كان له في كل خُطوة نية  – د. محمد حامد عليوة

كان له في كل خُطوة نية  – د. محمد حامد عليوة

وصف الخليفة هشام بن عبد الملك بن عمه الخليفة عمر بن عبد العزيز يوماً فقال: «ما أحسب عمر خطا خطوة قط إلا وله فيها نية». سيرة عمر لـ ابن عبد الحكم 30 / 29.

إنها النية، روح الأعمال، وأساس صلاحها، وسبب قبولها، وحصول الأجر عليها. كما قال النبي : «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (رواه البخاري  ومسلم).

والنِّيَّة -بكسر النون والتَّشديد- والجمع نيَّات: هي القصد، وهو عزْم القلب على الشيءِ، وعقْد القلب على إيجاد الفعل جزمًا.(1) ولأنها عمل القلب، فهي تنفع النَّاوي، وإن لم يعمل الأعمال، وأداؤها (أي الأعمال) لا ينفعه دونَها.

روى الإمام مسلمٌ من حديث أبي موسى الأشعريِّ: أنَّ رجلاً أتى النبي فقال: يا رسولَ الله، الرَّجل يُقاتل للمغنم، والرَّجل يُقاتل ليُذكَر، والرَّجل يُقاتل ليُرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟ فقال رسول الله : «مَن قاتل لِتَكونَ كَلمةُ اللَّهِ أَعْلَى فهو في سبيلِ اللَّهِ».

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «النية قصد فعل الشيء، فكل عازم على فعل فهو ناويه، لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها، فلا يمكن عدمها في حال وجودها، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة، ولا يكاد العاقل يفعل شيئًا من العبادات ولا غيرها بغير نية، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل.».(2) 

والنية نوعان:
أولًا: نية مفروضة، ولا تصح العبادة إلا بها، كالنية في الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج، وهذه النية لا يكاد يغفل عنها أحد.

ثانياً: نية مستحبة، لتحصيل الأجر والثواب، وهذه التي يغفل عنها بعض الناس، وهي استحضار النية في المباحات، لتكون طاعاتٍ وقربات، كأن يأكل ويشرب وينام بنية التقوي على الطاعة، كما قال : «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ» (رواه البخاري).

تناظر يوماً ابو موسى الأشعري و معاذ بن جبل – رضي الله عنهما – في قيام الليل، فقال أبو موسى: «أنا أقوم أول الليل و أنام آخره». فقال معاذ رضي الله عنه: «أما أنا فأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» (رواه البخاري). فكان رضي الله عنه يحتسب الأجر في النوم، كما يحتسبه في قيام الليل، لأنه أراد بالنوم التقوّي على العبادة والطاعة. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح تعقيباً على كلام سيدنا معاذ: «ومعناه أنه يطلب الثواب في الراحة كما يطلبه في التعب ؛ لأن الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة حصلت الثواب».

فضل تعدد النيات:
ومن أفضل ما كُتب فى بيان ذلك، ما ورد عن الإمام أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين، فقد ذكر رحمه الله تعالى: «الطَّاعَاتُ.. مُرْتَبِطَةٌ بِالنِّيَّاتِ فِي أَصْلِ صِحَّتِهَا، وَفِي تَضَاعُفِ فَضْلِهَا. أَمَّا الْأَصْلُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ، فَإِنْ نَوَى الرِّيَاءَ صَارَتْ مَعْصِيَةً. وَأَمَّا تَضَاعُفُ الْفَضْلِ فَبِكَثْرَةِ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ الْوَاحِدَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً، فَيَكُونُ لَهُ بِكُلِّ نِيَّةٍ ثَوَابٌ إِذْ كل واحدة منها حسنة ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها كما ورد به الخبر.

وَمِثَالُهُ: الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ طَاعَةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ فِيهِ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً حَتَّى يَصِيرَ من فضائل أعمال المتقين، ويبلغ به درجات المقربين:
* أَوَّلُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ، وَأَنَّ داخله زائر الله فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعده به رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ قال: «من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى وحق على المزور أن يكرم زائره».
* وثانيها: أَنْ يَنْتَظِرَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
* وثالثها: التَّرَهُّبُ بِكَفِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَعْضَاءِ عَنِ الْحَرَكَاتِ والترددات، فإن الاعتكاف كف، وهو في معنى الصوم وهو نوع ترهب.
* ورابعها: عُكُوفُ الْهَمِّ عَلَى اللَّهِ، وَلُزُومُ السِّرِّ لِلْفِكْرِ فِي الْآخِرَةِ، وَدَفْعُ الشَّوَاغِلِ الصَّارِفَةِ عَنْهُ بِالِاعْتِزَالِ إلى المسجد.
* وخامسها: التَّجَرُّدُ لِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ لِاسْتِمَاعِ ذِكْرِهِ وَلِلتَّذَكُّرِ به.
* وسادسها: أَنْ يَقْصِدَ إِفَادَةَ الْعِلْمِ بِأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، إِذِ الْمَسْجِدُ لَا يَخْلُو عَمَّنْ يسئ في صلاته أو يتعاطى مالا يَحِلُّ لَهُ.
* وسابعها: أَنْ يَسْتَفِيدَ أَخًا فِي اللَّهِ. وثامنها: أَنْ يَتْرُكَ الذُّنُوبَ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَيَاءً مِنْ أَنْ يَتَعَاطَى فِي بَيْتِ اللَّهِ ما يقتضي هتك الحرمة. فَهَذَا طَرِيقُ تَكْثِيرِ النِّيَّاتِ، وَقِسْ بِهِ سَائِرَ الطاعات والمباحات، إِذْ مَا مِنْ طَاعَةٍ إِلَّا وَتَحْتَمِلُ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً، وَإِنَّمَا تَحْضُرُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِقَدْرِ جدِّهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، وَتَشَمُّرِهِ لَهُ، وتفكره فيه، فبهذا تزكوا الْأَعْمَالُ وَتَتَضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ». (3)

جدد نيتك دائمًا فإنها تبلى
سواء فى بداية العمل أو أثناء العمل أو بعده، لابد من تعهد القلب حتى يظل مقصود العمل خالصًا لله تبارك وتعالى. والنية كالثوب قد يبلى مع الزمن، فمع مرور الوقت وتحول الظروف وتغير البيئات وبروز بعض الشبهات والشهوات وتربص الشيطان بأعمالنا؛ قد تضعف النية الخالصة أو تنحرف قليلًا عن مقصدها، أو يشوبها قدر من كدر، من هنا لزم إستحضارها وتجديدها دومًا.

تعهدها.. وجددها.. واشعر بلذة العمل ونقائه معها.. لا تتركها للزمن، ولا تغفل عنها بحجة أنها قائمة وموجودة، فقد يكون ذلك من أبواب إضعافها أو انحرافها، احرص على أن تبقى نيتك كما هي أول مرة، (صافية زاهية .. نقية بهية .. خالصة دافعة .. يحيا بها قلبك، ويصح بها سيرك، ويتحقق بها قربك، وتنال بها أجرك).

وختامًا: لا بد من النية وحسن القصد، والإخلاص في كل أقوالنا وأعمالنا، فنقصد بها وجه الله وابتغاء مرضاته، وحسن مثوبته، من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر. ولأهمية النية والإخلاص فيها، وعُسر تنقية القلب من الشوائب والرغائب أحيانًا، يجعل الإخلاص عزيزًا شديدًا على النفس، لأن النفس ليس لها مع العمل الخالص حظ ولا نصيب، ولذلك قال أبو سليمان: «طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى».

ومع الاخلاص يأتي العمل، فلا نقف عاجزين أمام حالة الإنحراف عن المنهج التى أصابة قطاعًا من أمتنا، وأن نجتهد في إصلاح ما فسد، كما فعل عمر بن عبد العزيز، الذي استطاع في أقل من سنتين تقويم إعوجاج جيلين ممن سبقوه، فالتحم عصره مع قصره بعصر الخلفاء الراشدين.

ومع الإخلاص: (تتنزل البركات، وتعم الخيرات، وتتحسن العلاقات، وتقال العثرات، وتتحقق الفتوحات، وننال من الله الرحمات)، ورحم الله الإمام ابن الجوزي حين قال: «إنما يتعثر من لم يُخلص».

——————-
(1) المصدر: معجم لغة الفقهاء، مادة (النية).
(2) (إغاثة اللهفان، الجزء الأول، ص 137).
(3) (إحياء علوم الدين – الجزء الرابع ص 370-371).

اترك تعليقا