هذه مجموعة من الوصايا للأحبة، في ظلال المحنة التي تمر بها الدعوة، والهجمة الشرسة التي يتعرض لها الدعاة والمصلحين في أنحاء الأمة، آملين من خلالها أن نبث الأمل في النفوس، ونحث أنفسنا على مواصة البذل واستفراغ الوسع، وتأتي تحت عنوان: (وصايا وبشائر في زمن المحن)، وهي وصايا تحمل في ثناياها: (يقين دائم .. وأمل قادم .. وفجر باسم) إن شاء الله تعالى.
أيها الأحباب الكرام .. إليكم هذه الوصايا التى أوصي نفسي وإياكم بها، عسى أن يجعل الله لنا فيها النفع والرشاد، في سيرنا على طريق الدعوة المباركة: 1- ضرورة الثقة واليقين في نصر الله – سبحانه وتعالى – لدعوته، وتأييده لعباده وأوليائه، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)) [الأعراف]، فهم في حفظه وولايته من كيد الكائدين ومكر الماكرين. ومن كانوا فى ولاية ربهم فلن يخذلهم أبداً، وهو بقوته معهم، ومن كان الله معه فلن يقدر عليه أحد. وبهذه الثقة وهذا اليقين، لا يغرنكم علوّ صوت الباطل وانتفاشة الظالمين، فهي أصوات جوفاء، وانتفاشة هوجاء، ستأخذهم لحتفهم المقدور كما سبقهم فرعون المغرور. والله غالب على أمره.
2- أحسنوا الظن بمولاكم سبحانه وتعالى، فهو سبحانه عند ظن عبده به، ولا يخذل عبدًا أحسن الظن به. فالأمر أمره، والمُلك ملكه، وله الكبرياء والعظمة وحده، ولا يقع في ملكه شيئاً إلا بعلمه ووفق مشيئته.
ولا تظنوا أن الطغاة البغاة بعيدين عن انتقامه، أو مفلتين من عقابه، إنما يُمهلهم حتى إذا إخذهم كان أخذه أليم شديد، فيشفي به صدور قوم مؤمنين ويُذهب غيظ قلوبهم، لأنهم وثقوا بربهم وأحسنوا الظن بمولاهم.
3- اليقين في وعد الله سبحانه بالدفاع عن عباده المؤمنين به، واليقيين ببغضه – سبحانه – لكل خوان كفور (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّأنٍ كَفُورٍ) [الحج: 38].
4- الإيمان الكامل بأن الحق ظاهر وأن الباطل زاهق، وأن الحق يحمل قوته فيه وأن الباطل يحمل ضعفه فيه، وأن الحق أبلج وأن الباطل لجلج، وأن ارتفاع صوت الباطل وترعرع شجرته لا يعني قوته ودوامه، لأن الحق بقوته سيجتث شجرة الباطل، ولن يبقى لها قرار ولا ثمار. (وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَأنَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81]، فسبحان من وعده حق.
5- اليقين التام بأن حملات التشويه والتشكيك في الدعوة، والنيل من الدعاة، بقتلهم وسلب حرياتهم، ومحاربتهم في أرزاقهم وأعمالهم لن تنال منهم إلا ما كتب ربنا وقدَّر، وحوادث التاريخ تؤكد؛ أن حملات الكيد بالدعوة والدعاة – مع ثباتهم وصلتهم بربهم – لن تحقق مآربها وستعود على أصحابها بالحسرة والخسران. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون) [الأنفال: 36]
6- اليقين بهلاك الظالمين المعتدين الذين استباحوا الحرمات، وأن وعد الله فيهم نافذ في الدنيا والآخرة، وأن دماء الأبرياء ومظالمهم ستكون وبالًا على الظالمين وأعوانهم. (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم: 13]. وتدبروا قوله تعالى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)، ما نتيجة البغي والعدوان؟ (أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ). اللهم اغرق واحرق من بغى على عبادك وأوليائك، وحارب دينك ودعوتك، يارب العالمين.
تدبروا معي قوله تعالى: (قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) [المؤمنون]. وفيه وعد بسوء عاقبة الطغاة والظالمين، وفيه أيضا بشري يسعد بها المؤمنون بقرب عقوبة وندم هؤلاء. فلا يغرنكم طول أمد الظلم، وشعور الظالمين بأن الأمر استتب لهم، وأنهم أمسوا آمنين من عقاب الله، فيد الله تعمل، وقدره في الظالمين الطغاة نافذ، والأمر قريب جدًا أكثر مما يتصورون، فليل الطغيان سيتبعه عما قليل صبح الندم والحسرة. وهذا ما أكدته الآية التالية (فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)).
7- ألا يتطرق اليأس إلى قلوب الدعاة والمصلحين، مهما ادلهمت الخطوب، وكثرت الكروب، وقست الدروب. لأن الضيق يتبعه الفرج، وأن مع العسر يسرا، وأشد ساعات الليل ظُلمة ما سبقت الفجر، فأبشروا. ولنا في معجزة الإسراء والمعراج الدروس والعبر، فحالة الحزن والضيق التي المت برسول الله ﷺ والذين معه قبيل الإسراء تبعها فرج عميم. فقد ماتت رفيقة دربه وسنده (أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأرضاها)، ومات عمه أبوطالب، وامتنعت الطائف عن قبول دعوته. فكانت رسالة السماء له من خلال رحلة الإسراء: «يا محمد: إذا ضاقت بك قلوب البشر فأهلا بك في سدرة المنتهي، وإذا ضاقت بك الأرض فمرحبا بك في السماء، وإذا أعرض عنك الخلق فأهلا بك فر رحاب الخالق».
8- لا بد أن يُسيطر الأمل على قلوب ونفوس أهل الحق والإيمان، فلا يُغادر قلوبهم أبداً، رغم شدة الهجمة وعمق المِحنة وانتفاشة الباطل، لأن وعد الله بنصر دينه وعباده وعد حق يجب اليقين فيه والإيمان به، وبالتالي يكون من مقتضى الإيمان أن لا يتطرق اليأس إلى قلوبنا من تحقق النصر ونزول الفرج، ومع بذل الجهد واستفراغ الوسع، ستنكشف الغمة وتزول المِحنة وينهار الباطل وحزبه.
من هنا وجب اليقين الجازم بأن الضيق الشديد سيتبعه فرج عميم، وستخرج الدعوة الطاهرة النقية من هذا البلاء خروج السيف من الجِلاء، وستتحول هذه المحن إلى منن. ولن تتوقف قافلة الدعوة الربانية الشاملة، وستبحر سفينتها رغم الأمواج العاتية إلى شاطئ التمكين لهذا الدين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. هذا وعد الله الحق، (وَكَأنَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا). ومن عنده شك في ذلك يراجع إيمانه.
9- اليقين الكامل بأن الله سبحانه وتعالى لن يُخيب رجاء الراجين، ولن يُضيع تضحيات الباذلين، ولن يرد مظلمة المظلومين، ولن يُهمل كيد الكائدين، ولن يفلت من عقابه الباغين. هل يُعقل بعد هذه التضحيات، بالأموال والأنفس والثمرات، والأوقات الغاليات، والجهود المضنيات، ألا يكللها الله بأجر جزيل وثواب جميل، وعز وتأييد ونصر وتمكين؟ كلا فهو القائل سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)) [البقرة]. فربنا لا يضيع أجر العاملين المخلصين، وهذه الدعوة كثرت في سبيلها التضحيات. ورحم الله الامام البنا حين قال: (ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل).
10- أن أوقات المحن تكون عصيبة، ولا يُعين عليها إلا الله سبحانه وتعالى، وحين نستعين بربنا حق الإستعانة، تهون الصعاب ويقل وقع المحنة في النفوس. ودلائل اليقين وحقائق الواقع وتجارب التاريخ تقول: (لا يَصعُب مع عون الله شيء). فاستعينوا بربكم، واستمدوا العون من مولاكم، فهو مُيسر كل عسير، وجابر كل كسير، وبعباده بصير، وبأحوالهم خبير، وهو سبحانه على كل شيء قدير.
11- ما يطمئن قلوب الدعاة والمصلحين، أن الله لا ينس طاعة الطائعين ولا ظلم الظالمين، ولكنه يختبر صبر المؤمنين ويمحص قلوبهم، وفي نفس الوقت يُمهل الظالمين ويُملى لهم حتى إذا تمادوّ فى غيهم وظلمهم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر. قال الإمام الشافعي: «آية من القرآن الكريم، هي سهم في قلب الظالم، بلسم على قلب المظلوم، قيل وما هي؟ فقال: قوله تعالى:﴿وَمَا كَأنَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾». [مريم 64]
إلى الظالمين؛ (الذين انتهكوا الحرمات، وصادروا الحريات، ودنسوا المقدسات، واستباحوا الدماء، وعذبوا الأبرياء، وسجنوا الشرفاء والعلماء.)، نقول لهم: اعلموا أن أفعالكم المجرمة وإن محوتهم آثارها، ونسي الناس ذكرها، قد أحصاها الله في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
12-وختاماً: إن سُنن الله في الدعوات تؤكد على حقيقة دامغة وبشرى واقعة، وهي: «بقدر حجم وأثر المِحنة يكون حجم ونتائج الفرج، وبقدر البغي والظلم يكون انتقام الله من الباغي الظالم». ووقائع التاريخ وسنن الله في الأمم والدعوات تؤكدان هذه الحقيقة.
ولا يشرق الفجر إلا في دُجى الظُلَم. فأبشروا أيها الأحبة، واجتهدوا في الدعاء في هذه الأوقات، أن يفرج الله الكرب والغم ويكشف السوء، وأن نري في البغاة الظالمين وعد الله الحق، (وَكَأنَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا). والحمد لله رب العالمين