منهج التغيير ووسائله قراءة في رسائل الإمام حسن البنا

منهج التغيير ووسائله قراءة في رسائل الإمام حسن البنا

أتصور أن تطبيق المنهج الإسلامي الكامل وإقامته في المجتمع لا يقتصر على مجرد الرؤية الصحيحة أو الفهم الشامل، وإنما لا بدَّ من تربية وإعداد لمن يتولى تطبيقه وقيادة أفراد الشعب عليه، وهذا الإعداد لهذه المجموعات الرائدة يقوم على التربية الإسلامية المتكاملة لتتمثل الإسلام في شخصيتها، وفي فهمها وفي سلوكها وفي عملها وحركتها.

وهذه التربية لا تتم في مدة قصيرة أو بمجرد دراسة عابرة، إنما هي تكوين عميق وإصلاح شامل للأفراد، ثم يأتي المحك والاختبار والمحنة والابتلاء لتصهر وتمحص وتظهر قدرة الأفراد على تحمل الضغوط وعلى الثبات وعدم الانحراف.
وغياب هذه الركائز أو ضعفها في أي مكان أو أي شريحة بالمجتمع يؤدي إلى إضعاف تربية الجماهير وغياب التطبيق الصحيح لمنهج الإسلام فيها.

لذا، فقد استلهم الإمام المجدد حسن البنا – رحمه الله – نهج الدعوة والتربية الإسلامية الأولى التي هتف بها النبي ﷺ في بطحاء مكة، فبين أنه ﷺ: «قذف في قلوب صحابته بمشاعر ثلاث انطبعت عليها قلوبهم، وأشرقت معانيها في نفوسهم:

1- أن ما جاء به هو الحق وما عداه الباطل، وأن رسالته خير الرسالات وشريعته أكمل النظم التي تحقق السعادة للناس جميعًا، وتلا عليهم من كتاب الله ما يؤكد هذا المعنى (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الزخرف: 43)، فآمنوا بهذا واعتقدوه.

2- أنهم ما داموا أهل الحق وماداموا حملة رسالة النور، فعليهم أن يقعدوا من غيرهم مقعد الأستاذ من تلميذه يحنو عليه ويرشده وتلا عليهم قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143)، فآمنوا بهذا واعتقدوه.

3- أنهم ماداموا كذلك؛ فإن الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم ويمدهم إذا تخلى عنهم الناس، وتلا عليهم قوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، فآمنوا بذلك واعتقدوه» (1).

منهج التغيير ووسائله

وعلى هذا لم يكن الإمام البنا يهدف إلى مجرد هدم نظام أو مجرد تغيير باطل أو تغيير نظام حكم، ليستبدل بعد ذلك نظامًا آخر أو باطلًا من نوع آخر أقل منه في الانحراف إنما استهدف إقامة البناء الإسلامي المتكامل في المجتمع والأمة بأركانها كلها، بناءً راسخًا قويًا يتحمل كل الضغوط ويواجه كل التحديات.

«وهكذا اتصل الإخوان بكتاب الله، واستلهموه واسترشدوه، فأيقنوا أن الإسلام هو هذا المعنى الكلي الشامل، وأنه يجب أن يهيمن على كل شؤون الحياة، وأن تصطبغ جميعها به، وأن تنزل على حكمه، وأن تساير قواعده وتعاليمه، وتستمد منها ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمة إسلامًا صحيحًا.» (2).

كما اعتقد الإمام البنا أن كل مظهر من مظاهر النهضة يتنافى مع قواعد الإسلام، ويصطدم بأحكام القرآن هو تجربة فاشلة ستخرج منها الأمة بتضحيات كبيرة في غير فائدة، فخيرًا للأمم التي تريد النهوض أن تسلك إليه الطريق الصحيح باتباع أحكام الإسلام.

«أما الواقع، فكيف يكون موقف المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته إذا سمع هذه الآيات البينات وغيرها من الأحاديث والأحكام، ثم رأى نفسه محكومًا بقانون يصطدم معها؟ فإذا طالب بالتعديل قيل له: إن الأجانب لا يرضون بهذا، ولا يوافقون عليه، ثم يقال بعد هذا الحجر والتضييق إن المصريين مستقلون، وهم لم يملكوا بعد أن يتمتعوا بحرية الدين، وهي أقدس الحريات.

على أن هذه القوانين الوضعية، كما تصطدم بالدين ونصوصه تصطدم بالدستور الوضعي نفسه الذي يقرر أن دين الدولة هو الإسلام، فكيف نوفق بين هذين يا أولي الألباب؟» (3).
ومن البديهي أن الإمام البنا لا يمنع الاستفادة من خبرات الآخرين وعلومهم، فنجده يقول: «من الحق أن نعرف أننا بعدنا عن هدي الإسلام وأصوله وقواعده، والإسلام لا يأبى أن نقتبس النافع، وأن نأخذ الحكمة إن وجدناها، ولكنه يأبى كل الإباء أن نتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله على شيء، وأن نطرح عقائده وفرائضه وحدوده وأحكامه، لنجري وراء قوم فتنتهم الدنيا، واستهوتهم الشياطين» (4).

من هذه الزاوية، فإن التغيير الذي كان ينشده الإمام البنا هو تغيير شامل يسع الأمة جميعها «والإخوان المسلمون لا يختصون بهذه الدعوة قطرًا دون قطر من الأقطار الإسلامية، ولكنهم يرسلونها صيحة يرجون أن تصل إلى آذان القادة والزعماء في كل قطر يدين أبناؤه بدين الإسلام، وإنهم لينتهزون لذلك هذه الفرصة التي تتحد فيها الأقطار الإسلامية، وتحاول بناء مستقبلها على دعائم ثابتة من أصول الرقي والتقدم والعمران» (5).

لقد كان الألم ليعتصر قلب الإمام المجدد، وهو يرى حوله الدول تهتف بمبادئ مختلفة، ولا يجد من بينها من يهتف بالإسلام، ويرفع رايته، فيقول: «عجيب أن تجد الشيوعية دولة تهتف بها، وتدعو إليها، وتنفق في سبيلها، وتحمل الناس عليها، وأن تجد الفاشستية والنازية أممًا تقدسها، وتجاهد لها، وتعتز باتباعها، وتخضع كل النظم الحيوية لتعاليمها. وأن تجد المذاهب الاجتماعية والسياسية المختلفة أنصارًا أقوياء، يقفون عليها أرواحهم وعقولهم وأفكارهم وأقلامهم وأموالهم وصحفهم وجهودهم، ويحيون ويموتون لها، ولا نجد حكومة إسلامية تقوم بواجب الدعوة إلى الإسلام، الذي جمع محاسن هذه النظم جميعًا وطرح مساوئها، وتقدمه لغيرها من الشعوب كنظام عالمي فيه الحل الصحيح الواضح المريح لكل مشكلات البشرية، مع أن الإسلام جعل الدعوة فريضة لازمة، وأوجبها على المسلمين شعوبًا وجماعات قبل أن تخلق هذه النظم، وقبل أن يعرف فيها نظام الدعايات» (6).

لذا، فقد حدد الإمام البنا أهم الأهداف التي من أجلها أنشأ جماعته، فقال: «اذكروا دائمًا أن لكم هدفين أساسيين:
أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي، وذلك حق طبيعي لكل إنسان، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر.
أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة، وتبلغ دعوته الحكيمة للناس، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعًا آثمون مسؤولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجادها، ومن العقوق للإنسانية في هذه الظروف الحائرة أن تقوم فيها دولة تهتف بالمبادئ الظالمة، وتنادي بالدعوات الغاشمة، ولا يكون في الناس من يعمل لتقوم دولة الحق والعدالة والسلام.
نريد تحقيق هذين الهدفين في وادي النيل وفي بلاد العروبة وفي كل أرض أسعدها الله بعقيدة الإسلام» (7).

وفي أول رسالة أصدرها الإمام، وهي (رسالة دعوتنا) اعتمد عدة التغيير في عناصر ثلاث:
– المنهاج الصحيح.
– العاملين المؤمنين.
– القيادة الحازمة الموثوق بها» (8)

ويبين أن ذلك يتحقق من خلال عدة أهداف ومراحل، هي:
1- إصلاح الفرد لنفسه.
2 – تكوين البيت المسلم.
3- إرشاد المجتمع.
4- تحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي.
5- إصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق.
6- إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية.
7- أستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام فى ربوعه» (9).

ثم حدد الإمام المجدد الوسائل في إيجاز، فبين أنها:
– الإيمان العميق.
– التكوين الدقيق.
– العمل المتواصل» (10).
كما أولى اهتمامًا كبيرًا بتربية النفس: «ليس للأمة عدة في هذه السبل الموحشة إلا النفس المؤمنة والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء بالتضحيات والإقدام عند الملمات، وبغير ذلك تغلب على أمرها ويكون الفشل حليف أبنائها.

ومع أن ظروفنا هي ما علمت، فإن نفوسنا لا تزال تلك النفوس الرخوة اللينة المترفة الناعمة التي يجرح خديها النسيم، ويدمي بنانها لمس الحرير، وفتياتنا وفتياننا وهم عدة المستقبل ومعقد الأمل لا يزال حظ أحدهم أو إحداهن مظهرًا فاخرًا أو أكلة طيبة أو حلة أنيقة أو مركبًا فارهًا أو وظيفة وجيهة أو لقبًا أجوف، وإن اشترى ذلك بحريته، وإن أنفق عليه من كرامته وإن أضاع في سبيله حق أمته» (11).

«نفوسنا الحالية في حاجة إلى علاج كبير وتقويم شامل وإصلاح يتناول الشعور الخامد والخلق الفاسد والشح المقيم، وإن الآمال الكبيرة التي تطوف برؤوس المصلحين من رجالات هذه الأمة، والظروف العصيبة التي نجتازها تطالبنا بإلحاح بتجديد نفوسنا وبناء أرواحنا بناء غير هذا الذي أبلته السنون وأخلقته الحوادث، وذهبت الأيام بما كان فيه من مناعة وقوة، وبغير هذه التقوية الروحية والتجديد النفسي لا يمكن أن نخطو إلى الأمام خطوة» (12).

دورنا.. البناء والتربية
إن آلية التغيير في منهج الإمام البنا تتلخص في:
أولًا: بناء وتكوين جيل جديد يسري وينتشر في نسيج المجتمع وجسد الأمة، ويكون مؤثرًا في إيقاظها وتغيير حالها، وهذا الجيل يشكل القاعدة التي يقوم عليها الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية.
يقول الإمام: «إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها» (13).

فهذا الجيل هو القاعدة الصلبة والركائز المؤمنة التي يقوم عليها الحكم الإسلامي، وتتحمل تبعاته وتقود الأمة على منهاجه.
يقول الإمام أيضًا: «ولكنها مهمة هذا النشء الجديد، فأحسنوا دعوته، وجدّوا في تكوينه، وعلموه استقلال النفس والقلب، واستقلال الفكر والعقل، واستقلال الجهاد والعمل، واملؤوا روحه الوثابة بجلال الإسلام وروعة القرآن، وجندوه تحت لواء محمد ورايته» (14).

هذا النشء هو الركيزة التي لا بد أن تنتشر في كل بقعة وكل حي وكل قرية وكل مؤسسة وكل شريحة اجتماعية بالعدد الذي يؤهلها أن تؤثر في هذا المكان، وتقوده إلى شرع الله.
وإن المكان – أو الشريحة – الذي يخلو من هذه الركائز أو تكون فيه بمستوى ضعيف، سيصبح مكانًا ضعيفًا به خلل في استوائه وارتباطه بقيادة الأمة الإسلامية، وبكيفية تطبيق الإسلام فيها وتربية الجماهير عليه.

إن التكوين العميق المطلوب لهذا الجيل ينبغي أن يصل به إلى المستوى الإيماني والتربوي المناسب لعبء الاستخلاف، كما لا بد له أن يمر بسنة المحن والابتلاءات المتنوعة حتى يخلص، وينقى من اللبنات الهشة ويزداد قوة وثباتًا.
وينبغي أن يكون هذا الجيل صفًا قويًا واحدًا تحت قيادة واحدة، تتوافر فيه كل أسباب النصر الإيمانية، وتنتفي عنه كل أسباب الفشل والخذلان.

وأساس قوة الصف في قوة العقيدة وقوة الوحدة والرابطة قبل قوة الساعد والسلاح.
وتجميع هذه الركائز أو تكوينها لا يقوم على الضم العشوائي أو الاكتفاء بالحشد العام والعواطف الملتهبة أو الحركة النشطة والانتشار السريع، وإنما يقوم أساسًا على حسن انتقاء العناصر الصالحة المناسبة «الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة»، وتربيتها وتكوينها وترسيخ أركان البيعة عندها وتعميق إيمانها بدينها ودعوتها.

ثانيًا: نشر الدعوة والتعريف بها وتربية المجتمع:
وفي خط متوازٍ مع انتقاء الركائز وتكوينها، يكون العمل على نشر الدعوة والتعريف بها وتربية المجتمع على مفاهيم الإسلام، وصبغته بالصبغة الإسلامية، ومواجهة جوانب الخلل والفساد فيه، وتحقيق الصفات المطلوبة منه من الإيجابية والوعي والبذل وغير ذلك، فيكثر الأنصار والمتعاطفون في كل مكان، وينحاز الرأي العام بالمجتمع إلى الدعوة ومبادئها ويلتف حول الجماعة ورموزها ويؤيدها ويساندها.
يقول الإمام البنا: «إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء كل ذلك وحده لا يجدي نفعًا ولا يحقق غاية ولا يصل بالداعية إلى هدف من الأهداف.» (15).
ويقول: «لا أيها الإخوان ليس هذا ما نريد، هو بعض ما نريد ابتغاء مرضاة الله. أما غاية الإخوان الأساسية، أما هدف الإخوان الأسمى، أما الإصلاح الذي يريده الإخوان، ويهيئون له أنفسهم فهو إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوى الأمة جميعًا، وتتجه نحوه الأمة جميعًا، ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل» (16).
ويقول أيضًا: «فلا بد من فترة تنتشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة» (17).
وحول انتشار الدعوة في كل مكان وكل مؤسسة وكل شريحة من المجتمع، يقول الإمام في تأكيده أهمية تحقيق هـذا الهدف: «ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت، وأن يسمع صوتنا في كل مكان» (18)، مما يتطلب: التطوير والتنويع في وسائل الدعوة العامة، والانفتاح على المجتمع، والوجود والحوار مع الآخرين، وإعلان الدعوة وأفكارها وموقفها في كل نشاط ومؤتمر وكل حدث أو أزمة.
وتسلك الجماعة المنوط بها الإصلاح والتغيير وقيادة الناس إليه، أسلوب النضال الدستوري كمسار للإصلاح والحركة في المجتمع، لكنها قد تواجه ظروفًا من التضييق والمنع، وحينئذ فإنها تتصدى لهذه الظروف بالصبر الإيجابي والمزيد من التماسك والتربية للصف الداخلي، والاهتمام بالدعوة الفردية والتأثير في المجتمع بالقدوة العملية، واتخاذ الوسائل المناسبة لذلك، ولا تتخلى عن منهجها وطريقها ومبادئ دعوتها، ولا تلجأ للعنف بل تتحمل كل ذلك التضييق وتواجهه حتى تزول المحنة.

أساسيات التغيير المجتمعي
إن أساسيات التغيير المجتمعي لابد أن تشتمل على:
1- تربية المجتمع وتعليمه حقوقه، وكيف يطالب بها وينالها ويحافظ عليها.
2- أن يستطيع الفرد أن يميز بين: الرموز والكوادر المخلصة، ورموز الفساد وأصحاب المطامع الشخصية، فلا تخدعه العبارات والشعارات المزيفة.
3- أن يصبغ المجتمع في عمومه بصبغة الإسلام في أخلاقه وعباداته وقيمه ومعاملاته، وأن يزداد ارتباطًا بالقرآن والمسجد.
4- أن ينحاز رأيه العام لشريعة الإسلام والمطالبة بها.
5- أن يتعلم كيف يضحي ويصبر في سبيل مبادئه التي يؤمن بها.
6- أن يلتف حول الجماعة ورموزها، ويناصرها عن فهم واقتناع وحب، ويتجاوب مع أهدافها، ويتعاون معها في كل مجالات الإصلاح بالمجتمع.
7- أن يستشعر أنه جزء من أمة الإسلام فيعيش قضاياها ويناصرها.
والجماعة الداعية للتغيير، لا تقصر حركتها على الأغلبية المسلمة، وإنما تمتد آثارها ودعوتها لكل فئات المجتمع وأقلياته، وذلك لتحقيق السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية التي هي من مبادئ الإسلام وقيمه.

إن هذه التهيئة والتربية المطلوبة للمجتمع هي الضمان الأساسي لعدم انحراف الحاكم أو أي فئة تصل للحكم إذا أرادت أن تخدعه بالشعارات، أو أن تنقلب على حقوقه ومبادئه، وتزيف إرادته، وهي كذلك أيضًا الضمان لثبات الحكم واستقراره؛ ذلك أن قيام الحكم الإسلامي في الأمة – حكمًا حقيقيًا كاملًا – لن يقابل بترحيب عالمي من قوى الاستكبار والاستعمار الغربي، وإن آجلًا أو عاجلًا سيصطدم مع مصالحهما وأطماعهما التي لا يمكن أن تلتقي أبدًا مع أهداف الإسلام ومصلحة أمته، وسوف يتعرض الحكم الإسلامي لمضايقات شديدة مثل الحصار الاقتصادي والسياسي، وحملات التشويه والتشكيك، وقد يصل الأمر إلى الدخول معه في معارك شديدة عنيفة أو ممارسة ضغوط قوية وشديدة عليه.

ملامح التغيير المنشود
وخلاصة الأمر أن التغيير الذي ينشده الإمام البنا وتنشده جماعته تتضح معالمه فيما يلي:
1- أنه تغيير شامل عميق للفرد والمجتمع، فسيادة قيم الإسلام وشريعته ينبغي أن تكون حقيقة وجوهرًا، وليست فقط مظهرًا أو شعارًا، وتحقيق ذلك التغيير وحراسته والحفاظ على بقائه لن تكون فقط مهمة أفراد من المجتمع ولا حتى مؤسسة حاكمة من مؤسساته، لكنها تحتاج إلى جهود المؤسسات الخاصة والعامة الموجودة فيه.

2- أن هذا التغيير أمر «ديني» فهو عبادة؛ لذلك لا ينبغي أن يتم جبرًا ولا قسرًا، بل يجب أن يكون عن إرادة واختيار وإيمان، فهو ليس مجرد تبديل حكومة بأخرى ترفع شعارات أو توقع قرارات لإحداث هذا التغيير، الذي يجب أن يكون مستندًا إلى قناعة الناس وإيمانهم ومطالبتهم به.

3- يجب أن يكون التغيير جذريًا: والتغيير الجذري يختلف عن التغيير الفوقي؛ لأنه يحدث عن طريق إيجاد قناعة لدى وحدات المجتمع بالتمسك بشرائع الإسلام.
وهو جذري لا فوقي؛ لأنه يبدأ من أفراد المجتمع ومؤسساته، فينطلق من داخل مؤسسات المجتمع وبها وليس على أنقاضها، وهو يبدأ بالأفراد للنفاذ إلى المؤسسات، ولا يبدأ بامتلاك السلطة لفرض التغيير.
يقول الإمام الهضيبي: «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقم على أرضكم» إنه تغيير جذري ذو مدخل شعبي وآخر مؤسسي (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11).

4- وهو تغيير متدرج، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، فهو يعتمد التدرج في التطور والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، ومن دور إلى دور، على أساس النضج والتكامل والقدرة على الضبط في مواجهة الأمور والأحداث والأزمات.
يقول الإمام الشهيد:
«فمن أراد أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقطف زهرة قبل أوانها فخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها». (19)
«لذلك نحن نلجم نزوات العواطف بنظرات العقول، ونلزم الخيال صدق الحقيقة والواقع». (20)
«ولا نصادم نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن نغالبها ونستخدمها ونحول تيارها ونستعين ببعضها على بعض». (21)
ولأنه تغيير متدرج لا فوري، فليست الوسيلة إليه القوة والعنف، فالدعوة الحقة إنما تخاطب الروح أولًا، وتطرق مغاليق النفوس، ومحال أن تثبت بالعصا، أو أن تصل إليها على شبا الأسنة والسهام.

5- وهو تغيير عالمي تحددت ملامحه منذ فجر هذه الدعوة العالمية منذ نشأتها. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (سورة سبأ: 28)

وبناء على ما سبق، فالتغيير في فكر الإمام البنا – رحمه الله – يجب أن يكون:
مستقرًا مستمرًا، لا مهتزًا ولا وقتيًا؛ لذلك يجب علينا تربية قوى التغيير كلها وقيادتها وتوظيفها، والتنسيق بينها لتتقبلها الجماهير وتقتنع بها ويتحقق لها النهوض.
وهو تغيير له طلائع رائدة قائدة، وقواه الأساسية الفاعلة هي: شعبنا، وقواه المساندة الداعمة هي مؤسسات المجتمع، وقواه المؤيدة المناصرة هم الإسلاميون في العالم كله.
(فهو تغيير: عميق لا سطحي، جذري لا فوقي، متدرج لا فوري، عالمي لا قطري، مستقر لا وقتي، نقود الأمة إليه ولا ننوب عنها فيه).

—————-
الهوامش:
1. رسالة دعوتنا.
2. رسالة المؤتمر الخامس.
3. رسالة المؤتمر الخامس (الإخوان المسلمون والقانون).
4. رسالة «الإخوان المسلمون تحت راية القرآن».
5. رسالة «إلى أي شيء ندعو الناس».
6. رسالة «الإخوان المسلمون تحت راية القرآن».
7. رسالة «بين الأمس واليوم».
8. رسالة «دعوتنا».
9. رسالة «التعاليم ـ ركن العمل».
10. رسالة «بين الأمس واليوم».
11. رسالة «هل نحن قوم عمليون؟».
12. المصدر السابق.
13. رسالة «غايتنا».
14. المصدر السابق.
15. مجموعة الرسائل.
16. مجموعة الرسائل.
17. مجموعة الرسائل.
18. مجموعة الرسائل.
19. مجموعة الرسائل.
20. مجموعة الرسائل.
21. مجموعة الرسائل.

0 Comments to “منهج التغيير ووسائله قراءة في رسائل الإمام حسن البنا”

اترك تعليقا