تعريف النَّجوى لغة: قيل أنها من (النّجوة) وهي ما ارتفع من الأرض، فالمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرّهما كخلو المرتفع من الأرض عمّا يتّصل به. تعريف النّجوى اصطلاحا: النّجوى نوعان: نوع يكون بين اثنين دون ثالث أو ثلاثة دون رابع. إلخ. ونوع يكون بين جزء من الجماعة دون الجماعة أو دون القيادة.
الأوّل: ما أشار إليه الرّسول ﷺ حين قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه» [متفق عليه] والنّوع الثّاني: ذكره القرآن الكريم: (مَا يَكُوْنُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوْا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٍ) [المجادلة: 7] وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُوْلِ). [المجادلة: من الآية 9]
قال الشّيخ عبد الحميد البلاليّ – حفظه الله -: «والهدف الرّئيسيّ من كلا النّوعين هو إحزان المؤمنين، كما قال تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ) [المجادلة: 10]، وهو مدخل له خطورته على الجماعة الإسلاميّة، ولقد اختاره عدوّ الله بخبث ليفكّك الجماعة الإسلاميّة».
قال الأستاذ سيّد قطب – رحمه الله -: «ويبدو أنّ بعض المسلمين ممّن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسّة التّنظيم الإسلاميّ، كانوا يتجمّعون عندما تحزب الأمور، ليتناجوا فيما بينهم ويتشاوروا بعيدا عن قيادتهم. الأمر الّذي لا تقرّه طبيعة الجماعة الإسلاميّة، وروح التّنظيم الإسلاميّ، الّتي تقتضي عرض كلّ رأي وكلّ فكرة وكلّ اقتراح على القيادة ابتداء، وعدم التّجمّعات الجانبيّة في الجماعة. كما يبدو أنّ بعض هذه التّجمّعات كان يدور فيها ما قد يؤدّي إلى البلبلة، وما يؤذي الجماعة المسلمة ولو لم يكن قصد الإيذاء قائما في نفوس المتناجين، ولكن مجرّد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الآراء فيها على غير علم قد يؤدّي إلى الإيذاء، وإلى عدم الطّاعة». [في ظلال القرآن، جـ 6، ص 3510]
وقال: «إنّ رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبثّ في قلوبهم الحزن والتّوجّس، وتخلق جوّا من عدم الثّقة؛ وأنّ الشّيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم». [في ظلال القرآن جـ 6 ص 3510]
وقال: «ولا يجوز أن يكوّن تجمّعا جانبيا بعيدا عن علم الجماعة. فهذا هو الّذي نهى عنه القرآن ونهى عنه الرّسول. وهذا هو الّذي يفتّت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشّكّ وفقدان الثّقة. وهذا هو الّذي يدبّره الشّيطان ليحزن الّذين آمنوا». [في ظلال القرآن جـ 6 ص 3511]
وقال: «فأمّا حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سرّ، أو ستر عورة، في شأن عامّ أو خاصّ، فلا مانع من التّشاور في سرّ وتكتّم. وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة». [في ظلال القرآن جـ 6 ص 3511]
يذكر الشيخ عبد الحميد البلالي فى كتابه (مشكلات وحلول فى حقل الدعوة) فيما يتعلق بمشكلة النجوى فى العمل الجماعي: «أصل النّجوى هي حديث الاثنين معا، مع إخفاء صوتهما عن الثّالث. (وحكمها): التّحريم لحديث الرسول ﷺ«إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه» [متفق عليه] ولكنّ النّجوى الّتي نعنيها في هذه المشكلة، هي: حديث مجموعة من المؤسّسة (الجماعة) منتقدة المؤسّسة (الجماعة)، أو القائمين عليها، بمعزل عن قيادة المؤسّسة (الجماعة) ومعرفتها.
فكما أنّ النّوع الأوّل من النّجوى يؤذي الطّرف الثّالث ويسبّب الكثير من التّفكّك لروح الوحدة والأخويّة، والعمل الجماعيّ، كذلك يفعل النّوع الثّاني ببثّ الشّقاق والضّغائن والحزن. لذلك فقد عقّب تعالى على هذا النّوع بقوله: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ) [المجادلة: 10]».
يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله -: «لقد تكرّر في القرآن النّهي عن النّجوى، وهي أن تجتمع طائفة بعيدا عن الجماعة المسلمة وعن القيادة المسلمة، لتبيّت أمرا، وكان اتّجاه التّربية الإسلاميّة واتّجاه التّنظيم الإسلاميّ كذلك أن يأتي كلّ إنسان بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النّبيّ ﷺ مسارّة إن كان أمرا شخصيّا لا يريد أن يشيع عنه في النّاس، أو مساءلة علنيّة إن كان من الموضوعات ذات الصّبغة العامّة، الّتي ليست من خصوصيّات هذا الشّخص.
والحكمة في هذه الخطّة، هو ألاّ تتكوّن جيوب في الجماعة المسلمة، وألاّ تنعزل مجموعات منها بتصوّراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها واتّجاهاتها، وألاّ تبيّت مجموعة من الجماعة المسلمة أمرا بليل، وتواجه به الجماعة أمرا مقرّرا من قبل، وتستخفي به عن أعينها، وإن كانت لا تختفي به عن الله (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ). وهذا الموضع أحد المواضع الّتي ورد فيها هذا النّهي عن التّناجي والتّبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها.
ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة، تتلاقى فيه وتتجمّع للصّلاة لشؤون الحياة، وكان المجتمع المسلم كلّه مجتمعا مفتوحا، تعرض مشكلاته – الّتي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيرها، والّتي ليست بمسائل شخصيّة بحتة لا يحبّ أصحابها أن تلوكها الألسن – عرضا عامّا. وكان هذا المجتمع المفتوح من ثمّ مجتمعا نظيفا طلق الهواء، لا يتجنّبه ليبيّت من وراء ظهره إلاّ الّذين يتآمرون عليه، أو على مبدأ من مبادئه – من المنافقين غالبا – وكذلك اقترنت النّجوى بالمنافقين في معظم المواضع.
وهذه حقيقة تنفعنا، فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئا من هذه الظّاهرة، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامّة بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من خطط واتّجاهات أو مشكلات». [في ظلال القرآن جـ 5 ص 226]