العدالة الاجتماعية عند الإمام حسن البنا

العدالة الاجتماعية عند الإمام حسن البنا
كان
الإمام حسن البنا من أوائل من نادى بضرورة تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية في العديد من رسائله ومقالاته التي تطرق فيها سواء إلى الاقتصاد الإسلامي أو المشاكل المجتمعية فيقول في رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي):
«لقد اختفت المثل العليا تمام الاختفاء، وغابت عن الأنظار والقلوب تلك الأهداف الجميلة التي نادى بها هؤلاء الناس ساعة العسرة، وجندوا باسمها قوى الأمم ضد الظلم والطغيان، فالعدالة الاجتماعية، والحريات الأربع، ومبادئ ميثاق الأمم. إلخ هذه القائمة الطويلة العريضة من المبادئ السامية والأهداف المغرية أصبحت في خبر كان، ولم تعد لهؤلاء الساسة والزعماء “فلسفة راقية” يقودون بتوجيهها العالم إلا فلسفة المصالح المادية والمطامع الاستعمارية ومناطق النفوذ والاستيلاء على المواد الخام! وكل ذلك على صورة من الجشع والنهم لم تر الدنيا لها مثيلا ولا بعد الحرب العالمية الأولى.

وأصبحت هذه المعاني وحدها محور التنافس بيت الدول المنتصرة (روسيا من جانب وأمريكا وإنجلترا من جانب آخر) وإن حاولت كل منها أن تستر جشعها ومناورتها بستار من دعوى المبادئ الاجتماعية الصالحة والنظم الإنسانية الفاضلة، باسم الشيوعية أو الديمقراطية، وليس وراء هاتين اللفظتين إلا المطامع الاستعمارية والمصالح المادية في كل مكان».

كما يبين الإمام البنا في (مؤتمر رؤساء المناطق والشعب عام 1945) أهم ملامح النظام الاقتصادي الإسلامي المبنى على المساواة والعدالة وتحقيقها لكافة أبناء الأمة:
«لم يقف أمر النظام الاقتصادي الإسلامي عند هذا الحد، ولكنه رسم الخطط الأساسية للتقريب بين الطبقات، فانتقص من مال الغنى بما يزكيه ويطهره وينقيه ويكسبه القلوب والمحامد، وزهّده في الترف والخيلاء، ورغّبه في الصدقة والإحسان، وأجزل له في ذلك المثوبة والعطاء، وقرر للفقير حقًّا معلومًا، وجعله في كفالة الدولة أولًا، وفى كفالة الأقارب ثانيًا، وفى كفالة المجتمع بعد ذلك.

ثم قرر بعد هذا صور التعامل النافع للفرد الحافظ للجماعة تقريرًا عجيبًا في دقته وشموله وآثاره ونتائجه، وأقام الضمير الإنساني مهيمنًا عليها من وراء هذه الصور الظاهرية.
كل هذا بعض ما وضع الإسلام من قواعد ينظم بها شأن الحياة الاقتصادية للمؤمنين، وقد فصلت الحياة التقليدية الممسوخة التي يحياها الناس في هذه الأعصار بين الاقتصاد والإسلام، فقمتم أنتم ومن أهدافكم وأغراضكم الإصلاح الاقتصادي بتنمية الثروة القومية وحمايتها، والعمل على رفع مستوى المعيشة، والتقريب بين الطبقات، وتوفير العدالة الاجتماعية، والتأمين الكامل للمواطنين جميعًا، وإقرار الأوضاع التي جاء بها الإسلام في ذلك كله».

كما كان للإمام البنا موقف واضح من قضايا الإقطاع والفلاحين والتي كانت منتشرة بصورة كبيرة في العهد الملكي وقبل قيام ثورة 1952 فخطب موضحًا حال الفلاحين ومدى الظلم الواقع عليهم تحت عنوان (الإخوان والإقطاع):
«الفلاحون في مصر يبلغون ثمانية ملايين والأرض المنزرعة نحو ستة ملايين من الأفدنة وعلى هذا الاعتبار يخص الفرد الواحد نحو ثلثي فدان، فإذا لاحظنا إلى جانب هذا أن الأرض المصرية تفقد خواصها لضعف المصارف وكثرة الإجهاد ولهذا السبب تأخذ من السماد الصناعي أضعاف غيرها من الأراضي التي تقل عنها جودة وخصوبة
وأن عدد السكان يتكاثر تكاثرًا مريعًا وان التوزيع في هذه الأرض يجعل من هذا العدد الأربعة ملايين لا يملكون شيئًا ومليونين لا يزيد ملكهم عن نصف فدان ومعظم الباقي لا يزيد ملكه على خمسة أفدنة علمت مبلغ الفقر الذي يعانيه الفلاحون المصريون ودرجة انحطاط مستوى المعيشة بينهم درجة ترعب وتخيف».

ويضيف الإمام البنا: «إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشًا في الشهر إلا بشق الأنفس فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل في الأسر المصرية عامة كان متوسط ما يخص الفرد في العام جنيهين وهو أقل بكثير ما يعيش به الحمار بل إن الحمار يتكلف على صاحبه (140 قرشًا خمس فدان برسيم و30 قرشًا حمل ونصف تبن و150 قرشًا أردب فول و20 قرشًا أربعة قراريط عفش ذرة ومجموعها 340 قرشًا) وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الآدميين في مصر وبذلك يكون أربعة ملايين مصري يعيشون أقل من عيشة الحيوان».

كما يتعجب الإمام البنا في أحد مقالاته عن مأساة الإقطاع ورؤوس الأموال الضخمة التي يتملكها مجموعة بسيطة من رجال الأعمال والإقطاعيين فكتب متسائلًا تحت عنوان (كيف تملكوا هذه الأراضي؟):
«وهل في مصر مفخرة سوى الألقاب والرتب وذي إرث يكاثرنا بمال غير مكتسب
بهذين البيتين يصف شاعر النيل إبراهيم حافظ هؤلاء السادة الذين وصلت أيديهم هذه الآلاف المؤلفة من الأراضي بدون جهد أو عناء ونالوا هذه الألقاب الضخمة لا لشيء إلا لأنهم ولدوا أبناء لمن تولوا فى يوم من الأيام أمرا من الأمور.
أما كيف آلت إليهم هذه الثروات ووصلت إلى أيديهم تلك الأراضي فقد تم ذلك بعدة طرق، وإلى القارئ لمحة عن ذلك:
1- أراضى الرزقة: وهذه الأراضي كان يقطعها السلطان إلى بعض الأتراك أو لكبار المصريين لا لشيء. إلا لأنه يريد هكذا.
2- أراضى الأبعاديات: وكان يقطعها محمد على إلى ” الذوات” من الأراضي غير المزروعة حتى يمكن استصلاحها وكان ذلك بنظام السخرة الذي استغل فيه الفلاحون.
3- أراضى الأوسية(الوسية) وكان يمنحها السلطان إلى جامعي الضرائب وكانوا يدفعون إليه مبلغا معينا نظير قيامهم بتحصيل ما يشاءون من الضرائب، من الفلاحين وبالطريقة التي يرونها وكان الفلاحون يستخدمون في ذلك بدون أجر وكانت هذه الأراضي معفاة الضرائب.
4- مسموح المصطبة! ومسموح المشايخ: وكانت تعطى لمشايخ البلد أو الرؤساء.
5- الجفالك: وتطلق على مقادير كبيرة من الأراضي وكانت تعطى للأسرة الخديوية وفى عهد عباس باشا أعطيت كذلك لكبار (الذوات)
وهكذا تملكوا هذه الآلاف المؤلفة من الأفدنة على حساب الفلاح المسكين».

كما يقول الإمام البنا في حوار صحفي لجريدة روزا اليوسف فى اجابة له عن سؤال (هل تستطيع الشيوعية أن تجد لها مكانا في البلاد الإسلامية؟)
قال: «في الإسلام ما يغنى الشعوب الإسلامية عن كل ما سواه من المبادئ. وخصوصا وهو قد اهتم بالتقريب بين الطبقات، ورعاية المساواة والعدالة الاجتماعية وإشراب ذلك بروح العطف والتكافل.
ولو طبقت مبادئ الإسلام تطبيقا صحيحاً، لما وجدت المبادئ الشيوعية أو غيرها أى مجال!» .
وحين تعرض الأستاذ البنا لمبادئ
(هيئة الإخوان) في حوار له مع مندوب جريدة (الإجبشن ميل) قال:
«إنها ليست دعوة سياسية صرفة، ولكنها دعوة شاملة تنادى بمبادئ إصلاحية إنسانية عامة مستمدة من الإسلام الحنيف.
وهذه المبادئ ستلزم بطبيعتها مقاومة الاستعمار أينما كان، والعمل على إقامة حكم صالح تتحقق به العدالة الاجتماعية بين الطبقات في مصر وغير مصر من الأقطار.
ومن هنا شملت دعوة الإخوان الأغراض الوطنية أو السياسية كذلك، والمقصود في النهاية هو توفير الطمأنينة والخير والسلام للعالم كله».

كما كتب الإمام البنا في مقال له بعنوان (ليلة السلام):
«ويوم اتخذنا السلام شعارًا لم نقف عند حدوده النظرية أو مدلولاته اللفظية، ولكن السلام الذي أراده الله لعباده في ظل الإسلام يقوم على دعامتين:
على النظام الاجتماعي الكامل في القرآن الكريم الذي أنزله الله في ليلة السلام، فجاء يعلن الأخوة العالمية، ويرفع من مستوى النفس الإنسانية، ويكشف للبصائر عن حقائق الربانية، ويقيم دعائم العدالة الاجتماعية بين الحاكم والمحكوم، وبين الضعيف والقوى، والفقير والغنى، والرجل والمرأة، ويشيع في المجتمع معنى التكافل الحق الذي يشيع في كل نواحيه معاني الحب والسعادة والطمأنينة والسلام، ومن قرأ القرآن وأنعم النظر في توجيهاته وشرائعه وأحكامه عرف صدق ذلك ومواضعه من هذا الكتاب الكريم الذي لم يدع خيرًا إلا أمر الناس به، ولم يدع شرًا يؤذيهم إلا نهاهم عنه (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 88]».

كما كتب الإمام البنا في موضع آخر للرد على اتهام الثورات الإسلامية بفقدانها لتطبيق العدالة مقارنة بالثورتين الفرنسية والروسية، فذكر تحت عنوان (ثورة):
«فيا أيها المنصفون، لا تظلموا الحقائق بجهلها أو بتجاهلها، واذكروا دائمًا أنه إذا كانت الثورة الفرنسية قد أقرت حقوق الإنسان، وأعلنت الحرية والمساواة والإخاء، وإذا كانت الثورة الروسية قاربت بين الطبقات، وأعلنت العدالة الاجتماعية في الناس؛ فإن الثورة الإسلامية الكبرى قد أقرت ذلك كله من قبل ألف وسبعمائة سنة، ولكنها سبقت سبقًا لن تلحق فيه في أنها جملت ذلك وزينته بالصدق والعمل؛ فلم تقف عند حدود النظريات الفلسفية، ولكن أشاعت هذه المبادئ في الحياة اليومية العملية، وأضافت إليه بعد ذلك السمو بالإنسان واستكمال فضائله ونزعاته الروحية والنفسانية؛ لينعم في الحياتين، ويظفر بالسعادتين، وأقامت على ذلك كله حراسًا أشداء أقوياء من يقظة الضمير، ومعرفة الله وصرامة الجزاء وعدالة القانون. فهل بعد ذلك من زيادة لمستزيد؟ اللهم لا».

كما كتب الإمام البنا تحت عنوان (أمانة الله والرسول) مؤكداً على أهمية البعد الإنساني والاجتماعي في المنهج الإسلامي فيقول:
«وكل ما تحتاج إليه هذه البشرية من مثل عليا ومبادئ سامية، وخطط عملية دقيقة، وأوضاع حيوية سليمة. كل ذلك قد تضمنته هذه الرسالة الإسلامية (أمانة الله ورسوله والمؤمنين)؛
فالربانية والأخوة العالمية والعدالة الاجتماعية والمشاعر الروحانية والعواطف الإنسانية، والرحمة والسلام والتعاطف والوئام. كلها قد وضحت في هذه الشريعة، واستحالت بعد وضوحها إلى أعمال يومية، وخطط تطبيقية، وشرائع عملية تسوق المجتمع سوقًا إلى ما فيه خيره وسعادته في الدنيا والآخرة،
وصدق رسول الله ﷺ إذ يقول: (والله ما تركت من خير إلا وأمرتكم به، وما تركت من شر إلا ونهيتكم عنه)».

كما كتب الإمام البنا ليوضح أن أهم أهداف التخلص من الاحتلال والهيمنة الغربية هو تحقيق العدالة الاجتماعية وأن الظلم الاجتماعي أحد أهم أسباب الثورات فكتب تحت عنوان (مَطلع الفجرْ):
«ولنا مع قضايانا هذه السابقة، قضية أخرى لا تقل عنها خطرًا ولا تنقص أهمية، وهى قضية أوطاننا وديارنا، التي باغتها الاستعمار الغربي بعد أن بيت لها أجيالًا طويلة، فأحاط بها، وقيد حكوماتها وشعوبها وحال بينها وبين التقدم، وبلغ ذلك مداه في نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ كانت مصر تحت الحماية البريطانية، وفلسطين والعراق في قبضة إنجلترا، وسوريا ولبنان وتونس والجزائر ومراكش في يد فرنسا، وطرابلس وبرقة مع إيطاليا، حتى تركيا الأوروبية والآسيوية وهى دار الخلافة وقعت تحت نير احتلال الحلفاء، وأدى ذلك الاسترقاق والاستهتار بكرامات الأمم وحريات الشعوب إلى انفجار الثورات في كل مكان، واشتد النضال بين أصحاب الحق وغاصبيه حتى تحررت هذه الأوطان بعض الشيء، وتيقظت وعرفت طريقها إلى الجهاد والكفاح.

وجاءت الحرب العالمية الثانية، وهذه البلاد كلها تجاهد في صف الدول الديمقراطية إذ أقسم زعماؤها وأكد رؤساؤها أنهم إنما يكافحون في سبيل الحرية وإقرار العدالة الاجتماعية فى أرض الله وكان طبيعيًا وقد وضعت الحرب أوزارها أن يطالب المظلومون بحقهم، وأن يجاهدوا في سبيل تحرير أوطانهم».

كما قررت الجمعية العمومية للإخوان في اجتماعها السنوي العاشر عام 1946 بعض القرارات الخاصة بالجماعة وأعضاءها لتفعيل التحرك بخصوص السعي لتطبيق العدالة الاجتماعية وإنهاء حالة الوضع الاجتماعي الفاسد من أهمها:
* يعلن المجتمعون أن الإخوان المسلمين ليسوا حزبًا غايته الوصول إلى الحكم، ولكنهم هيئة تعمل لتحقيق رسالة إصلاحية شاملة ترتكز على تعاليم الإسلام الحنيف، تتناول كل نواحي الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي، وتسلك إلى كل ناحية سبيلها القانونية شكلًا وموضوعًا.
* يقرر المجتمعون أن الوضع الاجتماعي في مصر أمام التطورات العالمية والضرورات الاقتصادية وضع فاسد لا يحتمل ولا يطاق، وأن على المركز العام للإخوان المسلمين أن يعلن برنامجه المفصل لإصلاح هذا الوضع، ولرفع مستوى الشعب أدبيًّا بالتربية والثقافة، وروحيًّا بالتدين والفضيلة، وماديًّا برفع مستوى المعيشة وتحقيق العدالة الاجتماعية التي تفرضها الاشتراكية الإسلامية، والتي يحيا في ظلها العامل والفلاح والزارع والتاجر وكل مواطن حياة مريحة كريمة، ويعمل على تنفيذه في حزم وإسراع.

—————-

اترك تعليقا