
كيف ربَّى الإمام حسن البنا أولاده؟ (4)
- zadussaerinweb@gmail.com
- مايو 31, 2021
- المربي القدوة
- 0 Comments
كيف ربَّى الإمام حسن البنا أولاده؟ (4)
بقلم: د. رشاد لاشين
تابع: ملامح أسلوب الإمام حسن البنا في تربية أسرته
(21) إتباع الأسلوب التربوي عند اللجوء للعقاب إذا دعت الضرورة:
العقاب عنده شيء رمزي للتفهيم بالخطأ وليس انتقامًا أو إيلامًا بشدة.
تقول سناء: (كان الوالد رحمه الله يؤمن بأسلوب الثواب والعقاب، فمثلًا كان من عادته رحمه الله أن يضع لنا حلوى المولد النبوي في أظرف ويعطيها لمَن يقوم منا أولًا بتسميع قدرٍ من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف أو شعار الجماعة).
ويقول سيف الإسلام: (كان أقصى ما يعاقب به الواحد منا هو قرص الأذن، وفي ذات مرة قرص أذني، وهذا أكبر عقاب وقعه عليَّ- رحمه الله. قرص أذني في الصباح لخطأ ارتكبته، ولكنه اتصل بي تليفونيًّا في الساعة الحادية عشرة صباحًا ليطمئن عليَّ، وصالحني، وكان لهذا أثر كبير في نفسي).
وتقول ابنته سناء: (وقليلًا ما كان يعاقبنا، ولا بد أن يكون هناك شيءٌ كبيرٌ أو شيءٌ قد نبَّهَنا بخصوصه، فإذا أخطأنا فيه فلا بد من العقاب “سياسة الثواب والعقاب”، وكان إذا عاقب- ونادرًا ما كان يعاقبنا- يعاقب دائمًا على شيء كبير؛ ولقد تعرضت لعقاب الوالد مرتين، مرةً حينما خرجتُ حافية القدمين- أما ثاني مرة، فهي حينما شتمت الخادمة. وأذكر أنه عاقبني بسبب شقاوتي، ففي منزلنا القديم كان هناك شباكٌ مقسومٌ، وكان والدي يصرُّ على أخذ السلاملك (وهو الدور الأرضي) قائلًا: حتى لا أُتعِبَ إخواني، وأيضًا لا يتعب الجيران بطلوع الناس ونزولهم. وذات مرة كنت جالسةً على الشباك ورأيته قادمًا من بعيد فركضت إليه ولم ألبس (الصندل) وكان يُحضر لنا صندلًا للعب وحذاءً للمدرسة، فركضت إليه ونسيت ألبس (الصندل) فنظر إليَّ مجرد نظرة، عرفت أني سأعاقَب، فعدت سريعًا إلى المنزل. وبعد انصراف الإخوان دخل الوالد رحمه الله إلى صالة الطعام ونادى سناء فجئتُ إليه خائفة على بطئ، وقال لي: اجلسي على الكرسي وارفعي قدميك إلى الطاولة وقام بضربي بمسطرة صغيرة عشر ضربات على كل قدم، وتلقيتها بدون أن أنبس ببنت شفة وكان ضربًا خفيفًا لدرجة أني كنتُ أضحك وهو يضربني، ولكني فهمت وقتها أني أخطأت).
(22) الاهتمام بالتربية عن طريق الحوار مع الأبناء:
ويذكر سيف الإسلام حسن البنا حوارًا دار بينه وبين والده على الغداء فيقول:
(لقد عاصرتُ والدي الإمام الشهيد رحمه الله لمدة عامين وأنا طالب بالمرحلة الثانوية، وكان دخول المرحلة الثانوية هو الميلاد السياسي للشاب في ذلك الوقت؛ لأنه يستطيع أن يشترك في الجمعيات أو الأحزاب وأن يطبع كارتًا يكتب عليه اسمه وتحته لقب طالب ثانوي، وأن يشترك في المظاهرات، وقد انضممت إلى قسم الطلاب في هذه المرحلة، وأذكر أن الذي كان يرأسه في ذلك الوقت الأستاذ فريد عبدالخالق، وكان زملائي في القسم مجموعة من طلاب مدرسة بمباقادن الثانوية، وكان مقرها بشارع إلهامي بالجمالية بالقرب من المركز العام للإخوان المسلمين، وكنت بطبيعة الحال أشارك مع الأخوة في هذه المدرسة في نشاط قسم الطلاب، وكنا ندير بالمدرسة مناقشات حول قضايا معظمها في المسألة الوطنية وقضية وادي النيل وإخراج الإنجليز من مصر والسودان والوحدة بين مصر والسودان.
وحينما كنت أعود للمنزل وأتناول الغداء مع الوالد كنت أسأله عما يجري ويحدث في المدرسة من مناقشات.
وأذكر أنني سألته مرة سؤالًا صريحًا: وماذا سنفعل مع الإنجليز إذا لم يخرجوا من مصر؟ فقال الوالد: سنرسلك مع كتيبة لإخراجهم بالقوة، وقد رددت عليه حينئذ ببيت عنترة بعد أن غيرت فيه الضمير وقلت له:
وسيفك كان في الهيجا طبيبًا .. يداوي رأس مَن يشكو الصداع
وقد نلت في ذلك الوقت قبلةً على جبيني لا زلتُ أتحسس موضعها حتى الآن.
فقد كنتُ على وعي تام بما يجري في هذا الوقت من أحداث وأمور سياسية، من واقع النضج السياسي الذي كانت تعيشه المدرسة الثانوية آنذاك، والتي كانت تتمثل فيها كافة طوائف الأحزاب الموجودة على الساحة في ذلك الوقت وأبرزهم الإخوان والوفد.
لقد كان طلاب المدارس الثانوية في ذلك الوقت يتجاوبون بشدة مع الأحداث التي تجري في مصر والعالم الإسلامي، حتى تسارع المدرسة الثانوية التجاوب معه بالإضرابات والمظاهرات.
(23) تربية البنت على أهمية دور المرأة:
النساء شقائق الرجال ودور المرأة عظيم في بناء الأمة العظيمة، وكما يقولون وراء كل عظيم امرأة، فهي تقوم بدورٍ عظيم وتعد الرجل العظيم الذي ينهض بأمته؛ لذا كان اهتمام الإمام البنا بالمرأة، وكان حرصه على تربية بناته ليقمن بدور في النهوض بالنساء، وقد حدث بالفعل فابنته الكبرى الأستاذة وفاء خريجة كلية التربية النسوية وابنته سناء كانت تدرس التدبير المنزلي في جامعات المملكة العربية السعودية حتى وقتٍ قريب؛ تقول ابنته سناء: (وكان رحمه الله يؤمن جيدًا بتعليم المرأة، ولكن مع ما يتناسب مع ثقافتها؛ ولذلك أدخلنا الثقافة النسوية).
(24) يربي أولاده على البر بالوالدين:
التربية على البر بالوالدين تبدأ بتقديم القدوة والممارسة العملية التي يراها الابن من اهتمام أبيه بجده وحرصه على طاعته وخدمته؛ وذلك أجدى وأنفع من مجرَّد الأمر ببر الوالدين.
تقول ابنته سناء: (ورغم انشغاله الشديد كان يساعد جدِّي في تبويب مسند الإمام أحمد ولم يمنعه انشغاله أبدًا عن مساعدة جدي).
(25) يعلم أولاده رحمة الزوج بزوجته وحسن العشرة بين الزوجين:
حسن العشرة والمعاملة الطيبة بين الزوجين تبدأ بمشاهدة الطفل لممارسات أبيه وأمه كزوجين؛ فهما النموذج الحي والتجربة العملية للممارسة التي تنطبع في ذهن الطفل، فيستقي منها عندما يكبر ويتزوج فيتعامل مع زوجه بناءً على رصيد الخبرة وممارسات الأبوين كزوجين؛ تقول ابنته سناء: (. ويعود في المساء وتكون والدتي قد نامت وقتها وهنا تأتي الرحمة مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَّرَحْمَةً﴾ (الروم)، فلم يكن يوقظها بعد أن تنام أبدًا حتى وإن كان من أجل أن تعدَّ العشاء للإخوان، بل كان يدخل هو إلى المطبخ ليعدَّ لهم العشاء، وكان يعرف مكان كل شيء حتى في المخزن فيحضر)الجبنة والمش والحلاوة) أطباقًا أطباقًا، ويأخذ لهم الخبز والطاولة ويتناولون العشاء).
* يقول نجله سيف: (كان الوالد رحمه الله حينما يعود بالليل لا يحب إزعاج أحد، وكان مفتاح البيت طويلًا فتجده يدخله بهدوء شديد حتى لا يوقظ النائم، وكان بطبعه رقيقًا جدًّا وعاطفيًّا لأقصى درجة وله لمسات تجذبك نحوه، وهو مع الوالدة زوجته ليس (سي السيد) كما يقولون بل أقل من ذلك بكثير).
(26) تربية الأسرة على معايشة أحوال المسلمين والتأثر بهم:
في سؤالٍ تمَّ توجيهه لابنته سناء: كيف كان الإمام البنا عند غضبه؟ أجابت: (لم يوجد في بيتنا غضب، بل كان دائمًا هناك تفاهم، ولكن ما يمكن أن يقال عليه حزن أكثر منه غضب هو عام 48، وكان الإخوان في حرب فلسطين فخرج من غرفته ولا أنسى أبدًا كيف بدا منظره وقتها، وكانت والدتي في الصالة تقوم بعمل الكعك (الخاص بالعيد) ومعها عماتي وجدتي فنظر إليها قائلًا: “إيه يا أم وفاء، بقى انتي عايزة تعملي كحك وأنا اثنا عشر من أبنائي استُشهدوا في فلسطين”، ونادى على أخ كان يساعدنا ليرفع الكعك والعجين وما كانوا يفعلون، ولم تكمل والدتي عمل الكعك، ومن يومها لم تقم والدتي بعمله في بيتنا بعدها أبدًا، قد تقوم بعمل أنواع من البسكويت، ولكن الكعك رفضت عمله من يومها حتى بعد استشهاده.
(27) توصيل الملحوظات دونما إحراج:
الذوق الجميل ومراعاة مشاعر الإنسان حتى وإن كان مخطأً مع التوجيه اللطيف يربي الإنسان تربيةً راقيةً ويُؤثر في مشاعره ويجعله يتغير عن حب ويستجيب عن رغبة وقبول؛ يقول نجله سيف: (كان رحمه الله لا يحب إحرج أحد أذكر أنني ذات مرة أخذت أوراقًا من مكتبه دون إذن منه وعندما أدرك نقص أوراقه لم يعاتبني ولم يوجه لي لومًا، بل جلس أمامي يعدُّ الأوراق حتى أفهم بطريقةٍ غير مباشرة ما فعلت، ثم بعد قليل أحضر لي مجموعة من الأوراق، وقال لي هذه خاصة بك ثم قال لي: حينما تريد أوراقًا أخرى أخبرني وأنا أوفرها لك).
(28) الرعاية التعليمية:
الرعاية التعليمية تحتاج أولًا إلى خطة سليمة ورؤية واضحة تنبني على الطموح ثم تحتاج إلى آليات ووسائل متعددة؛ جهد الأب فيها هو حجر الزاوية؛ مع الاستفادة من جهود الآخرين وتنسيق الطاقات الممكنة للارتقاء بالأبناء.
تقول سناء: (كان رحمه الله حريصًا على أن نتلقى العلم الذي يؤهلنا مستقبلًا لأرفع مستوى في التعليم، حيث كان هناك التعليم الإلزامي الذي يؤهل الدارسين فيه إلى دخول مدارس المعلمين، وكان هناك التعليم العام للمدارس الحكومية والذي يؤهل للالتحاق بالجامعات أو المعاهد كان ذاك، ولقد تمَّ نقلى أنا بالذات من التعليم الإلزامي إلى التعليم العام، حيث أهلني هذا التعليم إلى الالتحاق بالمعهد العالي للاقتصاد المنزلي الذي تغيَّر اسمه الآن إلى كلية الاقتصاد المنزلي بالجامعة، كان التعليم العام بمصاريف دراسية.).
ويقول سيف: كانت رعايته التعليمية لنا تتمثل في الآتي:
1- كان دائم الاتصال بناظر المدرسة يتفقد أحوالنا.
2- كان يوجه المدرس في المدرسة لتقويتنا في بعض الجوانب التي يريدها ويفتح أمامنا أبوابًا من العلم: وأذكر أن مدرس اللغة العربية وكان اسمه الأستاذ علي وقال كل واحد يشتري كراسًا ويكتب فيه مختارات شعرية يفضلها ووعدنا بالمساعدة، وقال لنا مَن يكتب أكثر له جائزة وبذلنا جهدًا كبيرًا في ذلك ثم فوجئت في نهاية العام أن الوالد هو الذي أرشده لذلك وسلطه علينا ليقوينا في هذا الجانب؛ فهو يخطط لنا عن طريق إرشاد مدرسينا.
3- كان يذاكر معنا حينما يعود ليلًا وأذكر أنه كان عبقريًّا في الرياضيات، وكان يساعدني في مادة الهندسة ويحل لي التمارين الصعبة التي أعجز عن حلها.
4- كان يكلف أحد الإخوان بمتابعتنا في المدرسة.
5- كان يكلف أحد الإخوان بشرح بعض المواد لنا.
(29) التربية على الاستقلال والبعد عن الدلال:
سألنا سيف الإسلام: هل كان الإمام رحمه الله يهتم بتمييزك لدى معلميك أو المشرفين عليك في الأشبال أو الثانوي؟ وهل كنت تتصرف مع غيرك من منطلق أنك ابن الإمام المؤسس للدعوة؟
أجاب: (كان الوالد رحمه الله حريصًا على تربيتنا على الاستقلال والاعتماد على النفس وقوة الشخصية، وكان يشجعني على استقبال أصدقائي بالمنزل ويأكلوا معي ويأمرني بحسن ضيافتهم ولم يتدخل إطلاقًا في معاملتي مع أساتذتي ولم يكن هناك تمييز في المعاملة؛ مثلي مثل غيري ولم أتعامل مع أحد من هذه النظرة أبدًا وأول درس تعلمته في العقيدة: (حذارِ أن تفهم أن والدك ينفعك في الآخرة).
(30) يهتم برعاية الأموات كما يهتم برعاية الأحياء (الصبر والاحتساب عند موت الأولاد):
طلبنا من الأستاذ سيف أن يروي لنا قصة وفاة أخيه (محمد حسام الدين) وكذلك وفاة أخته (صفاء) اللذين توفيا في حياة الإمام رحمه الله يقول سيف: أُصيب أخي (محمد حسام الدين) بمرض التيفود في الوقت الذي لم يكن هناك علاج له، وكان الوالد رحمه الله يهتم جدًّا بالرعاية الصحية، ولكل واحد منا ملف صحي وفي أثناء علاج أخي أخبرت أمي رحمها الله أنها رأت أن رجلًا يلبس جلبابًا أبيض وعمامة خضراء ويقول لها سنأخذ حسام بعد 15 يومًا، وقالت إنها رأت هذا الرجل وهي ليست نائمة بل تكاد تكون يقظانة، وقد أخذت الوالدة رحمها الله هذه الرؤية مأخذ الجد وكانت تعد الأيام، وفي اليوم المحدد انتقل أخي إلى رحمة الله تعالى، وقام الوالد رحمه الله بدفنه بنفسه ولم يترك دفنه لأحد كما زعم البعض.
أما أختي صفاء فقد تُوفيت صغيرة جدًّا وكان عمرها سنة تقريبًا، وكانت الوالدة رحمها الله قد رأت نفس الرؤية لنفس الرجل الذي جاءها قبل وفاة محمد حسام الدين، وجاءت للوالد وقالت له: يا أستاذ الرجل جاءني مرة أخرى، وقال سنأخذ صفاء بعد أربعة أيام فقام الوالد رحمه الله وسجد شكرًا لله تعالى وقال: “زارنا ملك كريم”.
واستدعى الأستاذ سعد الدين وقال هات بخور واحضر المصوراتي لتصوير صفاء، وجهز السيارة بعد أربعة أيام لأني أشعر أن أجل البنت سينتهي بعد أربعة أيام، فقال له أبلغ التربي من الآن فقال: لا، ولكن كن مستعدًا، وبالفعل تُوفيت البنت في الموعد، وقام الوالد رحمه الله بدفنها بنفسه، وقد كان يُعطي الأسرة حقَّها كاملًا ولم يقصر في أحد إطلاقًا حتى أثناء سفره وعمله وغيابه كان يرتب لنا كل شيء.
(*) انتهت الحلقة الرابعة والأخيرة من سلسلة: (كيف ربَّى الإمام حسن البنا أولاده؟). والحمد لله رب العالمين.