حقيقة الانتساب للدعوة – بقلم: الدكتور محمد حامد عليوة
استكمالاً لسلسة (نظرات فى تراث الإمام حسن البنا)، نقف اليوم أمام توجيه موجز وبليغ من تراثه الزاخر، نشرته مجلة النذير فى عددها رقم (34)، بتاريخ 3 رمضان 1358هـ، الموافق 17 أكتوبر 1939م. وقد وردج تحت عنوان: (إلى شُعَب الإخوان فى نواحى القطر المختلفة). وفيما يلي مقطع من هذا التوجيه :
يقول الإمام حسن البنا – رحمه الله:
«الآن وقد عدت إلى القاهرة بعد رحلات الصيف المتلاحقة فى الوجهين البحري والقبلي، أحب أت أتحدث قليلا على صفحات النذير إلى شُعَب الإخوان المختلفة فى القطر كله.
يا شُعب الإخوان، أشكر لكم ما لقيت منكم من حفاوة وتكريم حين سعدت بزيارتكم، وشرفت بالمقام بينكم ساعات هي من ساعات الدهر الموفقة بلا شك، والحمد لله.
وأهيب بكم أن اعملوا فليس ينفعكم من الدعوة أن تنتسبوا إليها، وتتصلوا رسميا بها ثم تقعدون بعد ذلك عن خدمتها ونشرها والجهاد فى سبيلها، وما كان كذلك أسلافكم الصالحون، فهم رضوان الله عليهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ودأبوا على الجهاد لدينه، والعمل مع نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أتاهم اليقين، وهم أشد ما يكونون بدينهم استمساكاً، وفى سبيل نشره عملا وجهادا، وإن كثيرا منكم ليتسائل: وماذا نعمل؟ وما أكثر سبل العمل أمام المجدين!
ليقبل كل عضو من الإخوان على نفسه فيطهرها ويحاسبها ويؤاخذها ويعالجها حتى تنطبع بطابع الإسلام الصحيح. ليأخذ كل عضو منكم نفسه وبيته بتعاليم دينه وقواعده فى رفق ولين، حتى يكون فى بيوت الإخوان الأسر الإسلامية التى هي نواة للنهضة المرتجاة». (1)
الدروس التربوية والفوائد الدعوية:
1- أن القائد القدوة على طريق الدعوة؛ دائماً ما يتفقد إخوانه ومريديه بالزيارة والمخالطة والمعايشة العملية، فهو ميداني بطبعة، لأن الإحتكاك التربوي المباشر بالأفراد له آثاره العميقة فى عملية التربية والتكوين. وهذا نهج رسولنا وقدوتنا ﷺ فى تربية أصحابه، من خلال مخالطتهم ومعايشتهم، واستثمار المواقف الحية والأحداث الواقعية فى تربية صحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
2- أن يُشعر القائد إخوانه بعد كل عمل أو موقف أو احتكاك تربوي بهم، بأثر ذلك فى نفسه، ويعبر لهم عن مشاعره تجاههم خلال المقام بينهم، وسعادته برؤياهم.
هي تعبيرات بسيطة لكنها بالغة الأثر فى نفوس من ندعو ومن نربي، هي لمحات سريعة من القائد ولكنها تؤكد لهم قوة الترابط وحقيقة الوشائج؛ فهي روابط قلبية ومشاعر أخوية، يجب أن نُغذيها ونُقويها كلما سنحت الفرص لذلك.
3- يبين فضيلة الإمام البنا حقيقة الانتساب للدعوة، أنه انتساب فعل وأداء قبل أن يكون انتساب عضوية وانتماء، فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وبالتالى وجب علينا أن نترجم هذا الانتساب عمليا، ولا نقعد عن خدمة دعوتنا والحركة بها والجهاد فى سبيلها. (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فصلت 33، فقبل أن أقول أنا مسلم ، لابد من العمل الصالح والحركة بالدعوة التى تؤكد حقيقة انتمائى لهذا الدين العظيم .
4- يؤكد فضيلة الأستاذ البنا على أهمية بناء الفرد فى هذه الدعوة ، ولاسيما التربية الذاتية للفرد نحو نفسه ، لأنه بصلاح الفرد تنصلح كل الدوائر المحيطة بالتبعية (البيت – المجتمع)، ففى حديث النبي ما يؤكد ذلك ، عَنْ جابر بن عبد الله ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُصْلِحُ بِصَلاحِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَلَدِهِ ، وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَأَهْلِ دُوَيْرَتِهِ، وَدُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، وَلا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ».
كما يرشدنا توجيه الإمام البنا إلى أن محاسبة الفرد لنفسه ورعايتها ومعالجة ما ينتابها من أمراض وعلل أمر غاية فى الأهمية، لأن الفرد هو منطلق وأساس التغيير فى الأمة، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد 11. ورحم الله الإمام البنا حين قال: «كَوّنُوا أنفسكم تتكون بكم أُمتكم».
5- ويوجهنا أيضا – بعد رعاية النفس وتربيتها – أن نهتم ببيوتنا وأُسرنا، لأن البيت المسلم نواة المجتمع المسلم، بل كما قال الإمام أن «البيت المسلم هو أصلح نواة للنهضة المرتجاة». ولا يظن الأخ أن بيته سينتمى لركب الدعوة ويلتزم بمبادئ الدين بمجرد الأمانى، ولكن الأمر يحتاج منا إلى جهد وعمل، فلا ينشغل الأخ عن بيته، وليعلم أن جهده فى تربية البيت هو واجب شرعي وواجب دعوي، فلا ندعى انشغالنا بالدعوة عن تربية أولادنا وبيوتنا، فمن قال لك أن جهدك الدعوي فى البيت ليس من أعمال وواجبات الدعوة؟!. إنه من صميم واجبات الدعوة.
لابد أن تمتد دعوة الخير والبر فى بيوتنا وأولادنا، لأن العجز الحقيقى أن ندعى الإنجاز خارج بيوتنا وهي خاوية. وقد حذرنا الحبيب المصطفى ﷺ من التفريط فى هذه الأمانة أو إهمالها وعدم رعايتها فقال: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُوْلُ»، «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ».
والبيت المسلم منطلق للدعوة وميدان أساسي لها، ولذلك يجعله الإمام البنا المرتبة الثانية من مراتب العمل فى هذه الدعوة الميمونة المباركة فيقول : «وتكوين البيت المسلم بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية، وحسن اختيار الزوجة وتوقيفها على حقها وواجبها، وحسن تربية الأولاد والخدم وتنشئتهم على مبادئ الإسلام، وذلك واجب كل أخ على حدته كذلك.» رسالة التعاليم
وقد ختم الإمام حسن البنا توجيهه بكلمات غاية فى الأهمية فقال رحمه الله:
«أيها الإخوان فى كافة الشُعب: إن وراءكم عملاً كثيراً، وإن دعوتكم تنتشر وتتقدم، وإن الظروف المحيطة بنا تستدعي كل يقظة واهتمام، وإننا متيقظون، فكونوا دائما على استعداد.
أيها الإخوان: إن العمل الصامت أفضل ألف مرة من الجعجعة التى لا طحن فيها، بل أفضل من العمل مع الكلام، فاعملوا صامتين، وأخلصوا النية فى عملكم لله، سنجتاز ظروفاً شديدة، ونصادف مفاجآت شديدة، فكونوا ثابتين لا تزعزعكم العواصف ما دمتم مع الله، فالله معكم (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) آل عمران 160». انتهى توجيه الإمام البنا.
ولعل الجزء الأخير من التوجيه، واضح وَبَيّن، ويُغنى بجزالته عن التعليق عليه أو بيان فوائده ودروسه. رحم الله أستاذنا الإمام الشهيد حسن البنا، وأجزل له العطاء والمثوبة، ونفعنا بعلمه وخيره، وجمعنا به مع حبيبنا المصطفى ﷺ وأتباعه المتقين فى جنات النعيم (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)). سورة القمر.
والحمد لله رب العالمين
——————————— (1) المصدر: مقال للإمام البنا، مجلة النذير فى عددها رقم (34)، بتاريخ 3 رمضان 1358هـ، الموافق 17 أكتوبر 1939م.