نستكمل وقفاتنا التربوية والدعوية مع تراث الإمام الشهيد حسن البنا، هذا التراث الزاخر، والمنهل العذب، الذي نستخلص منه الدروس، ونتزود منه بالمعانى التي تُعيننا على فقه الدعوة، والحركة المنضبطة بها.
ذكر الإمام حسن البنا في رسالة: (بين الأمس واليوم)، تحت عنوان: (عوامل النجاح) مايلي: «ومن الحق أيها الإخوان أن نذكر أمام هذه العقبات جميعا أننا ندعو بدعوة الله وهي أسمى الدعوات، وننادى بفكرة الإسلام وهي أقوى الفكر، ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) البقرة 138، وأن العالم كله في حاجة لهذه الدعوة، وكل ما فيه يمهد لها ويهيئ سبيلها، وأننا بحمد الله براء من المطامع الشخصية، بعيدون عن المنافع الذاتية، ولا نقصد إلا وجه الله وخير الناس، ولا نعمل إلا ابتغاء مرضاته، وإننا نترقب تأييد الله ونصرته، ومن نصره الله فلا غالب له، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ(11)) محمد. فقوة دعوتنا، وحاجة العالم إليها، ونبالة مقصدنا، وتأييد الله إيانا، هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة ولا يقف في طريقها عائق. (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لايَعْلَمُونَ (21)) يوسف» (1)
وقفات تربوية ودعوية مع هذا التوجيه: 1- يؤكد الإمام البنا على أصالة دعوة الإخوان المسلمين، فيحدد في هذا التوجيه مرجعيتها وانتسابها بأنها (دعوة الله)، ويوضح حقيقتها وماهيتها بأنها (دعوة الإسلام)، ويُبين دستورها وشرعتها بأنها (دعوة القرآن). ولأنها دعوة الله، فقد نسبها ابتداءً إلى ربها ومليكها، فلا تنتسب لشخص أو أرض أو جنس، ولذلك فهي (أسمى الدعوات)، وطالما هي دعوة الله، فالله يحميها والله راعيها، ولن تقف في وجهها كل قوى البغي والضلال مهما كانت، وهذه (ربانية دعوتنا).
ولأنها دعوة الإسلام، فقد ردها إلى حقيقتها أنها دعوة إسلامية صميمة في منطلقها ومقصدها، ليس له صبغة غير صبغة الإسلام، ولذلك فهي (أقوى الدعوات)، وطالما هي دعوة الإسلام، فستنتشر ويفتح الله لها الآفاق كما أخبر الصادق المصدوق ﷺ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزٌّ يُعِزُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الإِسْلامَ، أَوْ ذُلٌّ يُذِلُّ بِهِ الْكُفْرَ»، ولن يستطيع كائنًا من كان أن يحيط بها أو يُوقف مدها، وهذه (إسلامية دعوتنا).
ولأنها دعوة القرآن، فقد حدد دستورها وشرعتها، وهو المصدر الأول لأصل فكرتها ومبادئ منهجها، فيحميها من قصور المبادئ الأرضية، وانحرافات الأفكار والمناهج والفلسفات البشرية، (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً (138)) البقرة، وهذه (عدالة شرعتنا).
ويؤكد الإمام البنا في مذكرات على بعض هذه الملامح لدعوة الإخوان فيقول – رحمه الله -: «كذلك كانت وستظل دعوة «إسلامية محمدية قرآنية» لا تعرف لونًا غير الإسلام ولا تصطبغ بصبغة غير صبغة الله العزيز الحكيم، ولا تنتسب إلى قيادة غير قيادة رسول الله، ولا تعلم منهاجًا غير كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه». (2)
2- ولأنها دعوة (ربانية – إسلامية – قرآنية – محمدية) أصيلة، فإن حاجة العالم لها ملحة، لتُصلح ما أفسدته الأفكار المادية والمذاهب الأرضية التي يكتوى العالم بنتائجها، لذلك يؤكد الأستاذ البنا على هذا المعني فيقول: «وأن العالم كله في حاجة لهذه الدعوة، وكل ما فيه يمهد لها ويهيئ سبيلها». يقول الأستاذ سيد قطب: «إن البشرية كلها في حاجة إلينا: في حاجة إلينا، في حاجة إلى عقيدتنا، وفي حاجة إلى مبادئنا، وفي حاجة إلى شريعتنا، وفي حاجة إلى نظامنا الاجتماعي، الذي يكفل الكفاية لكل فرد، ويكفل الكرامة لكل إنسان. ويكفل سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع. كما يكفل السلام الدولي العام. ومن هذه الحاجة الإنسانية – بعد عقيدتنا في الله – نحن نستمد قوتنا وثباتنا على الدعوة إلى عقيدة الإسلام وشريعته ونظامه الاجتماعي الخاص، وسنثبت – بعون الله – ولو تخطفنا الشر والطغيان من كل مكان”. (3)
3- أنها دعوة بريئة من (المطامع الشخصية)، بعيدة عن (المنافع الذاتية)، فمن تأمل في شعاراتها المعروفه وهتافاتها الثابتة لا يجد للشخوص ولا الرموز مكانًا فيها، (الله غايتنا – الرسول قدوتنا – القرآن دستورنا – الجهاد سبيلها – الموت في سبيل الله أسمى أمانينا)، أين الرموز والقيادات والأشخاص في هذه الشعارات الخالدة والمبادئ السامية؟
وقد ذكر الإمام البنا فى رسالة دعوتنا ما يُبين براءة هذه الدعوة ونزاهتها من المطامع والمنافع، فيقول: «ونحب مع هذا أن يعلم قومنا – وكل المسلمين قومنا – أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة بريئة نزيهة، قد تسامت فى نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية، واحتقرت المنافع المادية، وخلفت وراءها الأهواء والأغراض، ومضت قُدماً فى الطريق التى رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين إليه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)) يوسف». (4)
ويُؤكد الإمام حسن البنا على هذه النزاهة والبراءة فى الأصل السادس من الأصول العشرين بقوله: «وكل أحد يُؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم ﷺ، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقاً للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسُنة رسوله أولى بالاتباع..». وعلى هذه المعاني البريئة النزيهة يتربى الإخوان المسلمين، ورغم ذلك نسمع بعض الأصوات تتقوّل عليهم، وتدعي أنهم يقدسون حسن البنا، وغير ذلك من الأقاويل التى لا أساس لها من الصحة. ونقول لهؤلاء، حنانيكم، نحن نحترم رجال دعوتنا وقادتنا، إحترام تقدير لا تقديس، هذا هو منهجنا.
ويوم أن تحمس أحد شباب الدعوة، وقام في المؤتمر الذي عقده طلاب الإخوان المسلمين بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة عام 1938 في حضور الإمام البنا وهتف بحياة الإمام البنا قائلًا: «يحيا الإمام حسن البنا»، فتوقف الإمام عن حديثه وكأن شيئاً قد حدث، وما هي إلا لحظات حتى بدأ حديثه وفيه نبرة لوم وعتاب، فقال:
«أيها الإخوان إن اليوم الذي يهتف فيه في دعوتنا لأشخاص لن يكون ولن يأتي أبدا. إن دعوتنا إسلامية ربانية، قامت على قاعدة (لا إله إلا الله)، فلن تحيد عنها، أيها الإخوان لا تنسوا في غمرة الحماس، الأصول التي آمنا بها وهتفنا لها من كل قلوبنا (الله غايتنا) فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالي، والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُالَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) البقرة، (والرسول قدوتنا)(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) 56 الأحزاب».
نعم إنها دعوة بريئة من المطامع الشخصية والمنافع الذاتية، تربى الإخوان فيها أن يعيشوا بها ولها، يعطونها من أوقاتهم وأموالهم وقوت أولادهم حسبة لله تبارك ولا تعالى، لا ينتظرون منها مغنمًا أو منصبًا أو لقبًا أو مكانة بين الناس، انتسبوا إليها ليُعطوا ويُضحوا لا ليأخذوا ويغنموا. وحقائق التاريخ وتجارب الواقع يؤكدان على حقيقة لا شك فيها: «أن من انتسب لهذه الدعوة بُغية الانتفاع منها، أوطمعا في مآرب شخصية من ورائها، لا يستمر فيها، ولا ينصلح حاله بها، لأنها دعوة خالصة لا تقبل الشراكة، وإن استمر وجوده فيها بهذا الداء، فوجوده حاجز للرحمة، حائل دون التوفيق». 4- أن الإمام البنا فى هذا التوجيه يبث فى قلوب الدعاة الأمل بتأييد الله لهم، ويدعوهم إلى ترقب النصر، والتعبد إلى الله بانتظار الفرج، وألا يتطرق الضعف أو اليأس إلى قلوبهم لأن الله معهم، ومن كان الله معه فمن يكون عليه، ومن ينصره الله فلا غالب له، ومن يُغالِبِ اللهَ يُغْلَب.
كتب الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله – يوماً، يطمئن الإخوان على دعوتهم ومسيرة جماعتهم، فقال: «إلى الإخوان عامة والشباب منهم بخاصة أن يطمئنواعلى جماعتهم وحفظ الله لها، وأنها ارتبطت بدعوة الله ولن يقضي عليها كيد الأعداء بإذن الله، وليثق الاخوان فى طريقهم وأنهم ملتزمون طريق رسول ﷺ، ولم تغير الجماعة مسارها رغم الفتن والابتلاءات، وألا ينزعج الاخوان وبخاصة الشباب من أي تشكيك أو ادعاءات باطلة تلصق بجماعتهم من أي جهة، هذه الدعوات الحقة لابد لها من العقبات فى طريقها، لكن قوة دعوتنا وحاجة العالم إليها ونبالة مقصدنا وتأييد الله لنا هي عوامل النجاح التى لا تثبت أمامها عقبه ولا يقف فى طريقها عائق، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يوسف ٢١». (5)
أسال الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يرزقنا جميعا الإخلاص في القول والعمل وفي السر والعلن. إنه سميع مجيب الدعاء. وصلى الله وسلم على رسولنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى اله وصحبه ومن والاه، والحمد لله رب العالمين.
————————- (1) المصدر: رسالة بين الأمس واليوم، للإمام حسن البنا. (2) مذكرات الدعوة والداعية – 162 (3) من مقال للأستاذ سيد قطب بعنوان: (البشرية الآن في حاجة شديدة للدعوة الإسلامية). (4) رسالة دعوتنا. (5) المصدر: مقال للأستاذ مصطفى مشهور، نشر بمجلة الدعوة (يوليو 1981).
0 Comments to “نظرات في تُراث الإمام حسن البنا (12)”
zadussaerin
رحم الله الإمام المجدد حسن البنا