نظرات في تُراث الإمام حسن البنا (13)

ما تقوم عليه دعوتنا بقلم: الدكتور محمد حامد عليوة

استكمالا لسلسلة نظرات في تراث الإمام حسن البنا، نتناول في هذه الحلقة – (13) – بالنظر والتفكر أحد إسهامات الإمام حسن البنا في ميدان التربية والدعوة، وهو جزء هام من مقال نُشر لفضيلته في جريدة الإخوان المسلمون الأسبوعية، وقد نُشرت تحت عنوان (توجيهات)، وهي التوجيهات كان يقدمها المرشد العام أسبوعيًا إلى الإخوان في مختلف الأقطار، وقد جاء فيه:

(ما تقوم عليه دعوتنا)

«أيها الإخوان: دعوتكم هذه تقوم على أصول ثلاث: معرفة الله، وصلاح النفس، ومحبة الخلق، والمعرفة إنما تكون بالتذكر والمراقبة، وصلاح النفس بالطاعة والمجاهدة، ومحبة الخلق بالنصيحة والإيثار، وأن أول ما أطالبكم به عمليا، وأحاسبكم عليه باسم الفكرة:

1- أن يجعل كل منكم لنفسه حصة من القرآن الكريم يقرؤها، وآية على الأقل يحفظها يوميا.
2- وأن تحرصوا على جلسة المحاسبة قبل النوم، يستعرض كل منكم فيها عمله اليومي بينه وبين نفسه، فإن وجد خيرا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليعزم على تدارك ما فات.
3- وأن تحرصوا على هذه الصلوات الخمس في أوقاتها، وأن تحسنوا أداءها، وتفقهوا أحكامها، وتتموا ركوعها وسجودها وخشوعها، وتجيدوا وتتدبروا ما تقرءون من كتاب الله فيها، ولا تقصروا في النوافل الرواتب، وأن تتحروا المسجد والجماعة ما استطعتم، وأن تحرصوا ما أمكنكم على صلاة الصبح في وقتها، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَأنَ مَشْهُودًا). سورة الإسراء 78)» (1)

إرشادات وفوائد من هذا التوجيه:
1- أن معرفة الله هي عماد كل نصر، وسبيل كل فوز، فمن عرف الله عرف كل شيء، ومن فاتته معرفة الله فاته كل شيء، ومعرفة الله هي السبيل لمعيته، وإذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك.

يقول الأستاذ البنا في أحد مقالاته: «معرفة الله هي عصا التحويل التي تنقل الفرد والجماعة من حال إلى حال، وحسن الاعتماد عليه وحده هو أظهر علامات الإيمان الصادق، فحققوا في أنفسكم وفي أعمالكم هذه الصلة بربكم، واعتمدوا عليه وحده ولاتخافوا غيره، ولا ترهبوا سواه».

ويقول في موضع آخر: «إذا لامست معرفة الله قلب الإنسان تحول من حال إلى حال، وإذا تحول القلب تحول الفرد، وإذا تحول الفرد تحولت الأسرة، وإذا تحولت الأسرة تحول المجتمع، وما المجتمع إلا مجموعة من الأفراد والأسر».

2- أن صلاح النفس أحد ثمار معرفة الله وحسن الصله به سبحانه، وصلاح النفس أساس كل خير، وسبيل كل رشد، فمن صلحت نفسه استقام أمره، ومن استقام أمره فقد استبصر طريقه، ومن استبصر طريق سار مهتديا إلى ربه. وبصلاح النفس تنصلح الأحوال وتزول الأهوال. والصلاح في ميدان النفس هو أول مراتب الإصلاح، ولذلك جعل الإمام البنا بناء الفرد المسلم الصالح بصفاته المعروفة هي مناط التغيير، ومنطلق العمل لهذا الدين. يقول الإمام البنا في أحد مقالاته: «يا شباب الإخوان المسلمين، ميدانكم الأول أنفسكم، فإذا انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنتم عما سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها أولًا». ويقول رحمه الله: «إذا وجد المسلم الصحيح وجدت معه وسائل النجاح جميعًا».

3- أن محبة الخلق أحد ثمار محبة الله لك، فإذا أحبك الله ألقى محبتك في قلوب الخلق، ومحبة الخلق لك رأس مال لا يُقدر بثمن، وإقبال الناس عليك نتيجة طبيعية لصلاحك وإقبالك على ربك، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)) طه. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات – وهي الأعمال التي ترضي الله، عز وجل، لمتابعتها الشريعة المحمدية – يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه».

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَأنًا فَأَحِبَّهُ. قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَأنًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَأنًا فَأَبْغِضْهُ. قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَأنًا فَأَبْغِضُوهُ. قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ. ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ» رواه الشيخان.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: «ما من عبد يعمل خيرًا أو شرًّا إلا كساه الله عز وجل رداء عمله». ويقول هَرِم بن حَيَّأن كان: «ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم».

4- أن هذه الأصول الثلاثة (معرفة الله – صلاح النفس – محبة الخلق) تؤكد على شمول دعوة الإخوان المسلمين، وأن محاور النهوض فيها تشتمل على ثلاث أبعاد للعمل والحركة، وهي محاور وأبعاد متواصلة متكاملة (مع الله – مع النفس – مع الخلق)، مع الله بمعرفته، ومع النفس بإصلاحها، ومع الخلق بمحبتهم.
كما تؤكد هذه الأصول الثلاثة (معرفة الله – صلاح النفس – محبة الخلق) على ربانية دعوة الإخوان المسلمين، لأنها ترتكز في أساسها على العلاقة بالله وارتباط القلوب به سبحانه وتعالي، ولذلك يؤكد الإمام البنا على أن الربانية هي الأساس الأول الذي تقوم عليه دعوة الإخوان المسلمين، بل تعد الربانية أسمى أهدافها وأول أوصافها، فيقول في رسالة دعوتنا في طور جديد: «أول أوصاف دعوتنا أنها ربانية».

5- يحرص الإمام البنا أن ينقل إخوانه في هذه الوصية الغالية إلى ميدان العمل والتطبيق فقال: «وأن أول ما أطالبكم به عمليا، وأحاسبكم عليه باسم الفكرة»، ثم ذكر لهم ثلاث واجبات عملية هي (الارتباط بالقرآن الكريم – محاسبة النفس – وصلاة الفريضة ونوافلها)، ونستخلص بعض المعاني التربوية من هذه الوصايا الثلاث هي:
أولًا: أن هذه الوصايا الثلاث هي أساس لما سبق

—————–
(1) المصدر: من توجيهات الإمام حسن البنا، نُشرت في جريدة (الإخوان المسلمون)، العدد 7، السنة الأولى 12 ذو القعدة 1361هـ، الموافق 21 نوفمبر 1942م.

اترك تعليقا