من سُنَنِ الدَعَواتِ وعِبَر التَاريخ – د. محمد حامد عليوة
إن لله في الدعوات سُنَنُ، وإن في وقائع التاريخ عِبَر، وهي سنن ثابتة لا تتبدل ولا تتحول (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43))، (فاطر)، الأمر الذي يُلزم أصحاب الدعوات، ومن يحملون لواء الإصلاح والتغيير في الأمم والمجتمعات؛ أن يفقهوا هذه السُنَن، ويعتبروا من هذه العبر.
وسنن الله في الدعوات، ووقائع تاريخ الأمم والمجتمعات؛ تؤكد كلها على مجموعة من الحقائق الدامغة والنتائج الواقعة، التي يجب الوقوف أمامها والاعتبار بها، ومن ذلك ما يلي:
1- أن دعوة الله هي غرسه جل في عُلاه، وما غرسته يد الله لن تنال منه يد البشر، وستؤتي شجرة الدعوة أُكلها كل حين بإذن ربها. والكيس من عاش في ظلالها، وحافظ على أصولها، وبذل في رعايتها ونموها، حتى ينعم بثمارها في الدنيا والآخرة.
2- أن للإخلاص على طريق الدعوة سر عجيب، وأثر بالغ يعود على الدعوة والدعاة، فهو للدعوة أساس القبول والتأييد، وللدعاة أساس السداد والتوفيق.
لأنه مع الإخلاص (تتنزل البركات، وتتحق الفتوحات، وتعم الخيرات، وتُقال العثرات)، «وإنما يتعثر من لم يُخلص»، وفقنا الله وإياكم لحسن القصد وسلامة العمل.
3-أن يد الله تعمل، وما على الدعاة والمصلحين إلا بذل الجهد واستفراغ الوسع، ونحن نبذل الجهد ونستفرغ الوسع لخدمة الدعوة ونُصرة الحق لا بد أن نستشعر أننا نعمل بتوفيق (الله) ونعمل لنُصرة دعوة (الله). وأيضا لا يغيب عنا مع هذه الجهود أيا كان حجمها ونوعها، أننا ستار لقدرة الله ومشيئته سبحانه، وكما قال الإمام حسن البنا: «نستر يد القُدرة لننال الأجرة».
4-أنه (لا يصعب مع عون الله شيء)، فمن أوقف حياته ونفسه لنصرة الحق، واستشعر معية الله له، تراه دائماً لا يألوا جهداً ولا يدخر وسعاً في سبيل دعوته، وإن تنوعت على طريقه الصعاب والفتن، وأحاطت به الشدائد والمحن، فهو يُوقن أن الله سبحانه معه، يؤيده ويعينه ويهديه، رغم كثرة الخطوب ووعورة الدروب. فلا يصعب مع عون الله شيء، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). (العنكبوت 69).
5- أن من حقائق القرآن الدامغة، ومن سُنن الدعوات الواقعة، سُنة التدافع بين الحق وأهله والباطل وحزبه، وإن أهل دعوة الحق وهم على دربها يُجاهدون، وفي ميادينها يُصلحون لا بدَّ أن تواجه سيرهم العقبات، ويتعرضون لصُنوف الفتن والابتلاءات، وتُثار حول دعوتهم الأكاذيب والشبهات، ليس فقط في زمن الاستضعاف والمحن؛ ولكن أيضًا في فترات التمكين والمنن، لأن دوافع الباطل واحدة ومقاصده ثابته وإن تغيرت الأساليب والأحوال، ألا وهي الكيد الدائم للحق وأهله، فهذا هو دأب الباطل، وهذه هي طبيعة الطريق، وتلكم معالمه. وبالصبر والثبات تنكشف الكٌربات، وتزول العقبات (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم 4-5)، ولكنها حكمة الله البالغة، وسنته الواقعة، ووعده الحق في نصر دعوته وأولياءه (وَكَأنَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (الكهف 98).
6- أن الطريق طويلة، متعددة المراحل، كثيرة العقبات، عظيمة التضحيات، ولذلك تحتاج منَّا إلى العمل الجاد والدأب والصبر ومواصلة السير. وأن للتدافع بين الحق والباطل على هذه الطريق جولات، فيها المد والجزر والانتشار والانحسار. لذا فقد وجب اليقين بأن الحق ظاهر وأن الباطل زاهق، وكلنا ثقة رغم وعورة الطريق وكثرة العقبات وعظم التضحيات أن الله ناصر جنده وممكن لدينه ودعوته. (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴿171﴾ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ﴿172﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴿173﴾). (الصافات)
7- أن كل شيء يبدأ صغيرًا ثم يكبر، إلا المحن والشدائد تبدأ كبيرة ثم تصغر. حيث تشتد المحن في أولها ومع الصبر يخف وقعها في النفس، وإن كانت المِحنة في الحق فإنها باليقين والاحتساب تتحول إلى طاقة دافعة، وعبادة نافعة، وسعادة جامعة. فكل شيء في جنب الله يهون.
8- أن التضحيات معراج الدعوات، وبالصبر والثبات تنكشف الكربات، وبالإخلاص واليقين تتنزل البركات، وكلما كثرت التضحيات اقتربت الأمنيات.وببذل الجهد ومواصلة السير تتحقق الفتوحات، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)، وما علينا في هذه الأوقات بعد الصبر والثبات وتعلق القلوب برب الأرض والسموات إلا أن: نستفرغ الوسع ونبذل الجهد، ونتوجه للمولى بخالص الدعوات، أن يجمع على الحق القلوب والكلمات، وأن يفرج كرب دعوتنا، ويفك أسر أحبتنا، ويجمع شمل أمتنا، إنه مجيب الدعوات. وما بين عشية وضحاها إلا وقد تغيرت الأحوال، وتحققت الآمال، وانكشفت عن الأمة الغمة، وخرج الأحبة من البلاء أنقياء خروج السيف من الجِلاء، وعادت راية الحق والخير تظل الناس. ولنا في سنن الدعوات وحوادث التاريخ العبر.
9- أن معادن الرجال تظهر في أوقات الأزمات وفي أتون المحن، أما الفورات اللحظية والحماسات الوقتية التي لا تُلازمها قوة نفسية عظيمة وحالة قلبية قويمة؛ سرعان ما تنتهي وتتلاشى مع أول هزة. لذلك قال الإمام البنا:«إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب.» فليست الرجولة أن يمتلك المرء الشجاعة الوقتية والبطولة الشكلية؛ ولما يَجِدُّ الجدّ ويتطلب الأمر الجلد والصبر لا يتحمل متاعب الطريق ولا يمتلك القدرة على تحمل مشاقه.
10- أن دماء الشهداء تنزلق عليها أقدام الطغاة الظالمين، وأن قتل النفس المؤمنة بغير حق هو بداية الهاوية لعروش القتلة المجرمين، وأن عاقبة الظالمين هي العذاب المهين والخسران المبين، (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَأبًا كَبِيرًا) (الفرقان 19)، فانتظروا وعد الله الحق وسنته الماضية في الظالمين، (وَكَأنَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (الكهف 98)، ولنا في تاريخ الأمم أعظم الدروس وأبلغ العبر، فاعتبروا يا أُولى الأبصار.
11- أنَّ كلَّ خائن ستُرد خيانته ومكره إليه، ويومًا ما سينكشف أمره ويَخِيبُ كيده، إنها حقيقة قرآنية، وقانون إلهي نافذ؛ مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ(52))، (يوسف). فالخائن لن يحقّق أهدافه بهذا الفعل الشائن، وسيفتضح أمره إن عاجلًا أم آجلًا، لتعطي هذه السنّة الرّبانية للمؤمنين يقينًا بنصرالله وتأييده لعباده وأوليائه، فمهما طغى الطغاة وتنوع كيدهم، فإنَّ إرادة الله أقوى من كلّ ذلك. المهم مع هذا اليقين بهذه الحقيقة أن تصبر الفئة المؤمنة، وتثبت على الحق، وتستمر في بذل الجهد واستفراغ الوسع، ثم ينتظرون تحقيق الوعد.
12- أن الضديق والكرب إذا بلغ منتهاه، فاعلم أن الله سبحانه قد أبلغه هذا المبلغ ليميز الخبيث من الطيب، ويحق الحق بكلماته، فيأتي الفرج ويهل مبتداه، ويُضل الله الظالمين، ويقطع دابر الكافرين، ويشفى صدور قوم مؤمنين.
13- أن الثبات على مبادئ دعوة الحق، وعدم الانحراف عن طريق الحق، والاعتداد بمواقف الكرامة والشهامة -مهما تعاظمت الخطوب وبلغت المِحنة مبلغها- هو نصر المرحلة، وما النصر إلا صبر ساعة، فاثبتوا فإن النصر مع الصبر.
14- أنه برغم الكيد والتأمر والتكالب -من قوى الباطل- على دعوة الحق وأهل الحق، فلن ينالوا منها ومن أهلها إلا ما قضى ربنا وقدر، وسترتد إليهم سهامهم خائبة خاسرة، لأنها -قوى الباطل- كلها من قوى الارض وعالم الفناء، وأهل الحق عائذون بقوة السماء ومن له البقاء. فلمن تكون الغلبة؟! ورحم الله الشهيد سيد قطب يوم قال: «ما كان لسفاهة سفيه، ولا للمزة جاهل؛ أن تنال من أصحاب عقيدة في الله».
15- أن الغمة ستنكشف والمحنة ستزول، وسيأتي الفرج القريب بحول ربنا المجيب، ولن يطول ليل الظالمين، وسيعقبه فجر الصادقين، وسيخرج الصالحون الثابتون من البلاء خروج السيف من الجِلاء، أتقياء أنقياء. ولكنها سنة الله الواقعة في إمهال الظالمين وتمحيص المؤمنين. ومن يشك في ذلك فليراجع إيمانه ويجدد يقينه. (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا). وهذا من مقتضيات الإيمان ودلائل اليقين عند أهل الحق.
16- أن الله سبحانه قضى وقدّر، ووعد ووعده الحق، بالتأييد والتمكين لعباده المؤمنين، ما أطاعوا ربهم واتبعوا نبيهم وتمسكوا بدينهم وثبتوا على طريقهم. ووعدهم سبحانه أن يستخلفهم في الأرض لإصلاحها وحمل لواء الخير فيها كما استخلف الذين من قبلهم، وهذا التمكين وهذا الاستخلاف سيكون مهما كانت المواجهة مع الباطل، ومهما عظمت التضحيات، ومهما كثرت الخطوب والملمات، ومهما طالت الأزمان وتعاقبت السنوات.
قال تعالي: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة النور – الآية 55]
17- أن فجر الإسلام قادم بإذن الله، وما يجري حولنا من تدافع وتمايز يؤكد هذه الحقيقة القرآنية والبشارة النبوية، ومن ضعف يقينه بهذه الحقيقة فليراجع نفسه، ويُجدد إيمانه. ألم يُؤكد عليها ربنا في كتابه؟ بقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)﴾ [غافر]. ألم يُبشرنا بها الحبيب المصطفي؟ بقوله ﷺ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزٌّ يُعِزُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الإِسْلامَ، أَوْ ذُلٌّ يُذِلُّ بِهِ الْكُفْرَ». فأبشروا وأملوا، واثبتوا وابذلوا، وانتظروا وعد الله الحق، (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
وختاماً: فإن لنا في حوادث الدهر العظة، وفي وقائع التاريخ الدرس، وفي قصصهم عبرة لأولى الألباب. والحمد لله رب العالمين