كل زاد غير زاد الله ينفد  – د. محمد حامد عليوة

كل زاد غير زاد الله ينفد  د. محمد حامد عليوة

إلى الذين آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم، الذين ينطلقون من هذا الإيمان إلى كل ميدان، يبذلون ويُضحون من أجل دعوتهم، بالنفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل عزها ورفعتها، أقول لهم: (لا تضيع في سبيل دعوة الحق تضحية).

إلى الصادقين في الانتساب لدعوتهم، الثابتين على مبادئهم، القابضين على الجمر من أجل رفعة دينهم وإصلاح مجتمعاتهم والنهوض بأمتهم، – بل وإسعاد الإنسانية كلها – أقول لهم: (كل زاد غير زاد الله ينفد، وكل قوة غير قوة الله تضعف، وكل سند غير سند الله ينهار).

أيها الأحبة: التربية تلقى وعطاء، كما أنها زاد وحركة، ولنا في (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)، و(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، أوضح البيان وأصدق الدليل. وعمليًا  فقد ربى النبي محمد أصحابه فكانوا (رهبانًا بالليل فرسًا بالنهار). وقد أوصى الإمام حسن البنا إخوانه بذلك يوماً فقال – رحمه الله -: «يا أخي: اجتهد ما استطعت أن تغترف من ذخائر الليل ما توزعه على إخوانك بالنهار».

و هكذا يجب أن نكون، نتزود لنتحرك، وننهل لنفيض، ونمتلك لنعطي، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ومن تحرك كثيرًا مع قلة الزاد سرعان ما يتوقف ويتعطل، وربما أهلك نفسه، وأفسد فيمن حوله.

فاجعلوا لكم من الزاد الايماني ما يجعلكم تثبتون على دعوتكم وتصمدون أمام أعدائكم، ومن صور هذا الزاد: (الذكر – الدعاء – قيام الليل – التهجد – التلاوة – التفكر – الاستغفار- والصيام – وغيرها من عبادات القلب وعبادات الجوارح). لأن التربية الروحية، وترسيخ العقائد في القلوب، وتركيز المشاعر في النفوس، لها ما بعدها من آثار وثمارعلى الفرد والجماعة.

ومع هذا الزاد الإيماني والعبادي أدعوكم أيها الأحبة أن (توجهوا قلوبكم بصدق إلى الله وحده)، وأن تعلقوا القلوب بمولاكم، وخير وصية في هذا الباب ما وصى به الإمام حسن البنا إخوانه يوماً حين قال لهم: «ولئن كانت لى وصية أوصيكم بها، فإن أولى وصياتى لكم أيها الأحبة الأعزة، أن يصدق توجه قلوبكم إلى الله وحده، وأن تشرق أرواحكم بمعرفته، وتمتلئ قلوبكم بخشيته، وتأنس أنفسكم بجمال اليقين وعظيم الثقة به، ودوام مراقبته فى كل قول وعمل، وأن تستقيموا على أمره، وتلتزموا حدوده وأحكامه، فذلك رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، وشتان ما بين قلب خاو لايتصل بالله فى شيء، وبين قلب استنار بأضواء الإيمان، وأشرق بشمس اليقين.» (1)

وطالما ارتبطت قلوبكم بمولاكم، وتوجهت بصدق نحو ربكم، فلا تطلبوا إلا منه، ولا ترجوا إلا سواه، فهو وليكم وعونكم وسندكم.

واعلموا أيها الأحبة: أنه إذا ضاقت بنا السبل، وانقطعت بنا الحيل، فليس لنا غير باب الله، وليس أمامنا إلا تعميق الصلة بالله، والاستعانة به لا بسواه، فهو الذي يكشف الكرب ويدفع الضر. (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ . قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) الأنعام: 63 – 64

واعلموا أيها الأحبة (علم اليقين): أن لهذا الكون ملك يُدبر أمره، وإله يُصرف شئونه، وأنه لا يقع في ملكه سبحانه إلا ما يعلم ويريد.
ورغم قتامة المشهد، وضيق المخرج، وتكالب الباطل، وبلوغ القلوب الحناجر، لا تفقدوا الأمل في مولاكم (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62))، سورة النمل.
ونوقن أيضاً، أن يد الله تبارك وتعالى تعمل، وما علينا إلا أن نسترها بالجهد، لنحظى بالتأييد وننال الأجر.

واعلموا أعزكم الله: أن عقبات الطريق وفتنه ومنعطفاته، هي من طبيعته ومعالمه، وقد جعلها الله على الطريق ليميز الله الخبيث من الطيب، ولتربية الصف حتى يَقوى عوده ويشتد ساعده، ولتظهر معادن الناس وتتجلى الرجولة الصحيحة التي تستحق النصر. ولنتأمل قول ابن عطاء الله السكندري -رحمه الله-: «لا يكن تأخير العطاء مع الالحاح في الدعاء موجبا لليأس، فالله تعالى يضمن لك الاجابة فيما يختاره هو سبحانه لك، لا فيما تختاره انت لنفسك، وفي الوقت الذي يريده هو سبحانه لا الوقت الذي تريده انت، فلعل الله اراد ان يعطيك فحرمك».

واعلموا أيها الأحبة: أن التضحيات معراج الدعوات، فلا تقلقوا على دعوة الحق، فلها رب يحميها، وبالفتن والمحن يمحصها وينقيها. وكلما كثرت التضحيات اقتربت الأمنيات.
وما علينا في هذه الأوقات بعد الصبر والثبات وتعلق القلوب برب الأرض والسموات إلا: (إستفراغ الوسع وبذل الطاقات، والتوجه للمولى بخالص الدعوات، أن يجمع على الحق القلوب والكلمات، وأن يفرج كرب دعوتنا، ويفك أسر أحبتنا، ويجمع شمل أمتنا، إنه مجيب الدعوات).

وما بين عشية وضحاها إلا وقد تغيرت الأحوال، وتحققت الآمال، وانكشفت عن الأمة الغمة، وخرج الأحبة من البلاء أنقياء خروج السيف من الجِلاء، وعادت راية الحق والخير تظل الناس. ولنا في سنن الدعوات وحوادث التاريخ العبر. (وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَرِيبًا)، سورة الإسراء 51 (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) سورة الروم 4-5.
والحمد لله رب العالمين

———————————-
(1) المصدر: من توجيه للإمام حسن البنا، بعنوان (بعد فترة.)، نُشر في جريدة (الإخوان المسلمون)، العدد (22)، بتاريخ 24 شوال 1362 هـ – الموافق 23 أكتوبر 1943م.

اترك تعليقا