ماذا يعني انتماء بيتي للدعوة؟ (1) – بقلم: الأستاذ محمد عبده(*)
أساس الانطلاق والحركة وأداء الحقوق والواجبات هو صدق التوجه إلى الله تعالى ومتانة العلاقة والصلة معه سبحانه، فالله هو الموفق والهادي إلى كل خير. ومهما حاول الإنسان أن يُعطي حق دعوته وهو ضعيف الصلة بالله فلن ينجح، وستبوء محاولاته بالفشل، ولن يُنتج في ميدان؛ ذلك أن فاقد الشيء لا يُعطيه، وماذا عساه أن يُعطي مَن فقد المدد بقطع الصلة مع الإله؟
لذا فإن البيت إذا أراد أن ينجح في رسالته الدعوية، ويؤدي واجبات دعوته، كان عليه أن يُصبَغ بالربانية، وأن يُحقق فيها مراد الله بالالتزام بالطاعات، وهجر المعاصي والسيئات، وأن يُصبح البيت عامرًا بالإيمان، مطهَّرًا من رجس الشيطان، عامرًا بالصلاة والذكر والقرآن، تُحيط أكنافَهُ الملائكةُ، تسمع القرآن هنا، وتُحلِّق في حلق الذكر هناك. موصولًا بالسماء، تحضره الملائكة، تشهد الخير والذكر، وتصعد بهما إلى السماء، تُخاطب به ذا الجلال والإكرام بحال أهل ذلك البيت.
ربانية الدعوة وضرورة ربانية البيت تنطلق من ربانية الدعوة التي آمن بها الزوجان واتبعا فكرها، فربانية البيت مطلب يكتمل به صدق الانتماء للدعوة، يقول الإمام الشهيد: «أما أنها ربانية فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعًا أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانيةً كريمةً تسمو بأنفسهم عن جمود المادة الصمَّاء وجحودها إلى طُهر الإنسانية الفاضلة وجمالها، ونحن الإخوان المسلمين نهتف من كل قلوبنا: (الله غايتنا)، فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكَّر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله- تبارك وتعالى- والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾(البقرة)، وهذا في الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانية التي أوصدها الجمود والمادية في وجوه البشر جميعًا، فلم يستطيعوا إلى حلِّها سبيلًا، وبغير هذا المفتاح فلا إصلاح» (رسالة: دعوتنا في طور جديد).
التعاون على الإيمان يقول الإمام البنا رحمه الله: «لقد سمعوا المنادي يُنادي للإيمان أن آمنوا، ونحن نرجو أن يُحبِّبَ الله إلينا هذا الإيمان ويُزيِّنَه في قلوبنا كما حبَّبه إليهم، وزيَّنه من قبل في قلوبهم، فالإيمان أول عدتنا…» (مجموعة رسائل البنا).
فإذا كان الإيمان هو أول عدة الدعاة، فهكذا يجب أن تكون بيوتهم منبرًا من منابر الهدى والتقى، والبيت المسلم الصادق في انتمائه لدعوته متعاونٌ على الإيمان، يشدُّ بعضه أزر بعض، ويأخذ أفراده بعضهم بيد الآخر نحو الطاعة، في سباقٍ محمومٍ نحو الجنان. فمن الصور الرائعة التي كانت بارزةً في بيوت سلفنا الصالح تلك الصور التي كانت تحكي التعاون بين الزوجَين في القيام ببعض العبادات، والتعاهد على أن يُعين بعضُهم بعضًا في أداء الفرائض والمستحبات، وما أحوج الدعاة أن يجعلوا من بيوتهم قبلةً للإيمان والهدى والتقى؛ لتكون مثالًا يُحتذَى في كل البيوت.
فهذا دعاءٌ بالرحمة من الرسول ﷺ لزوجٍ متعاونٍ قام من الليل فأيقظ أهله «رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ أهله» (رواه أحمد في مسنده). ويشجع النبي ﷺ الأزواج على المزيد من التعاون في مجال الإيمان، فيقول ﷺ: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلَّيا أو صلى ركعتين جميعًا كُتبا من الذاكرين والذاكرات» (رواه أبو داود في سننه). وقد يتكاسل الزوج وتخور عزيمته وتقل رغبته، فحينئذٍ يأتي دور الزوجة التي توقِظ زوجها للصلاة، فإن أبى نضحت في وجهه الماء.
فما أحوجنا نحن الدعاة أن نُحيي هذه الصور في بيوتنا، فنوثق بها صلتنا بربنا، ونقوّي بها إيماننا، ونُربِّي بها أنفسنا، فإن من الخطأ كل الخطأ أن تُقصَر العلاقة بين الزوجين داخل بيوتنا على شئون الدنيا ومتاعها، ومن النقص الذي لا يليق بنا – نحن الدعاة – ألا نتجاوز في أحاديثنا مع زوجاتنا شهوات البطن والفرج.
مرارة العذاب وحلاوة الإيمان مما لا شك فيه أن إلزام الزوجين لنفسيهما الطاعة، وإقامة بيتهما على أساس الإيمان الكامل أمرٌ شاقٌّ وغايةٌ في الصعوبة في بداية الأمر بالطبع، ويحتاج من كل منهما الصبر الجميل؛ حتى يذوقا حلاوة الطاعة، ويلمسا لذة الإيمان في قلبيهما، فحينئذ سيهون في سبيل هذه اللذة الإيمانية كل صعب. سُئل بلال – رضي الله عنه – عن سبب صبره على الإيمان مع شدَّة تعذيبه في رمضاء مكة الحارَّة، فقال قولته المشهورة: «مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فطغت حلاوة الإيمان».
لماذا ربانية البيت؟ البيت هو المعسكر الدائم الذي لا تنقطع دروسه ومحاضراته، فهو معسكرٌ دائمٌ على مدار العام. هذا المعسكر سينطلق منه الزوج داعيًا إلى الله، وتنطلق الزوجة معلمةً ومرشدةً، وسيتربَّى في هذا المعسكر الأبناء على حب الإسلام وحمل راية الدعوة من بعدهما، فإذا كان البيت مصبوغًا بصبغة غير الربانية، ونشأ أبناؤه على غير الإيمان الحقيقي فسينعكس ذلك بلا شكٍّ على تكوين أفراد ذلك البيت. أبًا وأمًّا وأبناءً. وحينئذ سيكون الانفصام بين واقع الدعاة ومتطلبات دعوتهم.
– تخيل أبًا يستيقظ بعد طلوع الشمس ليصلي الصبح وقد بال الشيطان في أذنه. – تخيل أمًّا تسهر الليل أمام التلفاز وتستيقظ قبل الظهر. – تخيل أبناءً يَنشئون في بيت لا يعظم شعائر الله ولا حرماته. – تخيَّل أبناءً يسمعون الأذان ويرون أبويهما يؤخِّران الصلاة عن وقتها ويتكاسلان في أدائها. – تخيل بيتًا مسلمًا تلك سماته وصفاته، كيف يستطيع أن ينهض لحمل مشاكل الأمة والعمل على حلها. – ثم تخيل النتيجة لو أن ذلك المثال مكررٌ في أكثر من بيت! بالتأكيد فإن ذلك سيكون سببًا حقيقيًّا في تأخير النصر.
كيف سيواجه الأب – وهو داعية – عامة الناس، ناصحًا، ومرشدًا، ومربيًا، وهو مقصِّرٌ في حق مولاه؟ كيف سيطالبهم بإصلاح بيوتهم وإعمارها بطاعة الله وبيته عشَّش فيه الشيطان؟ كيف ستواجه الأم – وهي داعيةٌ – صديقاتها أو تجلس معهم واعظةً ومعلمةً، وهي متكاسلةٌ عن طاعة ربها ولا تهتم بتربية أبنائها وتأديبهم؟
هل من المعقول أن نجد زوجًا مسلمًا داعيةً صاحب رسالة وفكر، جُلُّ اهتمامه عند عودته للمنزل هل أعدَّت زوجته الطعام أم لا؟ هل اهتمَّت بنظافة المنزل وترتيبه؟ أما صلاتها لفرض ربها، وأداؤها لأذكارها وأورادها فلا يعنيه في شيء!
وهل من المعقول أن نجد زوجةً وهي أخت مسلمة جلُّ اهتماماتها أعمالها المنزلية وزياراتها الخارجية وبحثها وراء كل جديد في الملبس والمأكل والمشرب. أما استغلال الأوقات والاستفادة بها في أعمال الطاعات فهو أمرٌ ثانويٌّ حسب الرغبة والهوى!
تخيل بيتًا هذا شأنه أنَّى له أن يُصبح نواةً في مجتمع مسلم منشود؟ أنَّى لبيت مثل هذا أن يُرَبِّي ويُخرج مجاهدين الأمة في أمس الحاجة إليهم؟ ولذلك نستطيع أن نقول إنه لن تكون هناك دعوةٌ ناجحةٌ وبيوت أصحابها خربة إيمانيًّا أو بعيدة الصلة بالله. إن حاجة بيوتنا إلى الربانية لا غِنى لنا عنها إذا أردنا النهوض بمهماتنا وأداء واجباتنا.
ربانية البيت المسلم تجلب النصر بيوت الدعاة هي أحرص البيوت على تحقيق النصر الذي يُعِزُّ الله به الإسلام والمسلمين، ويُذلُّ الشرك والمشركين، نصرًا تستعيد به الأمة كرامتها، وتستردُّ مقدساتها، ولن يكون هذا إلا بالربانية والعبودية الحقيقية لله تعالى، والبيوت حلقةٌ من حلقات المجتمع المسلم المنشود، فإن لم يستقِم ويصطلح مع الله فلن يتنزل النصر، فنصر الله عز وجل لن يتنزَّل إلا على أُناسٍ ربانيين، أحسنوا الصلة بالله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)﴾ (الأنبياء).
ربانية البيت تحفظ الذرية ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)﴾ (النساء)، فالتقوى والصلاح وحسن الصلة بالله هي الطريق الوحيد الذي أخبرنا المولى تعالى عنه ليتم حفظ الذرية. قال سعيد بن المسيب لابنه: «يا بني، لأزيدن في صلاتي من أجلك؛ رجاء أن أُحفظ فيك»، وتلا هذه الآية ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ (الكهف: من الآية 82).
ربانية البيت تجلب السعادة على أهله ويكمن سر الربانية في جلب السعادة لأفراد الأسرة وأبناء البيت في أن الربانية والصلة الوثيقة بالله تُصحح التصورات وتصوِّب المعتقدات، فالقلب الموصول بالله سعادته في قلبه، وقلبه موصول بالله، الدنيا لا تعنيه في شيء سوى الاستعداد للقاء محبوبه، بزرع الأعمال الصالحة؛ لذلك فهو لا يحزن إذا أدبرت ولا يفرح إن أقبلت.
ففي زماننا هذا ظن البعض أن السعادة تأتيهم من الخارج فانشغلوا بجمع المال، حتى ألهاهم ذلك عن ذكر الله، وعن أداء فرائض الله وعن أداء واجبات الدعوة، فأصبح الهمُّ هو قدرهم، والغم مصيرهم، فهم يتقلبون من شقاء إلى شقاء، تعلقت القلوب بالمال وجمعه، حتى صارت قلَّته غمًّا وقلقًا في الصدور.
تعلَّقت طموحاتهم بكماليات البيت وزينته، فأصبحت الدنيا هي شغلهم الشاغل. الفرح فيها مرهون بجمع المزيد من المال، فصدق فيهم قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾ (طه). أما أصحاب العقول الراجحة. أصحاب البيوت السعيدة فقد انشغلوا بمولاهم، ولم يكن لهم مطلبٌ سوى رضاه، فاستحقوا الرضا من الله، ومنحهم السعادة في قلوبهم، وصدق فيهم قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾ (النحل).
—————————– (*) كاتب وباحث إسلامي معاصر (مصر). انتهى الجزء الأول من مقال: (ماذا يعني انتماء بيتي للدعوة؟)، ويليه الجزء الثاني المتمم للمقال. إن شاء الله تعالى
wafaa.mashhour20
مرسل من هاتف Samsung Galaxy الذكي.
zadussaerin
جزاكم الله خيرا، ورحم الله والنا وقائدنا المجاهد فضيلة الأستاذ مصطفى مشهور.، ونسأل الله سبحانه أن يثبتنا على طريق الحق حتى نلقاه.