ماذا يعني انتماء بيتي للدعوة؟ (2)

ماذا يعني انتماء بيتي للدعوة؟ (2)بقلم: الأستاذ محمد عبده (*)

كيف يصبح بيتي بيتًا ربانيًّا؟
ولعل السؤال الذي سيفرض نفسه بعد ما تقدم من بيانٍ لضرورة صبغ البيت بالربانية ما هو طريقي إلى تحقيق ذلك؟ وما المنهج الذي إن اتبعته وسِرْتُ على نهجه وصل بي إلى الله وأنِستُ وأنِسَ أهلُ بيتي بالله؟
وفي الحقيقة أن الطريق إلى الله سهلٌ ميسَّرٌ لمن صدق توجهه، وخلصت نيته، وقويت رغبته، وعلَت همَّته في الوصول إلى الله، وانتسب إلى ربه ومولاه؛ ليصير عبدًا ربانيًّا، بل وسيجد العون والمدَد من الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: من الآية 69).
فما من عبد يمدُّ يده إلى الله تعالى إلا أخذ بيده وأعطاه المزيد، فإذا أقبل إلى الله مشيًا أقبل الله عليه هرولةً، والله أشد فرحًا بتوبة عبده وعودته إليه من أحدنا إذا فرَّت منه دابته وهي تحمل زادَه في صحراء جرداء، ثم ما لبث أن جاءته ففرح بها، فقال من شدة فرحه:

«اللهم أنت عبدي وأنا ربك» ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾ (الليل)، وحتى يكون طريق البيت إلى الربانية سهلًا محبَّبًا إلى نفوس أفراده يجب ألا نُزحمه بالتكاليف التي قد تُصيبهم أو تبُثُّ في نفوسهم الإحباط واليأس أو الشعور بصعوبة الطريق إلى الله، فالتغيير الذي نريده ليس تغييرًا سطحيًّا، أو صبغةً باهتةً ضعيفةً نريد صبغ البيت بها سرعان ما تنتهي وتذهب أدراج الرياح بعد وقت قصير.

والتي تتأثر بموعظة فتمتنع عن مشاهدة التلفاز مثلًا، وبعد أن يذهب أثرُ هذه الموعظة سرعان ما تعود البيوت مرةً أخرى إلى سابق حالها، وعلى هذا قس في جميع ما نلحظه ونراه من مخالفة الواقع للواجب.

خطوات مقترحة لبناء الإيمان داخل البيت
1- بناء الخوف من الله في القلب.
2- بناء علاقة متينة بالقرآن.
3- قيام الليل.
4- الإنفاق في سبيل الله. (وأعمال البر والخير التي تبني الإيمان في القلب كثيرة، وهذا على سبيل المثال)

أولًا: الخوف من الله
فالخوف من الله هو الطريق الذي انتهجه الأنبياء والمرسلون لدعوة أقوامهم، فهو البداية الحقيقية لانتباهة القلب ويقظته. يقول : «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» (صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة)، وهكذا بدأ الأنبياء يقول تعالى ﴿وَإذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)﴾ (الأحقاف).

وهكذا فعل عندما أنزل الله تعالى ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214)﴾ (الشعراء)؛ حيث صعد النبي على جبل الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر. يا بني عدي» – لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا قال: «فإني نذير بين يدي عذاب شديد» (أخرجه البخاري).

ثانيًا: بناء علاقة متينة مع القرآن
ولكي يصل البيت إلى الله ويُصبح بيتًا ربانيًّا عليه أن يستمسك بحبل الله الممدود بين السماء والأرض ألا وهو القرآن الكريم. فالقرآن الكريم يُعتبر بحق من أفضل الوسائل التي تُفضي إلى زيادة الإيمان في القلب ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا﴾ (الأنفال: من الآية 2)، فالقرآن يُعتبر العلاج الحقيقي لكل أمراض القلوب، والكتاب الهادي ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57﴾ (يونس)، وهو الذي يبدد ظلمات المعصية ويستبدلها بنور الإيمان ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة)

ويقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله -:
«الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، والحمد لله لقد من الله علىَّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمن ذقت فيها من نعمته ما لم أذق في حياتي، ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه…»

الطريقة العملية للاستفادة من المنهج القرآني داخل البيت:
(1) تدبر آياته: والتدبر ليس غاية في حد ذاته بل هو وسيلة للوصول إلى درجة التفاعل والتأثر بآياته ومواعظه حتى تتحرك مشاعرنا، وتستيقظ قلوبنا من غفوتها، وذلك من خلال تخصيص وقت محدد للقاء القرآن والجلوس معه، وعرض أنفسنا عليه، هذا الوقت يجب أن يكون الذهن فيه حاضرًا والخاطر غير مشغول، بعيدًا عن الضوضاء والتشويش والانشغال، ثم الحياة في ظل هذه القراءة، والاستماع لما نقرأ بعقل يقظ وقلب حي.
(2) جلسة عائلية مع أهل البيت لتدارس القرآن باستخراج الآيات التي حركت المشاعر، وأثرت في القلب، وتفاعلت معها الأحاسيس.
(3) تتبع معنى إيماني في أثناء وردنا اليومي كأن أبحث بقلبي عن آيات تتحدث عن مظاهر حب الله لنا، أو رقابة الله علينا، أو الآثار المذكورة التي تعرفنا به سبحانه وبأسمائه وصفاته.
(4) عمل مجلات حائط داخل البيت لتشجيع الأطفال على اتباع نفس النهج في التعامل مع القرآن، ونُسميه بالموضوع الذي نريد أولادنا أن يتفاعلوا معه.
كأن نُسمي المجلة (الله الرقيب) ويُطلب من الأبناء البحث في أثناء قراءة الورد عن الآيات الدالة على رقابة الله لنا وتسجيلها باسمه في المجلة.
توضيح: تكرر فيما سبق كلمة البحث في أثناء القراءة ونود لفت الانتباه أن ذلك اتخذناه وسيلة لتحقيق التدبر الذي يحمل القارئ إلى التفاعل مع الآيات وليس بحث عقلي فقط لا يتأثر به القلب.
(5) استخراج الأوامر من الآيات والنواهي التي تقابلنا في أثناء التلاوة وتحويلها إلى واجبات عملية نتواصى داخل البيت بتنفيذها، مع الوضع في الاعتبار أن تدبر القرآن والتأثر بآياته والتفاعل معها سيكون من أقوى الدوافع التي تعيننا على تنفيذ تلك الواجبات العملية، لما يحدثه القرآن من زيادة للإيمان في القلب ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى﴾ (الأنفال: من الآية 2)

ثالثًا: قيام الليل
وقيام الليل من وسائل إحياء القلب، وإيقاظ المشاعر فيه، وعلى هذا دلنا الحبيب «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن» (صحيح أخرجه الترمذي).
فقيام الليل من المعينات الكبرى على أداء التكاليف الأخرى ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)﴾ (المزمل) فمن استطاع مكابدة الصوراف والشواغل عن الوقوف بين يدي الله حسنت صلته به، وقويت علاقته معه.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:
«إن قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية، والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه، والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي. إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل والعبء الباهظ، والجهد المرير، الذي ينتظر الرسول ﷺ وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير» (في ظلال القرآن 6/3745).

رابعًا: الإنفاق في سبيل الله
وعلاقة الإنفاق في سبيل الله بزيادة الإيمان علاقة وثيقة، وتُسهم إسهامًا مباشرًا في إحياء القلب وتحريك المشاعر، وتزكية النفس وتطهيرها، وهذا ما نص عليه قوله تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة: من الآية 103)
وبيوت الدعاة هي أكثر البيوت التي تحتاج إلى ذلك الخلق العظيم، فهي تنفق في مصارف الخير المختلفة، وتُخلِّص نفسها من الشح والبخل، وجواذب الأرض، فالشح مفتاح كل شر، ومن شأنه أن يجعل الفرد أكثر تعلقًا بالدنيا وحرصًا عليها.

والإنفاق يؤدي إلى تيسير الأمور ومعيته سبحانه ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾ (الليل).
والبر والتقوى والقرب من الله لن ينالهم أحد بخل بماله، وحرص عليه. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران:92).
والبخل والشح بالمال عقبة في طريق صاحبه للسير إلى الله والانتساب إليه يقول تعالى ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَأمٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)﴾ (البلد) فالعقبة الحقيقية أمام الراغب في الهداية والتي عليه أن يقتحمها هي تخلصه من الشح والحرص على المال.

———————
(*) كاتب وباحث إسلامي معاصر (مصر).
انتهى الجزء الثاني والأخير من مقال: (ماذا يعني انتماء بيتي للدعوة؟).

اترك تعليقا