نظرات فى تُراث الإمام حسن البنا (5)

بناء الرجال – بقلم: الدكتور محمد حامد عليوة

نستكمل سلسلة نظرات في تراث الشهيد حسن البنا، لنلقى الضوء على بعض ما في رسائل الإمام وتراثه الزاخر من معانى وتوجيهات، ونستخلص منها الدروس التربوية، والفوائد الدعوية، التي تمثل لنا زاد على طريق الدعوة.

(بناء الرجال)

نلقى هنا الضوء على توجيه للإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله – حول: (بناء الرجال وأنهم سر حياة الأمم ومصدر نهضتها). فقد أورد الإمام في رسالته القيمة (هل نحن قوم عمليون؟) مايلي:

«إن الرجل سر حياة الأمم، ومصدر نهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تُقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة، وإنى أعتقد – والتاريخ يؤيدني – أن الرجل الواحد في وسعه أن يبنى أمة إذا صحت رجولته، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء».(1)

إشارات وفوائد تربوية ودعوية من هذا التوجيه:
1- أن بناء وتكوين الفرد المسلم هو أول مراتب العمل من أجل النهوض والتغيير سواء على مسنوى المجتمعات أو الدول أو الأمم، ولذلك جعل الإمام البنا مرتبة الفرد أول مراتب ركن العمل. ولأهمية هذه المرتبة ومكانتها في عملية التغيير والبناء والنهضة، وضع لها الأستاذ البنا مجموعة من الصفات التربوية اللازمة لهذا الفرد، ليكون بها صاحب أثر فاعل في هذا التغيير، فالفرد لا يستطيع أن يُسهم فى تغيير بيته ومجتمعه إلا إذا أصلح نفسه وكونها على هذه الصفات العشر، وهي: (قوي الجسم – متين الخلق – مثقف الفكر – قادرًا على الكسب – سليم العقيدة – صحيح العبادة – مجاهداً لنفسه – حريصاً على وقته – منظمًا في شئونه – نافعاً لغيره).

2- أن الرجولة التي يقصدها الإمام البنا في قوله، ليست رجولة النوع أو الجنس، ولكنها رجولة الفعل والأثر، رجولة القيم والخُلق، رجولة المبادئ والمواقف، رجولة الإنتاج والإنجاز، رجولة الصفات والمميزات، وبالتالى يندرج تحت هذه الرجولة المقصودة من اتصفن بصفات الرجولة من النساء.

والمتأمل في قول المولى عز وجل: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب 23، يجد أن اللفظ يشمل ويعم كل المؤمنين – رجالاً ونساءً -، وتاريخ الدعوة يشهد بذلك، ونماذج الصادقين فى عهودهم من الرجال والنساء كثيره، وما بدلوا تبديلا.

3- أن الفرد المسلم هو القاسم المشترك في كل مراتب العمل، بدأً من الفرد وحتى أستاذية العالم، فالفرد الذي تربي تربية صحيحة هو عماد هذه المراتب جميعاً، لا تقوم إلا به، ولا يمكنها أن تنهض بدونه، فالبيت المسلم القدوة يقوم على زوج صالح وزوجة صالحة، والمجتمع المسلم يعمه الصلاح بصلاح أفراده، ومع وجود الأفراد الصالحين المصلحين فى شرائح المجتمع وميادينه المختلفه يكونوا بمثابة دعاة خير ورواد إصلاح وبر فى مجتمعاتهم ، وهكذا حتى الخليفة العادل الصالح ما هو إلا فرد مسلم، اكتملت رجولته، واتصف بصفات الصلاح والإصلاح.

من هنا يتبين مكانة الفرد فى كل مراتب الإصلاح، فهو منطلق وأساس التغيير في الأمة، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد 11. ورحم الله البنا حين قال: «كَوّنُوا أنفسكم تتكون بكم أُمتكم».

4- أن الفرد المسلم النابغ صاحب القوة النفسية والإرادة القوية هو سر حياة بيته ومجتمعه وأمته، وبه تتحقق أسباب النجاج جميعًا؛ كما وضح الإمام البنا حين قال: «إذا وجد المسلم الصحيح وجدت معه وسائل النجاح جميعا».

5- أن الرجال الصادقون هم رأس مال الأمة، وبالتالى وجب على دعاة الإصلاح والتغيير أن يحسنوا استثمار هذه الثروة، وأن يهيئوا البيئة التربوية الصالحة الخصبة التي تنتج الرجال، فهم الأقدر على مواجهة الصعاب وتغيير الواقع في هذه السبيل الموحشة. يقول الأستاذ البنا: «وليس للأمة عدة في هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة، والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء بالتضحيات، والإقدام عند الملمات، وبغير ذلك تُغلب على أمرها، ويكون الفشل حليف أبنائها». رسالة هل نحن قوم عمليون؟

6- أن أي جهود تربوية تتجاوز الفرد وتًهمله ولا تركز عليه بدعو أن هناك قضايا أكبر وأهم من بناء الفرد، فهي جهود غير مضمونة النتائج وغير مستمرة الأثر، فكم من الأمم والمدنيات قامت وسقطت سقوطاً مروعًا، لأنها لم تولى تربية الأفراد أي اهتمام، وتعاملت معهم كـ (ماكينات للإنتاج) أو أدوات لبسط النفوذ والسيطرة على الآخرين، دون مراعاة لقيم أو أخلاق أو مبادئ. وصدق أمير الشعراء: أحمد شوقى، حين قال: 

وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ .. فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا

7- أن بناء الرجال على طريق الدعوة، – ولا سيما أصحاب القدرات والإرادات القوية والتأثير الفاعل – يكون له أثره الإصلاحي والتأثيري في الدوائر المحيطة به والمتواصلة معه، لأنه بصلاح الفرد تنصلح كل الدوائر المحيطة به بالتبعية (البيت – المجتمع بمكوناته وحلقاته – وغيرها من دوائر التأثر)، ففي حديث النبي ما يؤكد ذلك، عَنْ جابر بن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ اللَّهَ لَيُصْلِحُ بِصَلاحِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَلَدِهِ، وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَأَهْلِ دُوَيْرَتِهِ، وَدُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، وَلا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَأمَ فِيهِمْ».

8- وكأنى ألمس في توجيه الإمام البنا ضرورة رعاية أصحاب المواهب والقدرات على طريق الدعوة رعاية خاصة، فلا تنسينا التربية والتكوين لعموم الدعاة أن نلتفت إلى أصحاب الطاقات والقدرات والارادات القوية، فكثير من التحولات في تاريخ الأمم والشعوب نجد مجموعة من النابهين أصحاب الطاقات يقودون عمليات التغيير، ففي حديث النبي : «اعملوا فكل ميسر لما خُلق له»، وقوله : «إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» صحيح مسلم.

9- أن الرجولة الصحيحة هي سر نهضات الأمم، وأن كل نهضة كان لها من القادة الفاتحين والأفذاذ المرموقين الذي كانت لهم آثارهم التى لا تمُحي. وأن الأمم المجاهدة فى فترات إنتقالها وتحولها ونهضتها تكون فى أمس الحاجة رجال تمثلت فيهم صفات الرجولة الصحيحة.

والإمام حسن البنا، يذكر فى هذا الصدد: «ولكن الأمم المجاهدة التي تواجه نهضة جديدة وتجتاز دور انتقال خطير،… في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس، وتشييد الأخلاق، وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة، حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب.
إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم، أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة، وإني أعتقد – والتاريخ يؤيدني – أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمةً إن صحت رجولته، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء».(2) 

وصلى الله وسلم على الحبيب محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، والحمد لله رب العالمين

———————————
(1) المصدر: رسالة (هل نحن قوم عمليون؟)، والتى صدرت بتاريخ 28 ربيع الأخر 1353هـ، الموافق 10 أغسطس 1934م
(2) من مقال للإمام حسن البنا، نشر فى جريدة الإخوان المسلمين، العدد 17، الصادر بتاريخ 20 جمادي الأول 1353هـ – الموافق 28 أغسطس 1934م. وهذا المقال يعد جزء من رسالة: (هل نحن قوم عمليون؟).

اترك تعليقا