نستعرض هنا بعض المواقف والأقوال ذات الأثر، التي عاشها أو قالها بعض أهل السبق والفضل على طريق الدعوة، والتي تُشير إلى أن هؤلاء الأكارم -رحمهم الله جميعاً- كانوا ربانيين، يعيشون في هذه الحياة الدنيا وقلوبهم معلقة بالآخرة.
وإليكم نماذج من هذه المواقف والأقوال، مع بيان ما فيها من درس وعبرة:
(1) موقف في التضحية العزيزة النابعة من صدق الإيمان، واليقين بما عند الله في الآخرة من الفوز العظيم والنعيم المُقيم.
يذكر الإمام حسن البنا في (مذكرات الدعوة والداعية): «لاحظت أن الأخ الاسطي علي أبو العلا قد صار يتأخر نحواً من نصف ساعة عن موعد اجتماعنا الليلي المحدد، فسألته عن السبب، فاعتذر ببعض الأعذار التي لا تستوجب ذلك. وبالبحث علمت وعلم الإخوان أنه قد خصه من الاكتتاب السابق 150 قرشاً، ولما لم يكن عنده هذا المبلغ، فإنه قد اضطر أن يبيع عجلته ويعود من عمله في نمرة 6 التي تبعد عن البلد 6 كيلو مترات ماشياً، ودفع ثمنها مساهمة منه في اكتتاب دار الإخوان». (1)
درس في التضحية يُعطيه لنا هذا الرجل البسيط (الأسطى على أبو العلا – رحمة الله عليه)، البسيط في وضعه الاجتماعي العظيم بيقينه وعطائه، الكبير بمواقفه. يتحمل أن يمشي (6 كيلو متر يومياً) من بيته إلى محل عمله، في سبيل أن يُسهم في بناء وتأسيس دار الدعوة في الإسماعيلية، لينال بذلك شرف المساهمة ويحظي بسبق المجاهدة بماله في سبيل الله. مثل هذه المواقف العظيمة لا تنبع من كثرة علم أو فكر، ولكنها تنبع من قلب عامر بالإيمان زاخر باليقين، إيمان هانت معه كل المشاق، وصغرت معه هذه الدنيا وما فيها.
(2) من وصايا الأستاذ محمد العدوي – رحمه الله -: «اجتهد في العبادة قبل اللقاء، واحذر من ضياع أجر العمل». وصية موجزة لكنها بليغة وجامعة، حيث كان -رحمه الله- يربط قلوب إخوانه بربهم، وكان يدعوهم إلى دوام الاستعداد للقاء الله، بالاجتهاد في الطاعة والعبادة. وهذا هو الحال المطلوب من كل مربي وداعية ومُصلح، أن يربط قلوب إخوانه بالله واليوم الآخر، وهو حال لا يمكن أن يكون أو يتحقق ما لم يحيا المربي نفسه هذه الحياة الربانية، فيحيا بين إخوانه وقلبه معلق بالآخرة.
(3) والربانيون قوم لهم حال مع القرآن، (تلاوة – تدبراً – وفهماً – تطبيقاً)، فهم يُحسنون التعامل مع كتاب الله عز وجل، ويعيشون معه بمعانيه وفيوضاته، يتدبرون آياته، ويقفون أمام أوامره ونواهيه، ويُنزلونها على واقعهم في الحياة وحركتهم بين الناس، تنفيذاً للأوامر وإجتناباً للنواهي.
والموقف هنا مع أحد الربانيين، وكيف كان يتعامل مع القرآن؟ وكيف كان يُربي أتباعه ومريديه وإخوانه على التعامل مع القرآن الكريم وكيف كانوا يعرضون أنفسهم عليه،. يحكى أحد الأفاضل من المنصورة من تلامذة الأستاذ محمد العدوي -رحمه الله- فيقول:
«كان شيخنا المربي الرباني محمد العدوي يقول لنا: إذا هممت بقراءة وردك من القرآن فأحضر قلماً وأوراقاً، واتبع ما يلي:
– وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال المؤمنين فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَأن (صفات وأعمال المؤمنين).
– وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال الكافرين فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَأن (صفات وأعمال الكافرين).
– وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال المنافقين مِنَ اللهِ فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَأن (صفات وأعمال المنافقين).
– وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال أهل الجنة فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَأن (صفات وأعمال أهل الجنة).
– وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال أهل النار فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَأن (صفات وأعمال أهل النار).
وهكذا تتدبر ما تقرأ وتضع له العناوين المناسبة، من وصايا وآداب ومواعظ وأحكام.. إلخ. فإذا انتهيت من قراءتك فاعرض نفسك وأعمالك على ما دوَّنتَه، فانظر كم أمرًا نفذتَه، وكم نهيًا اجتنبتَه، وكم صفةً من صفات أهل الإيمان تحققتَ بها، وكم صفةً من صفات أهل الكفر والنفاق تخلصتَ منها، وكم سببًا من أسباب استحقاق الجنة حققتَه، وكم سببًا من أسباب استحقاق النار تخلصتَ منه، وكم وصية من الله نفذْتَها، وكم أدبًا تحققتَ به.
وعندئذٍ تستطيع أن تعرفَ مقامَك، وأن تحدد ما ينبغي عليك فعلُه أو اجتنابُه. هذا معنى ما فهمتُه من شيخنا محمد العدوي -رحمة الله عليه-، وإن لم يكن بحروفه وكلماته، وهكذا كانت تربيةُ الإخوان المسلمين على القرآن الكريم».
(4) موقف يرويه المربي الفاضل الأستاذ محمد أحمد البحيري -حفظه الله- وهو شاهد عيان عليه، يرويه عن واحد من رجالات الدعوة الربانيين، وهو الأستاذ سيد إسماعيل أبو شلوع -رحمه الله- (**).وهو موقف يدل على ربانية هذه الدعوة، وربانية مرشدها المؤسس الإمام حسن البنا، وربانية أبنائها الأوفياء على بيعتهم الأمناء على دعوتهم، ونحسب أن الأستاذ سيد أبو شلوع من هؤلاء -ولا نزكيه على الله.
يقول الأستاذ محمد البحيري: «فى عام 1969م وفى سجن طره، وبالتحديد في (عنبر رقم 1)، – والمعروف بعنبر الإخوان آنذاك، وقد كنا ثلاثة في زنزانة واحدة (الأستاذ محمد عبد الفتاح رزق الشريف – الأستاذ سيد إسماعيل أبو شلوع – والعبد لله محمد أحمد البحيري). وكانت أعمارنا في هذا الوقت كالتالي وبنفس الترتيب (62 سنة – 43 سنة – 26 سنة)، وكنت أصغرهم. وذات يوم من أيام هذا العام دخلنا الزنزانة حوالى الخامسة عصراً ليغلقوها علينا ونظل بها -مثل كل يوم- حتى صباح اليوم التالي.
وبعد أن دخلنا الزنزانة -وتقريبا قبيل المغرب- ناديت على الأستاذ سيد أبو شلوع: «يا أستاذ سيد» فلم يرد !! وناديت مرة ثانية «يا أستاذ سيد» فلم يرد عليّ!!. فتعجبت لماذا لم يرد عليّ! وقلت فى نفسي يمكن لأني أصغرهم، وأخذتها فى نفسي. وبعد حوالي عشر دقائق رد عليّ الأستاذ سيد وقال: يا أخ محمد، يا أخ محمد: هل زعلت؟، قلت له: خيّر خيّر إن شاء الله. فقال لي: «لا تزعل وأنا سأقول لك السبب. لمّا ناديت عليّ كنت قد بدأت أقرأ (ورد الدعاء) ولم أستطع الرد عليك، لأن من آداب هذا الورد إذا بدأت فيه لا تقطعه بحديث آخر. فمعذرة».
يقول الأستاذ محمد البحيري: وحكي ليّ الأستاذ سيد أبو شلوع -رحمه الله- موقفاً له مع الإمام حسن البنا يتعلق بـ (ورد الدعاء)، ولعل هذا الموقف هو السبب في حرص الأستاذ سيد والتزامة بهذا الورد منذ (22 سنة)،فيقول: «في عام 1947م كنا ثلاثة من شباب الإخوان جالسين في المركز العام بالقاهرة، فدخل علينا الإمام حسن البنّا، وبعد أن سلم علينا قال لنا قولاً فاجئنا به وبلهجة شديدة: «أتبايعونني؟» وكررها ثلاثاً، فوقع في نفسي وكأن الإمام يريد منّا بيعة للجهاد في فلسطين مثلاً، فقلنا له: على ماذا نبايع فضيلتك؟ قال: «تبايعونني على المواظبة على ورد الدعاء».
يقول الأستاذ سيد أبو شلوع للأستاذ محمد البحيري: ومنذ هذا اليوم الذي بايعت فيه الإمام البنا يا أخ محمد لم أنقطع عن هذا الورد يوماً من الأيام». انتهى
يا ألله .. يا ألله،منذ (22 سنة) فيها من المحن والمنح، والصحة والمرض، والشغل والفراغ، والسجون والتعذيب، ولم ينقطع يوماً عن ورده. ثم انظروا كيف يُربى الإمام البنا أتباعه؟ وعلى ماذا يبايعهم؟ يبايعهم على الأوراد والأذكار والأدعية !!! نعم .. إنها الربانية في دعوة الإخوان المسلمين.
ثم انظروا في وفاء الجندى لقائده، استشهد الإمام البنا في (1949م) بعد عامين من هذه البيعة (1947م)، ولكن ظل الجندي الوفيّ (سيد أبو شلوع) وفياً لبيعته وقائده الذى رحل إلى ربه منذ 20 سنة.
(5) كتب الأستاذ محمد مهدى عاكف –رحمه الله- في رسالته الأسبوعية (2)، حول الربانية فذكر:
«أيها الإخوان المسلمون: ينبغي أن تكون الربانية في قمة أولوياتكم، وأن تعملوا جاهدين على تحقيقها بكل ما أوتيتم من قوة وجهد، فحقِّقوا صفات أولياء الله يكلأْكم بكنفه ويشملْكم بحفظه ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف: من الآية 64) ولا يجعل للشيطان عليكم سبيلاً ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ (الإسراء: من الآية 65) هذا ما نريده وما نسعى إليه، وهو واجب كل فرد على حدته في إطار مسئوليته الفردية ليبذل أقصى جهده في تحقيق موجبات الربانية والعبودية».
وحين ندقق النظر ونُعمل الفكر في هذا الكلم الطيب، نجد أنفسنا أمام دعوة عظيمة تضع ربانية أفرادها في مقدمة أولوياتها، وتجعل من مسئولياتهم الفردية في الإرتقاء الإيماني أمراً ملزماً لكل فرد على حدته.
وهو توجيه من قائد الدعوة ومرشدها -في ذلك الوقت- إلى عموم الإخوان، مما يدل على أن قضية الربانية وحُسن الصلة بالله قضية جوهرية وأصلية في نهج هذه الدعوة ومسيرتها التكوينية، وبالتالي يجب أن تُترجم هذه التوجهات إلى برامج وآليات تُحيي الربانية في القلوب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
————————— (**)الأستاذ سيد إسماعيل أبو شلوع، من الرعيل الأول لدعوة الإخوان المسلمين بالبحيرة، ولد في قرية أم حكيم مركز شبراخيت، محافظة البحيرة مواليد 1926م، كان يعمل بالمحاماه، وكان من الدعاة الربانيين، وقد امتحن في سجون الظالمين وصبر على البلاء، وثبت على دعوة الحق. يحكى عنه أحد رفاق سجنه، «أنه ذات يوم علقه صفوت الروبي من رجليه وسلط عليه أربعة من العساكر ظلوا يضربونه بالسياط حتى سقطت قطعة لحم من (سمانة ساقة)، فتناولها المجرم(صفوت الروبي)ووضعها في فمه وهو معلق، وقال له:«كل هذه يا سيد يا أبو شلوع». – ابتلي بالمرض في سنوات عمره الأخيرة لدرجة أنه كان عاجزًا عن الحركة، فالرجل أصيب بشلل أقعده عن الحركة أو الكلام إلا بصعوبة بالغة، يريد أن يتحدث للناس ولكنه لا يستطيع، يريد أن يبلغهم دعوة الله ولكنه غير قادر، يريد أن يقيم الحجة علينا جميعًا. كان دائما ما ينصح إخوانه في فترات مرضه ويقول: «تحركوا قبل الا تتحركوا، واعملوا قبل الا تستطيعوا العمل». – وقد رزقه الله بزوجة صالحة وفيّة مجاهدة صبرت معه طوال مراحل حياته، وخاضت مع زوجها الراحل رحلة كفاح مع مرضه، كانت فيها نعم الزوجة. – قال عنه الأستاذ محمد الفار أحد الرعيل الأول لجماعة الإخوان بالبحيرة: «الأستاذ أبو شلوع كان شهمًا معي والأستاذ أحمد الجندي عندما أعلن في المحكمة في 1965 أنه هو المسئول عن وأنني والأستاذ الجندي لا دخل لنا بما حدث في الستينيات». – ظل وفيًا لدعوته ثابتًا على طريقها حتى مماته، وقد توفي مساء الجمعة 15 رمضان 1430هـ – الموافق 4 سبتمبر 2009م، عن عمر ناهز 83 عامًا، وقد نعاه فضيلة المرشد العام وقتها الأستاذ محمد مهدى عاكف، وتمت الصلاة عليه ظهر السبت بالمسجد القبلي بقرية أم حكيم – شبراخيت – بمحافظة البحيرة. رحمه الله رحمة واسعه، وتقبله وسائر إخوانه في الصالحين.
(1) مذكرات الدعوة والداعية، للإمام حسن البنا، ص 91 – 92. (2) من مقال منشور للأستاذ مهدى عاكف، بعنوان: (الربانية. زادنا وسبيلنا) وهو الرسالة الأسبوعية التي كانت تصدر عن المرشد العام، بتاريخ 6 نوفمبر 2008م.
0 Comments to “مع الربانيين على طريق الدعوة – د. محمد حامد عليوة”
مع الربانيين على طريق الدعوة نستعرض هنا بعض المواقف والأقوال ذات الأثر، التي عاشها أو قالها بعض أهل السبق والفضل على طريق الدعوة، والتي تُشير إلى أن هؤلاء الأكارم -رحمهم الله جميعاً- كانوا ربانيين، يعيشون في هذه الحياة الدنيا وقلوبهم معلقة بالآخرة.
zadussaerin
مع الربانيين على طريق الدعوة
نستعرض هنا بعض المواقف والأقوال ذات الأثر، التي عاشها أو قالها بعض أهل السبق والفضل على طريق الدعوة، والتي تُشير إلى أن هؤلاء الأكارم -رحمهم الله جميعاً- كانوا ربانيين، يعيشون في هذه الحياة الدنيا وقلوبهم معلقة بالآخرة.