من وسائل التربية

من وسائل التربية (*)

يقول المرحوم الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد (*) تحت عنوان (من وسائل التربية):

كان الإمام الشهيد حسن البنا يعتمد في تربية الطلاب التربية الإسلامية في منهج الإخوان على عدة وسائل، من أهم هذه الوسائل: (نظام الكتائب). وقد تحدثنا من قبل عن هذا النظام الفريد الذي امتاز بالجانب العملي في صورة بارزة، وذلك بانتزاع الشباب ساعات معدودة من حياتهم، يفارقون فيها بيوتهم وأسرهم، ويبيتون خلالها على الأرض في المساجد، ومعهم زاد يسير وغطاء خفيف، ويحملون مصاحفهم ومأثوراتهم، ويبيتون معاً في هذه المساجد ساعات مباركة، ويقضون أكثر الليل في تهجد وخشوع وتلاوة للقرآن الكريم، فكنت تسمع لهم دوياً كدوى النحل، حتى إذا أذّن الفجر انطلقوا انطلاق الملائكة، في نظام وهدوء صفوفاً، وكان كل واحد يناجي ربه ويخاطب نفسه:

أذن الفجر فقومي للصلاة .. لا تنامي بين غفلان ولاه
إنما الدنيا متاع للعصاة .. وسباق البر فيها للتقاه
كيف يدعوني إلى الله الدعاة .. ثملاً أقضي عن الجفن كراه

وهكذا ينهضون إلى الله في شوق المحبين وإقبال المخبتين القانتين فيصطفون صفوفا كالبينان المرصوص ويؤمهم الإمام الرشيد والمعلم الصالح (حسن البنا).
فقرأ بهم في صلاة الفجر كما يقرأ بهم في صلاة العشاء مختارات من الآيات القرآنية من سور (آل عمران والأنفال والتوبة ومحمد والصف والحجرات)

وهو حريص في تلك التلاوة على ألآيات القرآنية التي تتناول صفات الدعاة، وأخلاق عباد الرحمن (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).

ويُطيل المرشد في القراءة في صلاته بصوت تخشع له القلوب، وتفيض له العيون، ويهتز الشعور، وقد حبا الله أستاذنا الإمام صوتاً كصوت (داود) صوتاً ليس هو كلمات وألفاظ يرددها الفم، وإنما هي آيات يتلقاها السامعون بقلوبهم وحياً غضاً يُحيي القلوب، ونوراً متألقاً يشع في الظلمات.

وكنا نصلي بعد إطفاء الأنوار الكهربائية، وكنا نحس أن نور التلاوة أزهى من نور الشمس والقمر.
وكان الإمام يتلو كتاب الله تلاوة تتجلى من خلالها معاني القرآن، فلا تحتاج إلى تفسير، وكنا نتمنى لو طال موقفنا في هذه الصلاة حتى تطلع الشمس، فما كان مقامنا في الصلاة مقام تعب وعناء، ولكن كان مقام راحة وشفاء. بل كان مقام متعة وصفاء.

وكان من بين وسائل التربية؛ إرسال مجموعات من طلاب الجامعة في أجازة الصيف للدعوة في أقاليم القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه، وكان يجعل لكل مجموعة أميراً مسئولاً عن إخوانه، وكان الإمام يسلم هذا المسئول رسالة خاصة لمندوب الدعوة في الإقليم الذي تتجه عليه البعثة، وكان يزودهم بالنصائح والتوجيهات التي يجب أن يكونوا على علم بها قبل رحلتهم حتى ينجحوا في مهمتهم.

وكان الأستاذ رحمه الله يتخير من الشباب أكثرهم حفظاً للقرن الكريم، وأقدرهم على إقناع الناس، وأوسعهم صدراً لمسائلاتهم. وكانت هذه البعثات تتصل بمندوب الإقليم للتعرف عليه، وليمدهم بمشكلات الإقليم، وما ينبغي عليهم في أحاديثهم من التركيز على بعض الموضوعات التي تهم هذا الإقليم دون غيرها.

وكنا نحرص على أداء الصلوات جماعة في أشهر المساجد، ثم نتحدث بعد نهاية الصلاة عن مشكلات هذا الإقليم وأسبابها وعلاجها بأسلوب سهل ميسر، ونستشهد بما نحفظ من آيات الله ومن الأحاديث النبوية الصحيحة. وكان الناس يعجبون لهؤلاء الشباب الدعاة المتطوعين للدعوة إلى الله، ويتأثرون بهم لما يلمسون من حماستهم وإخلاصهم.

وقد نجحت هذه البعثات -بحمد الله- في مهمتها إلى حد كبير، وعرف الناس من خلالها أن الإخوان قوم عمليون، وليسوا مجرد جمعية خيرية مهمتها الوعظ والإرشاد. 

وأذكر في هذه المناسبة أن الأخ محمود عبد الحليم عُين في (فوة) إحدى الإجازات وترك فيها أثراً عميقاً وزاد فيها عدد الإخوان والمشتركون في المجلة، فقلت لقد أضفت إلى (فوة) نقطة بجهادك فيها، وجعلتها (قوة) لا (فوة).

ومن الوسائل الأخرى التي أذكرها من وسائل التربية، عقد مؤتمر طلابى في نهاية كل سنة، يستعرض فيه نشاط الدعوة، وأوجه هذا النشاط العلمية والعملية، وكان مندوب كل كلية يتحدث عن الوسائل التي استعان بها في نشر الدعوة، وكانت نتيجة هذا الاجتماع انتفاع مندوب كل كلية من زميله، بما يسمعه من هذا الزميل من وسائل نشر الدعوة في كليته، وينتهى هذا المؤتمر باتخاذ قرارات جديدة لنشر الدعوة وتجديد البيعة بعد كلمة توجيهية من المرشد للطلاب.

وأما القوى السياسية داخل الجامعة، فلم يكن لها وجود رسمي وإن كان بعض الطلاب لهم انتماءات سياسية من حزب الوفد ومصر الفتاة والسعديين، ولكن لم تكن لهم تنظيمات داخل الجامعة، ولم يحدث اصطدام بين شباب الإخوان وهؤلاء الشباب الحزبي.

——————————–
(*) المصدر: كتاب: ذكرياتي مع الإخوان، للأستاذ محمد عبد الحميد أحمد

(*) الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد .. عميد طلاب الإخوان المسلمين
في قرية (محلة فرنوى) التابعة لمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة وُلد الأستاذ محمد عبد الحميد، وكان ميلاده في 23/9/1911، وشبَّ الصغير في أسرةٍ دينية، فوالده وجده من الأزهريين، وقد حصل والده على شهادة العالمية وعمل بالمحاماة الشرعية فترةً طويلةً في القاهرة، ثم التحق خطيبًا وإمامًا في وزارة الأوقاف، وظل كذلك حتى أُحيل على المعاش عام 1971م.

التحق محمد بكُتَّاب القرية وحفظ القرآن وتعلَّم فيه، ثم التحق بمراحل التعليم في القرية حتى انتقل مع والده إلى القاهرة فالتحق بمدرسة الجمعية الإسلامية، والتي حصل على الابتدائية فيها، ثم مدرسة الإبراهيمية الثانوية؛ حيث حصل على الثانوية ثم تخرَّج في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) قسم اللغة العربية والدراسات الشرقية عام 1938م.
وبعد تخرجه وجد صعوباتٍ في التعيين ولم يرضَ لنفسه أن يطلب المعونة من أحد الكارهين للدعوة مثل الدكتور طه حسين، وظلَّ كذلك حتى عُيِّن مدرسًا بمدارس الإخوان المسلمين بالإسماعيلية، وقضى فيها عامين؛ حيث نهض بالمدرسة، ثم سافر للعمل مدرسًا في العراق عام 1941م.

تعرَّض للمحنة في عهد عبد الناصر وأُوذي كثيرًا وظلَّ في السجون فترةً طويلةً حتى خرج فسافر، وكانت آخر وظائفه محاضرًا في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1985م.

بعد أن خرج الأستاذ محمد عبد الحميد للعمل كمحاضر في جامعة أم القرى بمكة أقام بقية حياته بها حتى تُوفي بعد مرضٍ عضال قاساه شهورًا طويلة في 4/5/1992 م، وصُليَّ عليه بالحرم المكي ودُفِنَ بمكةَ المكرمة.

اترك تعليقا