نستكمل النظرات، ونأخذ العبر والعظات من كتابات الإمام الشهيد حسن البتا، واليوم نقف مع جزء من أحد مقالاته المنشورة في تراثه تحت عنوان: (يوم الدعوة الخالد في الإسماعيلية)، وكتب تحت عنوان (منطق الإيمان)، فقال: «أيها الإخوان: إننا – كمكافحين – أُلقي علينا عبء عظيم، وهو عبء التبشير بدعوة الإسلام، وتحرير الأمة الإسلامية، التي جسم على صدرها الاستعمار، هذه السنين الطوال. إننا – كمكافحين – علينا أن نعرف أن عُدتنا الأولي هي في الاعتماد على الله، والتحرر من منطق الأموات المستضعفين، فلا نقول: ماذا عسى أن نصنع؟ وماذا يستطيع أن يفعل الإخوان؟
إن منطق الإيمان الذي يرد على هذا الوهم والضعف، هو ذلك الذي ردده هادينا الأول، محمد ﷺ حين قال لعمه: “والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، أو أهلك فيه ما تركته”. وبذلك كُتب له النصر الذي وعده الله به. منطق المؤمنين الأحياء وسبيلهم – أيها الإخوان – غير منطق الماديين، وغير منطق الأموات. منطق الإيمان، هو منطق الحق وقول الصدق، وهو الذي يُؤيده التاريخ والواقع، وهو سر النجاح في كل معركة. وعناصره: (التجمع على الفكرة – الإيمان بها – والثبات عليها)، وذلك هو سلاح بناة الأمم، وقادة النهضات في كل معركة ونضال.
ومظاهر ذلك كله في الجماعة المؤمنة: (حب وتضحية، وبذل وفداء)، وبهذا السلاح تغير وجه التاريخ في كل العصور والأجيال. فمتى جاء المصلح المؤمن ومعه الإيمان والفكرة والثبات، فقد قُضي الأمر.
فإذا قيل: إن الإخوان قلة فكيف يريدون حماية دعوة الإسلام، وتحرير الأوطان؟ قلنا: إننا مؤمنون، ومعنا سلاح الإيمان ومنطقه، ولن نرهب قوة في الأرض بعد ذلك. وبهذا السلاح وحده سنخوض المعركة لنحل قضيتنا كلها، فقد كتب الله لأغلبن أنا ورسلي».(1)
الإرشادات الدعوية والفوائد التربوية: 1- أن عدتنا الأولى التي نعتد بها ونتزود منها على طريق دعوتنا هي (الاعتماد على الله)، بمعنى أن نتوكل عليه سبحانه في صغير الأمر وكبيره، والاعتماد على الله والتوكل عليه هي عبادة الصادقين وسبيل المخلصين، ففي سبعة مواضع بالقرآن الكريم جاءت هذه الآية: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). والتوكل والاعتماد على الله لا ينافى الأخذ بالأسباب، ولكن يدعو إليها، ويأمرنا بالأخذ بها، دون الاعتماد عليها و ارتباط القلب بها وحدها، ولكن نأخذ بها مع ارتباط القلب بمسببها سبحانه جلّ فى عُلاه.
2- أن المصلحين وهم في طريق الدعوة يحتاجون لعون ربهم، والاستناد إلى قوته لمواجهة ما تقابلهم من صعاب ومشاق، ومحن وشدائد، ولا مُعين عليها وحافظ منها إلا الله، فهو – سبحانه – حسبهم ونعم الوكيل، (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3)) الطلاق، وهو – جل وعلا – كافيهم من شرور المتربصين بهم والماكرين بدعوتهم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ(36)) الزمر، ومن يعتد بالاعتماد على ربه كان النصر حليفه وإن طال به الزمن، نصر في الدنيا وسيادة، أو نعيم في الآخرة وسعادة، ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ(52)﴾ التوبة.
3- أن منطق الإيمان يدعو المؤمنين إلى اليقين فيما عند الله، ويدعوهم إلى أن العاقبة للتقوي، ويدعوهم إلى أن الحق أبلج وأن الباطل لجلج، وأن الحق ظاهر والباطل زاهق، كما يدعوهم إلى الشعور بالقوة وعدم الوهن، فلا يتطرق الخوف أو الضعف إلى قلوبهم، فلا يأس ولا عجز مع الإيمان الصادق، فاليأس والعجر ليست من أخلاق ولا صفات المؤمنين، (وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ(87)) يوسف.
4- أن الدعوات ترتكز في نجاحها على ثلاث دعائم، والتى تُعد عناصر قوتها وأسس بناء نهضتها وتحقيق استمراريتها وهي: – التجمع على الفكرة. – والإيمان بها. – والثبات عليها. وهذه ثلاثية النهضة في كل معارك النضال، وأسلحة بناء الأمم في أيدى رواد النهضات، وهي حقيقة يؤيدها التاريخ ويؤكدها الواقع. وكما يقول الإمام البنا: «فمتى جاء المصلح المؤمن ومعه الإيمان والفكرة والثبات. فقد قُضي الأمر».
5- أن التجمع حول الفكرة هو أساس وحدة الأفهام والعقول، وأي جماعة لا تنطلق من قواعد الفهم المشترك لأصولها ومناهجها وقضايها الكلية ستنقسم وتتفرق إلى فرق وجماعات، طالما غاب الفهم الواحد عن أعضائها، الأمر الذي دفع الإمام البنا ليجعل (ركن الفهم) في مقدمة أركان الدعوة، وأول أسس البيعة للعمل لهذا الدين، ولأهميته في بناء الجماعة حدد له الأصول العشرين – الموجزة كل الإيجاز – فيكون فهم الدين في إطار هذه الأصول الضابطة.
6 – أن الإيمان بالفكرة، ووحدة المشاعر والقلوب حولها من مقومات قوة الجماعة، فمع وحدة الفكرة واستواء الفهم لا بدَّ من وحدة القلوب والمشاعر، واليقين القلبي بأن فكرتنا إسلامية صميمة، على أصول الإسلام تقوم ومنها تنطلق، فكرة أسلامية محمدية قرآنية، كما قال عنها الإمام البنا في مذكراته: «لا تعرف لونًا غير الإسلام ولا تصطبغ بصبغة غير صبغة الله العزيز الحكيم، ولا تنتسب إلى قيادة غير قيادة رسول الله ﷺ، ولا تعلم منهاجًا غير كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه»، وبالتالى تلتف حولها القلوب، وتتجرد لها دون غيرها من الأفكار.
وبالتجمع حول الفكرة والإيمان بها تستند الجماعة لقوة نفسية عظيمة (عقلية – قلبية)، من مؤشرات تحققها كما قال الإمام البنا: «ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻤﺒﺪﺃ ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﻪ ﻭﺗﻘﺪﻳﺮ ﻟﻪ ﻳﻌﺼﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻄﺄ ﻓﻴﻪ، ﻭﺍﻹﻧﺤﺮﺍﻑ ﻋﻨﻪ، ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﻭﻣﺔ عليه، ﻭﺍﻟﺨﺪﻳﻌﺔ ﺑﻐﻴﺮﻩ». (2)
7- أن الثبات من مبادئ الدعوات الناهضة، وأحد عوامل نجاحها وفلاحها، والثبات يعني مواصلة السير، مهما كثرت الخطوب وادلهمت الدروب، ويعنى أيضا الاستمرار في بذل الجهد مهما كانت التضحيات وكثرت العقبات، حتى ولو لم تظهر النتائج المبشرة بالنصر، ويعنى أيضا عدم التفريط في المبادئ أو المسأومة على الثوابت.
ولقد قدم الإخوان المسلمون – ولازالوا يقدمون – نماذج طيبة وأمثلة حية من الثبات على المبادئ والصبر في الشدائد، وذلك رغم كثرة الخطوب ووحشة الدروب، وتنوع المحن وتعدد الفتن، فما لانت لهم قناة، وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، وما توقفوا يوماً عن مسيرة الدعوة، أو تخلفوا عن ركب الإصلاح، حِسبة لله تعالى، وما زادتهم هذه الصعاب وتلك المشاق إلا إيمانًا وتسليمًا وتثبيتًا.
8- وإذا كانت دعائم نصر الدعوات وتحقيق النهضات (الإيمان بالفكرة – التجمع حولها – الثبات عليها)، فقد حدد الإمام البنا للجماعة المؤمنة القوية التي تقوم على هذه الدعائم مظهرين جوهريين هما: – الحب والتضحية. – البذل والفداء. فلابد حتى تنتصر الدعوات من (وحدة القلوب ولُحمة الصفوف)، ولا بد من (تضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل)، ولا تضحية دون بذل وفداء.
ونختم القول بما كتبه الإمام البنا حول التضحية على طريق الدعوة، وهو كلام موجز وبليغ يوزن بماء الذهب، فيقول – رحمه الله -: «وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111)، ﴿قُلْ إِنْ كَأنَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَأنُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾(التوبة)، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)﴾(التوبة)، ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَأبًا أَلِيمًا (16)﴾(الفتح)، وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا)». (3) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
———————– (1) المصدر: مقال للإمام حسن البنا (يوم الدعوة الخالد بالإسماعيلية)، (2) رسالة إلى أي شيء ندعو الناس. (3) رسالة التعاليم