السنن الإلهية الكونية.

وخلاصة ذلك أن يبلغ عقل الأمة مرحلة الرشد المعرفي والإدراكي، مما يساعده على تحمل عبء المواجهة الحضارية. فالقضية هي قبول العقل المسلم للتحدي الحضاري ليقتحم حلبة الصراع الحضاري. ومنظومة الوعي البشري هي الحصانة ضد أخطار التحدي الحضاري الداخلي والخارجي.

الدعامة الأولى للتغيير الحضاري
(وجود القاعدة المؤمنة الصلبة)

وهي الطليعة الفاعلة التي تقود التغيير، وتتحمل عبء المواجهة، وتكون بمثابة الأداة المحركة، أو القوة المنفذة. وقد ورد الحديث عنها في آيات الجولة الأولى من القصة، وهي جولة المواجهة بين الرسل وبين أصحاب القرية. (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا الْـمُرْسَلُونَ (13) إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَـمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبِينُ (17) قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ) [يس: 13 – 19].

ومن خلال تدبر الآيات يمكننا أن نبحث حول بعض صفات هذه القاعدة. ونقول بعض الصفات أو السمات؛ لأننا سنلتزم بما ورد عنها في آيات الجولة الأولى من القصة. وكذلك سنرتب السمات على حسب ورودها في سياق الآيات، وليس على حسب أولويتها، أو أهميتها.

السمة الأولى: الإيجابية
يقول الحق ـ سبحانه ـ إن الـرسـل ـ عليهم الصـلاة والسلام ـ قد جاؤوا إلى القرية، وتحركوا إليها ولم يقعدوا في مكانهم؛ وذلك كما نستشعر مغزى الوصف القرآني: (إذْ جَاءَهَا)؛ أي إنهم قد تحركوا منطلقين بعقيدتهم، وبدؤوا تجربتهم الدعوية التغييرية بالوصول إلى تلك القرية.
ولم يحدد السياق القرآني أي قرية تلك، وإن كان بعض المفسرين قد حدد أنها (أنطاكية)، فالعبرة ليست بالاسم، والبحث عنه لن يفيد تربويًا.

ولم يقعد هؤلاء الرسل في مكانهم ليأتيهم الناس، بل حضروا إليهم.
ولأن من هذه الظواهر المميزة لهذا الوجود الكبير ظاهرة الحركة المستمرة، أو الحيوية المتجددة التي لا تأسن، أو (الظاهرة الارتحالية) التي تشمل الكون والحياة وكذلك الإنسان.
وهذه الظاهرة الحيوية، يستشعرها المرء في كل شيء، في هذا الوجود الكبير.
والله ـ عز وجل ـ يصور هذه الحركة الكونية المستمرة في أكبر جرم كوني نراه، وهو الشمس؛ فهي في حركة دائبة سرمدية لا تهدأ، أو هي تجري فعلًا، لمستقر ونهاية لا يعلمها إلا الله ـ عز وجل ـ: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِـمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس: 38].

وهذه الحركة الدائبة ليست عشوائية، بل تحكمها قوانين ثابتة، وهي سنن إلهية لا تتبدل ولا تتغير إلا بإذنه ـ تعالى ـ تحافظ على سيرها في توافق عجيب ينتظم فيه كل شيء، بما فيه ظاهرتا الليل والنهار: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 40]. وكذلك لو تأملت أصغر جرم كوني وهو الذرة؛ لوجدت أن العلماء قد أثبتوا أن الحركة المستمرة الدائبة لمكوناتها هي إحدى سماتها ومميزاتها الثابتة.

لذا فإن المسلم يدرك أنه جزء من هذا الوجود الكبير الساجد المسبح لربه سبحانه، ويعلم أن الله ـ عز وجل ـ لا يهب نعمه العظيمة إلا لمن يسعى في أسباب الحصول عليها؛ أي يتعامل بطبيعة إيجابية مع النعم والمقدرات التي وهبها له الحق سبحانه.

وذلك كما ورد عن الرجل الصالح ذي القرنين: (إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف: 84 – 85].
وتدبر سنة الله ـ عز وجل ـ في مجال نعمة الرزق: (وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم: 25].
إن «الرزق وإن كان محتومًا؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد وكَّل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، والأمر بتكليف كسب الرزق سنة الله ـ تعالى ـ في عباده. وإن ذلك لا يقدح في التوكل»(2).

أما في مجال التربية؛ فإن الأساس هو الحركة والانطلاق والاختلاط في دنيا الناس؛ لأن الله ـ عز وجل ـ قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها للناس لكل الناس، لتتحمل واجبات القوامة والشهادة، وذلك لتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، حاملة عقيدتها الربانية الخالدة السامية، ألا وهي الإيمان بالله ـ تبارك وتعالى ـ: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]. وبناء هذه الأمة لا يكون إلا من خلال الواقع، والحركة بالمنهج خلال هذا الواقع.

وشواهد القرآن الكريم كثيرة، وكلها تدل على أن من يحمل رسالة عليه أن يقوم بها، ويتحرك بها، ويدرك تبعاتها. لذا فقد كانت الخطوة الأولى للحبيب ﷺ هي القيام بالأمر العظيم، وهو الدعوة، وتطليق الراحة والدعة، وذلك استجابة للأمر الإلهي: (يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلًا) [المزمل: 1 – 2].

وعندما حكى القرآن الكريم عن ذلك الصحب المؤمن، وتجربتهم الدعوية التغييرية، وضّح أنهم قد تحركوا بعقيدتهم إلى عالم الواقع: (إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا) [الكهف: 14].

وكذلك عندما بدأ العبد الصالح تجربته التعليمية التربوية مع موسى ـ عليه السلام ـ انطلق به ومعه وتحركا عمليًا: (فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَرًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) [الكهف: 77].

والداعية عندما يعلم أنه جزء من كل، فهو أحد أعضاء ذلك الركب العظيم، (ركب المرتحلين) الذي يشمل هذا الوجود الكبير. لذا كان عليه أن يفهم معنى ومدى أهمية التوافق والتناغم مع حركة الوجود المطيع والمسبح لربه، ويدرك خطر النشاز.

فالمطلوب منه ليتوافق ولا يشذ شرطان:
أولًا: عليه أن يتوافق عقديًا بأن يتطور ويستزيد ويتحرك، ولا يقف أسيرًا لمرحلة فكرية معينة؛ وذلك من خلال فقه جيد وواع، ليوازن بين ثوابت لا يحيد عنها، ومتغيرات تعطيه حقه من المرونة والحركة والإبداع.
ثانيًا: عليه أن يتوافق عمليًا ويتناسق جسديًا وماديًا، بالحركة والقيام والانطلاق والاختلاط والخروج للناس لنشر رسالته. فلا يكون مثل بعض الناس الذين يُؤْثِرون التصومع والتقوقع والتحوصل بل والتشرنق، سواء في ذلك الفكري العقلي أو المادي الجسدي. وهذا لا ينطبق فقط على الأفراد، بل على الدعوات والجماعات. فالحياة حركة حيوية تتميز بالظاهرة الارتحالية. والوجود ما فيه إلا معبود يُعبد؛ ولا يتغير سبحانه، … وعابد يَعبد؛ يتميز بأنه متغير وارتحالي.

السمة الثانية: الجماعية
وقد أخبر القرآن الكريم عن إرسال رسولين اثنين إلى أهل القرية، ثم عززهما برسول ثالث.
ولقد ورد أنهم أكثر من رسول في أكثر من موضع في السياق، في قوله ـ تعالى ـ:
1 – (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا الْـمُرْسَلُونَ) [يس: 13].
2 – (فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ) [يس: 14].
3 – (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَـمُرْسَلُونَ) [يس: 16].
4 – (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْـمُرْسَلِينَ) [يس: 20].

ومع علمنا بأن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية تبين أنها تبدأ من عقيدة عظيمة في قلب رجل عظيم، ثم يتحرك بعقيدته منتقلًا بها من مرحلة النظرية إلى مرحلة العمل والتطبيق. ويبدأ في عملية التجميع المنظم، فيحرك المجموع حوله، حتى ينتقل بالعمل من الحركة الفردية إلى الحركة السياسية المنظمة.

وهذه الجماعة المنظمة، أو هذا التحرك يقوم على دعامتين:
الدعامة الأولى: الطليعة المؤمنة بالرسالة.
الدعامة الثانية: الرأي العام المناصر.
ثم يبدأ الصراع، أو التدافع الحضاري، بين أصحاب وحملة الرسالة، وبين أعدائها.
ويتحدد مصير الرسالة، أو التغيير الحضاري بناءً على نتيجة هذا الصراع.
وفي هذه القصة ـ ولأمر ما ـ بدأ التحرك بالرسالة الربانية، برسولين قيل إنهما رسل عيسى عليه السلام، وبعض المفسرين رجح أنهما أرسلا من قِبَله ـ سبحانه ـ، ثم قواهما الحق ـ جل وعلا ـ برسول ثالث.

«فهي قرية أرسل الله إليها رسولين، كما أرسل موسى وأخاه هارون ـ عليهما السلام ـ إلى فرعون وملئه، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله برسول ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله، وتقدم ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد: (فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ) [يس: 14]»(3). «ولعل هذا هـو الراجـح؛ لأنه هـو المتفق مع ظاهـر النص القرآني»(4).

وهذا الاستثناء من القاعدة الذي نجد فيه أن التحول والتغيير الحضاري قد بدأ بحركة أكثر من فرد؛ فلقد وضحته الآيات أنه كان للتعضيد والتثبت والتصديق، والتقوية والإعزاز. كما في قوله ـ سبحانه ـ: (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) [يس: 14]. وفي قصة موسى ـ عليه السلام ـ: (وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) [القصص: 34 – 35].

وهذه السمة هي مرتكز يؤكد على أهمية الشرط الكمي لجيل التغيير المنشود؛ أي لا بد من حركة جماعية منظمة تقوم بعملية التغيير.
وتدبر قوله ﷺ: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تهزم اثنا عشر ألفًا من قلة»(5).
والعمل الجماعي وصيته -صلى الله عليه وسلم- لمن أراد النجاة: «فعليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»(6).
والعمل الجماعي طريق إلى الجنة: «ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة»(7).
وللجماعة بركة، ينالها حتى من كان في نيته دَخَن؛ لأنهم: «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»(8).
وتدبر كيف نال كلب أهل الكهف بركة الصحبة الصالحة؛ لأن «من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل الفضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله»(9).

السمة الثالثة: الربانية
ثم يوضح السياق المصدر أو المرجعية التي بدأت منها عملية التغيير. وذلك كما جاء قوله ـ سبحانه ـ في وصف هؤلاء الرسل للدلالة على المشيئة الربانية في تلك العملية: (إذْ أَرْسَلْنَا) [يس: 14]. وأيضًا في وصفهم لأنفسهم، وفهمهم لطبيعتهم: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَـمُرْسَلُونَ) [يس: 16]. إذن فهي طليعة ربانية مرسلة من قبله سبحانه. تقوم على العقيدة الربانية، وهي الإيمان بالله. وتتحرك بناءً على المشيئة الربانية فتقوم بأعظم وظيفة، ألا وهي الدعوة إلى الله عز وجل. تؤمن بأنها تتحرك في أرض الواقع لتحقيق قدر الله في دنيا الناس.
أي أنهم مجرد ستار لقدر الله، ينفذ بهم وعليهم ـ سبحانه ـ سننه الإلهية الكونية والاجتماعية.

وكما علمنا أن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية؛ تبين أنها تبدأ من رسالة عظيمة، في قلب رجل عظيم. إذن فالعقيدة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري.
وسلوك أي فرد، أو جماعة، أو أمة من الأمم إنما يكون بناءً على الفكرة التي تحركهم،
وطبيعة الرسالة هي التي تحدد طبيعة السلوك، إما حسنًا أو سوءًا. وبناء على هذا السلوك الذي يترجم طبيعة الفكرة المحركة يكون الجزاء والمصير في الدنيا والآخرة.

إذن فمجال تقييم أي فرد، أو جماعة أو أمة من الأمم، وكذلك أي مشروع حضاري، يكون بناءً على المرجعية العقدية، أو المنطلق العقدي؛ لأن المنطلق العقدي هو الجانب النظري الذي يحدد السلوك الذي هو الترجمة العملية للمنطلق العقدي، والسلوك العملي هو الذي ينبني عليه المصير والجزاء.
ولذلك نستطيع أن نقول ونؤكد على مدى سمو السلوك البشري، وكذلك مدى رقي أي مشروع حضاري ينطلق من فكرة ربانية، أي قاعدة إيمانية تنبثق من منهج إلهي، من رب الناس إلى الناس؛ لذا فإن من أعظم سمات الطليعة الرائدة المنفذة هي الربانية.

والربانية نعني بها أركانًا ثلاثة:
1 – ربانية الرسالة: أي أن المنطلق العقدي يقوم على قاعدة الإيمان بالله.
2 – ربانية الوسائل: أي ربانية وسمو السلوك.
3 – ربانية الغاية: أي أن يكون الهدف النهائي هو هداية الناس لرب الناس، للفوز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

السمة الرابعة: الجدية في التنفيذ
ولقد جاء في سياق القصة أن عملية التغيير قد بدأت برسولين: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس: 14].
فالرسول الثاني يقوي ويعضد الرسول الأول.
ثم قوى ـ سبحانه ـ هذين الرسولين برسول ثالث، وذلك بعد أن كذب أهل القرية الرسولين: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}.
وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد: {فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: 14].
فما كان من أصحاب القرية إلا أن شككوا في صدقهم، وفي صدق طبيعتهم البشرية، وفي صدق فكرتهم: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
فأعلن الرسل صدق مرجعيتهم الربانية؛ فهم رسل الله جل وعلا، وبينوا صدق فقههم لدورهم، وهو البلاغ: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَـمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبِينُ} [يس: 16 – 17].
فتشاءم أهل القرية منهم وتوقعوا منهم الشر: {قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].
ثم هددوهم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
فما كان من الرسل الكرام إلا أن ردوا عليهم بثقة: {قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 19].
من هذا السياق نستشعر سمة مهمة جدًا تتصف بها الطليعة الربانية، ألا وهي الإصرار على القيام بالأمر الموكول، والجدية في تحقيق الغاية من المهمة.

وهذه الجدية نلمسها من خلال تدبر جانبين أو أمرين:
الأمر الأول: دور المشيئة الإلهية في جدية إتمام المهمة، من حيث إرسال رسولين، ثم تقويتهما برسول ثالث.
الأمر الثاني: نستشعرها من خلال دور وسلوك الرسل الكرام، وجدية أخذهم بمهـمة الدعـوة إلى الله ـ عز وجل ـ رغم كل العوائق التي واجهتهم، فكلما ظهرت عقبة، مثل التكذيب، أو التشكيك، أو التهديد ولو بالقتل، نجد أن هناك حلولًا وردودًا مقنعة ومفحمة تبين مدى الإصرار على إنجاز المهمة الربانية الشريفة.

وهذا التعاضد بين الدور الإلهي والدور البشري، في تحقيق أي عمل، يكون على أساس قاعدة الجزاء من جنس العمل، وهي القاعدة التي تربط بين نوع وطبيعة مصير الفرد أو الجماعة بناءً على طبيعة ونوع العمل الذي يؤدونه. فالهداية الإلهية لا تكون إلا لمن جد في طلب الهداية والعمل لها، وتدبر هذا الحديث القدسي: «يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم»(10).
وكذلك أمر الجدية.
وتدبر هذه الجدية، عندما وجد الحق ـ سبحانه ـ يحيى ـ عليه السلام ـ يعد نفسه بجدية منذ نعومة أظافره، ويقول لأقرانه من الصبيان الذين دعوه للعب: ما للعب قد خلقنا! فأنعم الله عليه بنعمة الفهم لكتابه ـ سبحانه ـ وهو التوراة، وهو لـمَّا يزل بعدُ صغيرًا.
ثم أمره أن يواصل المسيرة ويأخذ الأمر بالجد والاجتهاد، والإصرار: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْـحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12].
«فإن كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل.
وما تفاوتت منازل الخلق عند الله ـ تعالى ـ في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين؛ وهما اللذان أثنى الله بهمـا ـ سبحانـه ـ على أنبيائه ـ عليهم الصـلاة والسلام ـ في قوله ـ تعالى ـ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45].
فالأيدي: القوة في التنفيذ. والأبصار: البصائر في الدين. فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه»(11).

وقد علَّم الحق ـ سبحانه ـ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكل داعية يأتي من بعده أن هذا المنهج آخر حكم عدل، وأنه جد وحق: {إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13 – 14].
وإنه لدرس لكل من أراد أن يكمل المسيرة، ويشارك الطليعة المؤمنة في همومها، وعبئها، أن يدرك مدى جدية المنهج، وجدية الطريق، وجدية التبعة. وإنه لدرس عظيم أن ندرك قاعدة الجزاء من جنس العمل.

السمة الخامسة: فهم الدور الموكول، وهو البلاغ المبين
وتحكي القصة أن الرسل الكرام عندما واجههم أهل القرية المكذبين الرافضين للفكرة؛ حيث: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
فكان ردهم الواثق الهادئ: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَـمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبِينُ} [يس: 16 – 17].

أي إن تكذبونا فليس هذا ينقص من الأمر شيئًا فيكفي أن الله ـ عز وجل ـ يعرفنا، ويعرف مهمتنا، وكذلك إن تكذبونا، فلن نحاسب على استجابتكم، بل سيحاسبنا الله ـ عز وجل ـ على المهمة التي حمَّلنا إياها، وهي البلاغ، والبلاغ المبين الواضح الجلي.

فإلى هنا نكون قد أعذرنا إلى الله عز وجل، وبلغناكم الرسالة: {وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبِينُ}.
ومن خلال رد الرسل الكرام ندرك سمة مهمة أخرى من سمات أي طليعة مؤمنة، وهي فقه المهمة وفقه الدور المطلوب. وهذه المهمة هي البلاغ، التي هي مهمة رسله ـ سبحانه ـ وأنبيائه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبِينُ} [النحل: 35].

والبلاغ لا بد أن يكون مبينًا واضحًا جليًا لا غموض فيه، كما جاء على لسان الرسل الكرام: {وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبِينُ}. وهذه المهمة يأتي التأكيد عليها دومًا، عند وصول الرسالة إلى طريق مسدود، كما جاء في سياق القصة.

وكما أخبر ربنا على لسان صالح ـ عليه السلام ـ عندما كذبه قومه، وعقروا الناقـة، ثم أخذتهـم الرجفـة المهلكة، فأعلن ـ عليه السلام ـ أنه قد أدى ما عليه، فبلغ رسالة ربه: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِـحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إن كُنتَ مِنَ الْـمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 76 – 79].

وحتى نعي خطورة هذه السمة، ألا وهي الدور البشري، في تحقيق أي أمر، لا بد أن نوضح قاعدة مهمة، وهي أن ركيزتي تحقيق أي عمل أو أي إنجاز ـ سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى الجماعي، بل حتى في مجال التغيير الحضاري، وكل التحولات الاجتماعية ـ هما الترجمة الواقعية للآية الكريمة: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

فالعابد يعبده ـ سبحانه ـ فيقوم بوظيفته المناطة به، وهي العبودية لله ـ عز وجل ـ ثم يطلب الهداية والعون من المعبود سبحانه؛ لأن العبد دومًا في فقر وحاجة إلى الرشد وإلى الإعانة في كل سكناته، ولا يهدي إلى الخير، ولا يعين عليه إلا الحق سبحانه.

والمعبود ـ سبحانه ـ يرشد ويهدي ويعين ويوفق هذا العابد للقيام بأمر العبودية؛ لذا فإن أي عملية تحول حضاري ـ كما تدبرنا الآية الكريمة السابقة، وكما نتأمل في هذه التجربة الدعوية ـ تقوم على ركيزتين أساسيتين:
القاعدة الأولى: الدور الإلهي.
وتلك هي الإرادة أو المشيئة الإلهية في عملية التغيير، أو هو قَدَر الحق سبحانه.
وهذه هي أولى القواعد المهمة في عملية التغيير الحضاري، وهو الدور الإلهي، أو دور القدرة الإلهية في تحقيق العمل.
وفي القصة التي بين أيدينا نجد أن هذا الدور يترجم في إرادة الحق ـ سبحانه ـ في عملية التحول الاجتماعي؛ حيث أرسل الرسل الثلاثة إلى القرية.

القاعدة الثانية: الدور البشري.
وهو الفاعلية أو الحركة الإيجابية البشرية، التزامًا بأمر الله عز وجل.
حيث نجد أن هؤلاء الرسل الكرام، أو تلك الطليعة المؤمنة، قد تحركت بفكرتها الربانية، وذلك بعد صياغتها إيمانيًا، وعلى أساس التربية الربانية على الفكرة الربانية. تحركوا لمهمة أو دور عظيم، ألا وهو البلاغ، أو الدعوة إلى الله عز وجل. وكأن حركتهم ومشيئتهم دائرة صغرى، داخل دائرة كبرى هي المشيئة الإلهية.

فتدبر دور قدر الله ـ سبحانه ـ في ناموسية التغيير التاريخي، والتحول الحضاري، وهو دور لا يلغي دور البشر بل يتوافق ويتناغم معه. وهو ملمح تربوي يعطي الداعية ثقة في فاعليته وفي طريقه ثم في غايته. فإن كان له مشيئة يتحرك من خلالها في حرية؛ فإنما هي تحت رعاية المشيئة الإلهية. ووجود إحداهما لا تلغي وجود الأخرى.

إذن فهنالك رعاية وحفظ وقوة تجري به وعليه أقدار الله وسننه في الأنفس والآفاق.
والمشيئة البشرية تدعوه للعمل والفاعلية والذاتية في التحرك، والأخذ بكل الأسباب، حتى يؤدي مهمته البلاغية، المبنية الواضحة.
والمشيئة الإلهية تدعوه، إن أتت النتائج على نحو ما قدر لها فليرضَ وليفرح، وإن لم تأت على نحو ما خطط لها، فلا يعجز ولا يحزن وليصبر، ثم ليبحث عن أسباب الخلل!

السمة السادسة: فهم طبيعة الطريق
فقد أوضحت تلك التجربة الدعوية، كغيرها من التجارب الدعوية على مر تاريخ الحركة الإسلامية، أن الصراع مع الباطل، والصدام مع مكذبي الفكرة أمر حتمي: {الـم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذِبِينَ} [العنكبوت: 1 – 3].
وتدبر التعقيبات القرآنية على مصيبة أُحُد: {مَا كَأنَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَأنَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179].

أي أن الله ـ عز وجل ـ شاء أن يميز بين الخبيث والطيب على أرض الواقع، وذلك بالاختبار والتمحيص، وهؤلاء الرسل في تجربتهم، قد تعرضوا لأنواع من الأذى والابتلاء، مثل:
1- التكذيب: في كلتا الحالتين: حينما كانا اثنين: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} [يس: 14]. وحينما كانوا ثلاثة: {إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
2- التشكيك: وذلك من خلال رؤية جاهلية ساذجة، وحجة غريبة، أن رسل الله لا يمكن أن يكونوا بشرًا: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
وغاب عنهم أن الجانب العملي في أي دعوة، وهو سلوك الداعية، لا بد أن يكون ترجمة صادقة للجانب النظري في تلك الدعوة، وهي الفكرة المحركة.
ونسوا أيضًا أن السلوك إذا كان غير مرتبط بالفكرة، أي إذا كان العمل غير موافق للقول؛ فهو أمر قد ذمه الحق ـ سبحانه ـ في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 – 3].

«والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي، النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به، وهم بشر. فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجًا من الحياة يملكون أن يقلدوه، ومن ثَمَّ كانت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- معروضة لأنظار أمته»(12).

3 ـ التطير والتشاؤم بالرسل: فهم مصدر الشر، وعدم النفع، والأذى: {قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].
4 ـ التهديد بالرجم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس: 18].
5 ـ التهديد بالتعذيب والقتل: {وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَأبٌ أَلِيمٌ} [يس: 18].

فكان من فقه هؤلاء الرسل الكرام لطبيعة الطريق؛ أنهم لم يفاجَؤوا بهذا الابتلاء المتعدد الصور، وكان ردهم: {قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 19].
أي هذا التشاؤم إنما يأتي من داخلكم، وبناء على تصوراتكم، فلا تقذفوا غيركم بخرافة من صنعكم ومن بنات أفكاركم؟
ولم َتكذبونا وتهددونا بالرجم والتعذيب والقتل؛ أفهذا جزاء من أراد بكم خيرًا فوعظوكم، وذكروكم بالله عز وجل، وبينوا لكم سبل النجاة في الدارين؟

بل أنتم الذين أسرفتم وتجاوزتم التفكير السوي، ورفضتم سبل النجاة! فتحملوا وزر موقفكم الشاذ، وانتظروا العاقبة منه ـ سبحانه ـ.

وفقه طبيعة الطريق هي سمة لازمة بل أساسية لكل طليعة رائدة، وذلك من شأنه أن يقي الصف من التساقطات، ومن الانتكاسات وظواهر النكول والنكوص.
وكل طليعة مؤمنة تدرك أن لها خيارين، لخّصهما سيد قطب – رحمه الله -:

فإما إلى النصر فوق الأنام .. وإما إلى الله في الخالدين

السمة السابعة: الثبات
ويبين سياق القصة، من خلال موقف الرسل الكرام وردهم على أصحاب القرية، معلمًا آخر أو سمة أخرى من سماتهم، وهي الثبات على الحق.
وهذه السمة تعدُّ محصلة أو جماع ونتيجة لكل السمات السابقة التي وضحتها الآيات، فما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم ربانيين يثقون في مرجعيتهم وفي مصدر فكرتهم.
وما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم جماعة تتعاضد ويساند بعضها بعضًا، وما كان لهذا الثبات أن يأتي إلا من خلال جديتهم في حمل الأمانة، ومن خلال فهمهم لدورهم الموكول، وهو حمل تلك الأمانة وتبليغها للناس، ومن خلال فهمهم للطريق واحتمالات النتائج.

ولا يقدر على الثبات إلا ذوو الطبيعة الإيجابية، والثبات على الحق سمة كل أصحاب الدعوات، حيث تبرز هذه الصفة جلية في سيرتهم.
وتدبر ثباته ﷺ وهو يعلن: «ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك؛ على أن تشعلوا لي منها شعلة»(13) ـ يعني الشمس ـ.

وتأمل ثبات أخيه هود ـ عليه السلام ـ وهو يواجه قومه، «في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة: {إن نَّقُولُ إلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ * إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَأبَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 54 – 57]، إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلًا أمام هذا المشهد الباهر. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم»(14).

والثبات على الحق في الحياة الدنيا، وفي القبر، وفي الدار الآخرة، نعمة ربانية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّأبِتِ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِـمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

وهو الرصيد الذي لا يضيع، وهو الزاد الذي لا ينضب، الذي يرثه اللاحقون ـ من أجيال الدعاة، وأصحاب الدعوات ـ من السابقين لهم على الطريق، الذين لم يبدلوا تبديلًا. وهو المنارة التي على ضوئها يهتدي كل شارد.

السمة الثامنة: الاهتمام بنشر الدعوة
ومن خلال تدبر آيات الجولة الثانية في القصة، والتي تبين المواجهة بين الرجل المؤمن وقومه، يمكننا أن نستشعر بعض السمات الأخرى للطليعة المؤمنة.
فلقد أورد السياق أن الرجل المؤمن قد تحرك {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْـمَدِينَةِ} [يس: 20]. وهي اللمحة القرآنية التربوية الطيبة التي تهمنا في قضيتنا أو موضوعنا، وهي البحث في سمات الدعامة الأولى في عملية التغيير الحضاري، أو هي صفات الطليعة الفاعلة.

والتي نستشف منها أن هؤلاء الدعاة الربانيين، وهم الرسل الذين أرسلهم الحق ـ سبحانه ـ إلى أصحاب القرية، قد نجحوا في عرض قضيتهم، فاستعصت على محاولات التحجيم والتغييب، وكسرت طوق التعتيم والتجهيل والعزل، واتسعت دائرتها، وأصبحت حديث الشارع، حتى وصلت إلى أقصى مكان بالمدينة.

وهذه سمة مهمة جدًا، يتبين منها صورة من صور النصر، الا وهي النجاح في المهمة الموكولة، وهي البلاغ. وتبين نجاح الرسل في نشر الفكرة في كل مكان مستطاع، وعدم الركون أو الهزيمة أمام ضغط الواقع، وأمام صعوبة العوائق.

السمة التاسعة: الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس
وتبين القصة، في بداية آيات الجولة الثانية، أن الخير قد أتى من حيث لم يُتوقع، وأن الله ـ عز وجل ـ قد سرّى عن هؤلاء الرسل عندما تعرضت فكرتهم للحصار، وتعرضوا للتكذيب والتهديد، فجاء الفرج: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْـمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْـمُرْسَلِينَ} [يس: 20].

وهي لمسة تسرية ربانية تعطي الأمل لهؤلاء الرسل، فتقول لهم لقد أديتم مهمتكم، ونجحتم في حسن عرض القضية وتقديمها، وبيان عدالتها، فتفاعل الشارع معكم ممثلًا في تحرك هذا الرجل المؤمن، حتى لو كان فردًا، وفردًا واحدًا، متفاعلًا مع عدالة قضيتكم وصدقها.
بل يتحمل خطورة عرض دفاعه ورأيه، حتى لو أدى ذلك إلى استشهاده في سبيل موقفه المناصر.
وهي القضية التي ننظر إليها بمنظار آخر، وهي سمة عظيمة يجب أن تتصف بها كل طليعة مؤمنة، الا وهي الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس؛ وذلك من أجل هدف نهائي، هو إيجاد قاعدة جماهيرية تناصرها وتحميها.

وتدبر كيف أن الحق ـ سبحانه ـ قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها إلى الناس، كل الناس، على مختلف فئاتهم وأجناسهم والوانهم، لتقودهم إلى خيري الدنيا والآخرة، أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وذلك بعد إعادة صياغتها عقديًا، لتنطلق من قاعدة إيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

فكان سلوكه ﷺ في كل مراحل الدعوة، هو الالتزام بجانبين مهمين، هما:
1 – تربية قاعدة صلبة تقود التغيير.
2 – تكوين الرأي العام المناصر للفكرة، والمؤيد للداعية.

وعدم الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس، كل الناس، من أجل تكوين تلك القاعدة الجماهيرية، حتى إن تواضع عددها تحول الطليعة المؤمنة إلى حركة نخبوية، فتؤدي إلى عملية عزل بينها وبين جماهير الأمة، فيؤدي إلى سهولة عمليات إجهاضها. وتكون المحصلة النهائية هي تعرضها إلى عملية وأد مقنعة.

السمة العاشرة: العفة والنزاهة
وعندما جاء صاحب يس المؤمن إلى مسرح الأحداث، وصف هؤلاء الدعاة بصفتين أو سمتين بارزتين، لا يختلف عليهما اثنان، وهما أخطر صفتين؛ لأنهما جاءتا على لسان الآخر، وكذلك لم ينكرهما أصحاب القرية، والتي جعلت الرجل المؤمن يبني على أساسهما أن هؤلاء الدعاة صادقون، وبعيدون عن مواطن الشبهات أو مواضع الاتهام، وكانتا من أقوى حججه في أثناء حواره مع قومه المكذبين.

وأول هاتين الصفتين نلمحها من قوله: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس:21]؛ أي اتبعوا هؤلاء الكرام الذين لم يتكسبوا بفكرتهم، ولم يطلبوا أجرًا نظير وعظهم، ولم يتعيشوا بدعوتهم. الا ترون من لا يسعى إلى مغنم، ولم يطمع في أجر، وتنزه عما بأيديكم؛ الا يدل ذلك على صدقه؟

وهي السمة التي يتميز بها أصحاب الدعوات. وتأمل كيف أنكر الحق ـ سبحانه ـ على مشركي مكة موقفهم من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي لم يطلب أجرًا يثقل كاهلهم، فيدفعهم إلى التكذيب: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40].
وهو الرد نفسه من نوح ـ عليه السلام ـ على قومه المكذبين: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود: 29].
وهو أيضًا الاستنكار نفسه من هود ـ عليه السلام ـ على موقف عاد: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود: 51].

والترفع عما بأيدي الناس، أو العفة والنزاهة، هي سمة بارزة لكل طليعة مؤمنة، وهذه السمة هي سبيل الكرامة والاحترام، ومن مسوغات قبول الناس للفكرة، وسبب أساس لكسب حبهم، كما قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: «لا تزال كريمًا على الناس ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك».

السمة الحادية عشرة: حسن السيرة والسلوك
أما الصفة الثانية التي لاحظها الرجل المؤمن؛ فهي أن هؤلاء الرسل: {مُّهْتَدُونَ} [يس:21].
أي أن السمة الأخرى التي جعلت الرجل المؤمن يتحرك، ويخاطر بنفسه، ويدافع عن هؤلاء الدعاة، هي أن هؤلاء الرسل يتميزون بالصلاح والهداية، ولا يشين سلوكهم أي شائبة أخلاقية تقدح في صدقهم.
وقيل إن وصفه لهم بتلك السمة؛ هي الصفة التي عرف منها قومه أنه على دينهم، وأنه يدرك الفرق بين الهداية والضلال، ويميز بين المهتدي والضال، فرجموه بسببها(15).

وتأمل موقف السجينين عندما احتاجًا لتأويل رؤياهما، فما كان منهما إلا أن قصدا يوسف عليه السلام، وذكرا سبب ثقتهما فيه ـ عليه السلام ـ؛ أن سلوكه كان طيبًا، حتى وهو في داخل السجن، فنطقا مقرَّيْن: {إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْـمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36].
وإنه لدرس عظيم لكل طليعة مؤمنة أن تري ربها ـ عز وجل ـ منها كل قوة وخير، ثم تري المؤمنين من حولها بل كل الناس كل خير وسلوك حسن؛ حتى تنطق الالسنُ فيهم بالذكر الحسن.
وإنها لسمة راقية بارزة أن يتحدث بها الآخر! {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِـمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
وقد ورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: «إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم؛ فقل: اعلموا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون» (16).

————————
انتهى الجزء (1) من المقال، ويليه الجزء (2) والأخير إن شاء الله تعالى.
(1) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 2/ 130.
(2) الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي، بتصرف.
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، 23 / 2961.
(4) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3 / 238.
(5) صحيح الجامع، الالباني، 3278.
(6) سنن أحمد بن شعيب النسائي، 2 / 107.
(7) سنن الترمذي، حسن صحيح غريب، 2254.
(8) متفق عليه.
(9) تفسير القرطبي، 6 / 47، نقلًا عن: مسافر في قطار الدعوة، الدكتور عادل الشويخ، 347.
(10) رواه مسلم.
(11) الجواب الكافي لمن سال عن الدواء الشافي، ابن القيم، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 146 ـ 147.
(12) في ظلال القرآن، سيد قطب، 23/ 2961.
(13) أخرجه الالباني في السلسلة الصحيحة، رقم 92، وإسناده حسن.
(14) في ظلال القرآن، سيد قطب، 12 / 1905.
(15) تفسير الجلالين.
(16) رواه البخاري.

اترك تعليقا