وجهوا قلوبكم بصدق إلى الله وحده– بقلم: الدكتور محمد حامد عليوة
يؤكد الإمام الشهيد حسن البنا في أحد مقالته التي نشرت في جريدة الإخوان المسلمين – أكتوبر 1943، على ضرورة تحقق الربانية في صفوف الإخوان المسلمين، حيث يوصيهم في هذا الجزء من المقال على أهم صلة وأفضل علاقة وأصدق توجه وهي: (ارتباط القلوب بخالقها، واتصالها الدائم ببارئها، وتوجهها الصادق نحو ربها)، فيقول رحمه الله: «أيها الإخوان: إن أول ما أوصيكم به أيها الأحباب الأعزة، أن يصدق توجه قلوبكم إلى الله وحده، وأن تشرق أرواحكم بمعرفته، وتمتلئ قلوبكم بخشيته، وتأنس أنفسكم بجمال اليقين وعظيم الثقة به، ودوام مراقبته في كل قول وعمل، وأن تستقيموا على أمره، وتلتزموا حدوده وأحكامه، فذلك رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، وشتان ما بين قلب خاو لايتصل بالله في شيء، وبين قلب استنار بأضواء الإيمان، وأشرق بشمس اليقين». (1)
والناظر بتمعن في هذا التوجيه المهم نقف أمام جملة من المعاني والإرشادات الدعوية والتربوية، منها:
1- أن للفرد المسلم على طريق الدعوة ثلاث علاقات كلية تندرج تحتها جملة من الواجبات والتكليفات، والعلاقات هي (مع ربه – مع نفسه – مع الناس)، وأن أساس النجاح في العلاقة الثانية والثالثة، والقدرة على أداء متطلباتهما يقوم على النجاح في العلاقة الأولى والوفاء بمتطلباتها، وبالتالى فتحسن علاقة الفرد ربه هي أساس النجاح، وهو الأمر الذي أكد عليه الإمام البنا في مواضع أخرى من تراثه الزاخر، فنجده يقول: «كونوا عبادًا قبل أن تكونوا قوادًا، تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة».
فقيادة الناس وسياستهم وإصلاحهم تقوم على أمرين الأول: أن يتزود المصلح بالزاد الايماني التعبدي من خلال علاقته بربه، فيصبح مسلمًا (سليم العقيدة صحيح العبادة)، والثاني: أن هذا الزاد الايماني يدفعه ليصلح من نفسه ويجاهدها ويزكيها فيصبح مسلمًا (متين الخلق مجاهدًا لنفسه)، ومن هاتين الركيزتين يستطيع أن ينطلق بتوفيق وسداد مصلحًا بين الناس (نافعًا لغيره)، متسلحًا بجملة أخرى من الصفات اللازمة لرجل الدعوة وهي: (قوي البدن – منظم في شئونه – حريص على وقته – قادر على الكسب – مثقف الفكر).
كتب الإمام البنا – مؤكدًا على هذا المعنى – في ختام أحد مقالته موجهًا النداء للإخوان المسلمين: «تقدموا – أيها الإخوان – لإنقاذ أمتكم بإصلاح النفوس، وتطهير الأرواح، وتزكية الأفئدة، وتقويم الأخلاق، (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد 11، وكونوا أنتم المثل الحي والنموذج الأول من طراز المسلم الصحيح خُلقًا وعملًا».(2)
2- ما أجمل صدق التوجه إلى الله وحده، وما أجلّ القرب من الله حين تشرق الأرواح بمعرفته، وتخضع الجوارح لطاعته، وتمتلئ القلوب بخشيته، وتأنس النفس بجمال اليقين وعظيم الثقة، إنها الحقيقة التي أقرها الإمام البنا وسطرها في (موضوع الانشاء) الذي حدد فيه أعظم أمانيه بعد التخرج، فقال: «وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرمي الإنسان إليها، وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضا الله عنه، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه، وعذاب غضبه».
فمن تعلَّق باللـه وأنزل حوائجه بجنابه، والتجئ إليه ولاز ببابه، وفوَّض أمره إلى لمولاه، كفاه الله وهداه، وقرَّب إليه كل بعيد، ويسَّر له كل عسير. وما أحوج المصلحين لهذه القوة الروحية، والعلاقة الربانية، والصلة النورانية، حتى يتسنى لهم السير السليم والسلوك القويم على طريق الدعوة.
هذه الصلة الروحية والعلاقة القلبية بالله تضبط موازين الأخ على الطريق، فبعد أن يأخذ في حركته ودعوته بالأسباب البشرية والمادية، لا بدَّ أن يرد الأمر لخالق الكون مسبب الأسباب، فلا يتعجل النتائج ولا يستبطئ النصر، ولا يضعف أمام الباطل، ولا يساوم على مبادئ دعوته، ولا ييأس من وحشة الطريق وقلة السالكين، ولكن يثق في طريقه وفي دعوته وفي تأييد الله لعباده. وهذه الصلة الربانية تجعله أيضًا لا ينشغل بأعراض الدنيا الفانية الزائلة، ففي الوقت الذي لا ينس فيه نصيبه من الدنيا تراه دائمًا في انشغال بالآخرة، يجعلها دائما أكبر همه.
يقول الأستاذ البنا: «فالأخ المسلم يعيش للحق، ويجاهد في سبيل الحق، والحق عنده هو دين الله وشرعه، والجزاء عنده هو رضوان الله ومثوبته، أما هذه الدنيا بما فيها من ملك عريض وجاه فارغ ومال زائل وأمتعة فانية وأهواء جامحة فلا تزن عند أهل الحق جناح بعوضة، إن الأخ المسلم حين يهتف الله غايتنا فإنما يقصد أنه لله يعمل وبه ينتصر ومنه يرجو الثواب، إنه يتمثل قول الله تعالى:(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَأوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)الأنعام 79، وقوله:(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَأيَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)الأنعام 162)».
3- إن القلوب حين تتصل بالله اتصالًا قويًا وصادقًا فإن النفوس تأنس بجمال اليقين وعظيم الثقة، وينعم العبد بلذة الافتقار إلى الله، وهي منزلة ما أحوجنا إليها على طريق الدعوة، طريق العمل والانجاز والحركة، لأن النفس قد ترد الإنجاز والنتائح إلى قوتها ومقترتها ومهاراتها، وتنس أن يد الله تعمل، وأن أي توفيق هو من الله، ولذلك فلذة الافتقار إفى الله يحتاج إليها السائرون العاملون على طريق الدعوة.
والافتقار إلى الله تعالى هو لب العبادة ويعني: أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه عز وجل متذللًا بين يديه، مستسلمًا لأمره ونهيه، متعلقًا قلبه بمحبته وطاعته. يُعرف الامام بن القيم – رحمه الله – في مدارج السالكين الافتقار إلى الله بقوله: «حقيقة الفقر: أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء مناف للفقر». ثم قال: «الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه».
4- والصلة النورانية بالله تُورث العبد الخشية من الله ودوام مراقبته سبحانه في كل أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة، فتنصلح سرائر العباد وظواهرهم، والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية (ومنها الخشية والمراقبة) والعبادات العملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة. يقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَأيَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163]. فالصلاة في الآية مثال للعبادات العملية، أما النسك فهو تعبير عن أعمال السرائر والقلوب، كما عرفه الإمام يحيى بن معاذ: «النسك هو: العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله عز وجل من القلب»(3)
ولأن طريق الدعوة طريق عطاء وعمل وحركة، يراها الناس أو يرى أثرها الناس، لذلك وجب على سالكيه أن يتفقدوا قلوبهم، ويلجموا نزوات عواطفهم، ويضبطوا مشاعرهم وفق مُراد الله، وأن تكون وجهتهم صادقة، فلا يغرنهم اجتماع الناس حولهم، ولا يحرصوا أن يقول الناس عنهم عاملون باذلون، ولكن ما يجب أن يهتم به الدعاة ويحرصوا عليه إخلاصهم وحسن قصدهم ومراقبة ربهم. قال أبو حفص لأبى عثمان النيسابوري: «إذا جلست للناس فكن واعظًا لقلبك ونفسك، ولا يغرنك اجتماع الناس عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله رقيب على باطنك». ويقول الإمام حسن البنا في أحد وصاياه للإخوان المسلمين: «يا أخى: لا تقل ما لا تفعل، ولا يغرنك أن يحسبك الناس عاملًا، ولكن همك أن يعلم الله منك صدق ذلك، فإن الناس لن يُغنوا عنك من الله شيءًا».(4)
5- بعد أن استفاض الإمام البنا في أهمية الصلة القلبية بالله ومراقبته وخشيته، انتقل إلى الترجمة العملية لهذه الصلة الروحية فأكد رحمه الله على أمر الاستقامة وضرورة الالتزام بحدود الله وأحكامه، وهي نقله طبيعية تنبعث أولًا من داخل النفس، فكل حالة سلوكية ملتزمة ومستقيمة تؤديها الجوارح تنبع من حالة قلبية مستقرة استنارت بأضواء الإيمان، وأشرقت بشمس اليقين. لأن القلب إذا استقام استقامت الجوارح كما أخبر أهل العلم، يؤكد ذلك حديث النبي ﷺ: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت، فسد لها سائر الجسد، الا وهي القلب»، رواه الشيخان. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده. فإذا كان القلب صالحًا بما فيه من الإيمان علمًا وعملًا قلبيًا لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق».(5)
وقال شيخ الإسلام بن تيمية: «ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب». من هنا كانت الاستقامة التي أكد عليها الامام البنا في وصيته، والتى عرفها الإمام بن القيم فقال: «الاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء، والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات فالاستقامة فيها، وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله».
فما أجمل وأعظم من أن يستقيم المرء على أمر به كما قال الإمام بن تيمية: «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة». وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله، والحمد لله رب العالمين.
———————- (1) المصدر: من مقال للإمام حسن البنا نشر بجريدة الإخوان المسلمين، بتاريخ 24 شوال 1362هـ – الموافق 23 أكتوبر 1943م. (2) من مقال للإمام البنا، نُشر بجريدة الإخوان المسلمين – فبراير 1934م. (3) من كتاب: ذم الهوى ، للإمام ابن الجوزي. (4) من مقال للإمام حسن البنا، نشر في ديسمبر 1936. (5) مجموعة الفتاوى للإمام اابن تيمية.