منهاج الحركة الدعوية لدى الإمام البنّا

الحركة الدعوية لدى الإمام البنّا

أولًا: الحركة الدعوية الدؤوبة للأستاذ البنا
من عايشوا الرجل شهدوا له بأنه صاحب همة عالية، وحُرقة على دينه، وقدرة فائقة على الحركة الدائمة الدؤوبه بدعوته. لقد كان يجوب الأرض يبحث عن الرجال، فما لانت له قناة، فقد كان ذو همة عالية، وعزمة قوية، لدرجة أنه رغم قصر عمره وكثرة مشاغله زار فى مصر وحدها نحو (ثلاثة آلاف قرية ونجع ومدينة) يدعو إلى الله، ويُصلح فى الأرض. وهو ما قال يوماً عن نفسه، واصفاً حاله مع دعوته: «وددت أن أبلغ هذه الدعوة للطفل في بطن أمه»

وإليكم بعض ما قاله من عايشوه أو تتلمذوا على يديه وتأثروا به:
1- كتب عنه الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله -: «كان هذا الإمام العجيب يحسب عمره بالدقائق لا بالساعات، وفوق تراب مصر وحدها شقَّ الطريق إلى عشرات المدن وآلاف القرى، فتحدَّث إلى الناس في ثلاثة آلاف قرية على الأقل، ولا أزال أتصوره وهو يزرع الحب بالبسمة الرقيقة، ويصنع اليقين بالإقناع الهادئ، ويتجاوز الخلافات برفض الجدل، وتعليق الناس بالجوهر لا بالمظهر، وتقديم الأهم على المهم، وقبل ذلك وبعده بتقوى الله والإعداد للقائه، وبكلمته التي طالما سمعته يرددها: (إن موتًا في حق هو عين البقاء)». (1)

وكتب عنه أيضًا في إحدى مقالاته: «لقد جاب الآفاق وهو يُذكر بالله ويُعرف بدينه، وأحسبه قضى تسعة أعشار عمره مسافرًا يضرب مناكب الأرض، لا يقصد من حله وترحاله إلا بعث أمة وإحياء تاريخ». (2)

2- ويقول عنه المجاهد الجزائري الفضيل الورتلاني – رحمه الله: «كان يعمل ليل نهار دون أن يبدو عليه أثرٌ من جهد أو كلل، بل كان هناك مَن يلقاه ويمضي معه الليلَ يظن أن في الصباح راحتَه، وهناك مَن يلقاه في الصباح ويظن أنه قد أخذ حظَّه من الراحة ليلًا ولكنه كان في الحالين يعمل». (3)

ثانياً: مواقف حيّة لحركته الدؤوبة بدعوته

يذكر الأستاذ محمد شوقى زكي – رحمه الله: «وكان منهاج الأستاذ البنا أن يزور المركز العام في الصباح الباكر، ويترك فيه مذكراتٍ فيها توجيهاتٌ وأعمالٌ تتطلب إنجازًا، ثم يقصد مدرستَه، فإن كان مسافرًا يتوجه من المدرسة إلى المحطة، وإن لم يكن يعرج على المركز العام ثانيةً، يقابل ويوجِّه ويصرِّف ما يجدّ من عمل، وفي المساء يزور المركز ثالثةً، ويقضي فيه وقته مقابلًا الوفودَ والزائرين، أو مجتمِعًا في لجان أو محاضرًا، ولم يمنعه ذلك من متابعة أسفاره إلى الريف، في أثناء العطلة الدراسية، وكان يقطع الوجه القبلي كله بلدًا بلدًا وقريةً قريةً في عشرين يومًا، في بعض الأحيان يصبح في بني سويف ويتغدَّى في ببا، ويُمسي في الواسطى، ويَبيت في الفيوم، وكانت أسفاره في عطلته الأسبوعية وفي عطلته السنوية في الصيف، ففي الأولى يزور البلاد القريبة، وفي الثانية البلاد البعيدة». (4) 

وحين نطالع جداول رحلاته للدعوة في أنحاء مصر بوجهَيها البحري والقبلي نرى عجبًا. فتراه:
يقوم برحلات الصعيد والوجه القبلي في فصل الصيف؛ حيث القيظ والحرارة الملتهبة، وما ذلك إلا للاستفادة من فترة الإجازة الصيفية للمدارس واستغلالها في رحلات الصعيد الطويلة، بينما تتم رحلات الوجه البحري في الشتاء حيث البرد والأمطار؛ حيث يتيح قرب الأماكن استغلال فترة إجازة نصف العام القصيرة، رغم مخالفة هذا النظام لطبيعة المناخ في الفصلين، وحيث تعارف الناس على تفضيل الصعيد شتاءً والوجه البحري صيفًا، ولكن ذلك لم يكن واردًا في حسابات الداعية المجاهد.

وكان ذلك الأمر موضع دهشة واهتمام أعوانه ومؤيديه وكذلك المتابعين لحركته والمراقبين لها، وسجَّل ذلك أحد إخوانه الشعراء – وهو الأستاذ عبد الحكيم عابدينفي قصيدة بعنوان (مصيفة الأقصر الحرى وجيرتها) فقال:

مصيفة الأقصر الحرى وجيرتها والثغر مشتاه إذ سكانه هجروا
قد يصبح اليوم في مصر وتشمله (إسكندرية) إن وافى به الظهر
ويحتويه أصيل اليوم داعية في الـ (طنطا) وفي (بنها) له سهر
وبالصعيد وما أقصى تراميه من طول جولاته الإعجاب مختمر
يمشى بمنيته حتى إذا انتصف الليل استقلت بأقصى (قنا) القطر
يدعو بها جل يوم ثم يبرحها عصرًا (لأسوان) حيث الدرس والعبر
وينثني قافلًا من العشاء إلى (مصر) فيبلغها والفجر محتضر. (5)

ويدهش المتابع لحركة الأستاذ البنا من ضخامة المجهود المبذول في هذه الرحلات، فحين تطالع برنامج الرحلة تعجَب لهذا العدد الضخم من الزيارات في وقت قصير جدًّا، وعلى سبيل المثال ففي إحدى رحلاته للصعيد قام بزيارة 21 مدينة ومركزًا في الصعيد خلال سبعة أيام، أي بمعدل ثلاث مدن في اليوم الواحد، ويزداد عَجَبك حين تعلم أن هذه الزيارات تتضمن بصفة أساسية إلقاءَ محاضرات عامة ولقاءات خاصة للإخوان وزيارات لوجهاء هذه المدن ومشاركةً فيما يطرأ من مناسبات.

وفي مقال رائع بعنوان (حسن البنا. القتيل الذي أحيا) يتحدث خليفته المستشار حسن الهضيبي – رحمه الله:
«كنا في القطار بأقصى الصعيد، فأشار أحد رفقائي إلى الجبل، فرأيت ناسًا يصعدون أو ينزلون كأنهم من فرط ارتفاعه في أحجام النمل، وقال: هنا صعَد حسن البنا وصعدْنا معَه ولقيْنا من المشقة حتى وصلنا إلى قوم كأنهم من طول ما احتُبسوا في هذا المكان فيهم من الإنس جفوة، وجعل الأستاذ الإمام – طيَّب الله ثراه ورضي عنه وأرضاه في الجنة – يؤنس من وحشتهم ويرقِّق من طباعهم ويدعوهم إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله !

وتحت شجرة قليلة الرَّواء كأنها أسِنَت قبل الأوان من كثرة ما ظمِئَت قال آخر: هنا نزلنا من الأوتوبيس نقصِد إحدى القرى، ونظرت فإذا لحية الأستاذ الإمام قد صارت بيضاء مما علاها من التراب، وملابسه قد اختفى لونها لِما غَشِيَها لا أقول من وعثاء السفر فالوعثاء شيء قليل، وفتحنا الشنطة وأخرجنا منها الفرشاة وجعلنا نزيل الغبرة التي لحقتنا ونصلح من هندامنا، ثم مضينا إلى القرية ندعو أهلها إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله .

ثم وصلنا إلى إحدى المحطَّات ولعلَّها (إدفو) فقال آخر: إن الأستاذ الإمام بات على كرسي أمام هذه الخمَّارة، وذلك أن أحد الأشخاص دعَاه لافتتاح شُعبة، فكتب إليه بأنه حاضر في قطار كذا، وكأن الخطاب لم يصله ولم يجد في المكان من الأيقاظ إلا صاحب الحانة يهمُّ بإغلاقها فرقَّ له وأعطاه كرسيًّا يبيت عليه حتى الصباح وأغلق حانتَه وانصرف، وفي الصباح ذهب الأستاذ إلى القرية يدعو أهلها إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله .

وانتقلنا إلى الوجه البحري، وجبنا قرى إحدى المديريات في أسبوع، فما وجدنا قريةً إلا وصل إليها الأستاذ على غير ما وصلنا، فقد وصلنا في سيارات تنقلنا من مكان إلى مكان نختصر الوقت ونقرِّب المسافات، ومهما لقينا في ذلك من مشقة فإنها لا تقاس بالمشقة التي لقيها الأستاذ الإمام؛ حيث كان يصل إلى هذه القرى سيرًا على الأقدام أو يركب الدوابّ، قرى سحيقة بعيدة عن العمران، نسِيَها الناس ونسيتها الحكومات حتى طاف بها طائفٌ من رحمة الله ونورِه، فدعاها الداعيةُ إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله » (6)

———————
(1) مقدمة كتاب (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين)، للشيخ محمد الغزالي – رحمه الله تعالى.
(2) مقال: (حسن البنا. العالم المربي)، للشيخ محمد الغزالي، رحمه الله.
(3) مجلة الدعوة، السنة الثالثة، – العدد 104، بتاريخ 10/ 2/ 1953م.
(4) الإخوان والمجتمع المصري- محمد شوقي زكي- ص 22.
(5) نقلًا عن (حسن البنا حياة رجل) – أنور الجندي- ص 49
(6) مجلة الدعوة، السنة الثالثة، – العدد 104، بتاريخ 10/ 2/ 1953م.

اترك تعليقا