
عوامل تماسك الإخوان.. نظرة من الداخل
- zadussaerinweb@gmail.com
- يوليو 31, 2021
- التربية الدعوية
- 0 Comments
عوامل تماسك الإخوان.. نظرة من الداخل – بقلم: محمد المشطاوي(*)
يتساءل الناس القريب منهم والبعيد، المحبّ منهم وغير المحبّ، عن هذا السرِّ الذي يحفظ على الإخوان هذا التماسك العجيب، ويكفل لهم هذه الطمأنينة، حتى وهم في أشدِّ ساعات المحن، وبالطبع هذه الاعتقالات الجارية ليست أشدَّها، وهم في تساؤلهم محقُّون، ويجدُرُ بمَن ذاق وعرف -كما يحلو للصوفية أن يعبِّروا- أن يخبر مَن بالشطِّ وقف، ليزيل عنهم حيرة، أو ينفي فكرة، فضلًا عن تثبيت آخرين، فلعله بالذكرى والتذكير ينتفع المبتلى كما ينتفع -ولو معرفيًّا- من وقف بالباب. ولعله يلجُه!
ويمكن لنا بعد أن نتلمس بعض الأسباب والعوامل التي تمكِّن الإخوان من ثباتهم وتماسكهم. يمكن تقسيم هذه العوامل إلى: عوامل معنوية (نفسية) وأخرى مادية، أو إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية، وهي التماسات أحد الذائقين، وإن كان تذوَّقه بطرف اللسان.
1- المعية
يحلو للإخوان دائمًا أن يتذاكروا معية الله، ويتواصَوا بالعمل على أن يكون المرء فيهم موصولًا بهذا الحبل الذي لا ينقطع، الحبل المتين، والأنس الدائم الموفور. إنه الله. إنها معية الله. وربما اتهم بعضهم الإخوان في النقطة السابقة بالطوباوية*. وحتى ولو كانت طوباوية، فما يضير المسلم أن يكون طوباويًّا نيِّرًا، طوباويًّا متوكلًا لا متواكلًا. ولكني أزعم أنها ليست طوباويةً. بل هي مجاهدةٌ لتشعر بمعية الله التي تحفظ عليك نفسك من أن يأكلك الهمّ في بعض المواقف، والغيظ في بعضها، والضعة في جلّها، وأنت ابن الوطن البارّ الساعي إلى خيره والمتحرِّق إلى رفعته ونصرته.
أليس في مجاهدة هذه المشاعر السلبية وحفظ توازن المرء عملًا بعيدًا عن الطوباوية المدعاة؟ ومن ذا الذي يدَّعي أنه قادرٌ على أن يؤتي ثمار هذه المجاهدة في هذا الاطمئنان وهذه السكينة وهذا اليقين؟ إن الإخوان في تربيتهم يركِّزون دائمًا على أن يكون فردُهم أمةً بذاته يستمدُّ طاقته من الالتجاء إلى الله والتضرُّع إليه، فكم هي سعادة المرء حينما يبكي لله ليحفظ عليه نفسه وتماسكه، وكم هي سعادة المرء حينما يعلم أنه يركن إلى ركنٍ شديد، وأن الله حافظه وأن. وأن. وأن. إنها والله أولى العوامل التي تحفظ على الإخوان تماسكهم.
2- الإيمان بالمبدأ
وهذا عامل نفسي داخلي يتربَّى عليه الإخوان، فلا بد للأخ أن يؤمن إيمانًا جازمًا بفكرته، فها هو الإمام البنا يقول لهم في رسالة (التعاليم) معرِّفًا ركنَ البيعة الأول: الفهم: «إنما أريد بالفهم: أن توقن بأن فكرتنا إسلاميةٌ صميمةٌ”، فالإخوان يؤمنون بأن فكرتهم إسلامية صميمة، وهم في سبيل ذلك مستعدُّون دائمًا للمنافحة عنها والتضحية في سبيلها».
ويأتي ركن آخر من أركان البيعة لينضاف إلى هذا الإيمان المطلق ليكون زادًا ووقودًا لهذا الثبات وهذا التماسك، وأعني بذلك ركن التضحية التي عرَّفها البنا قائلًا: «وأريد بالتضحية بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ (التوبة: من الآية 111)، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ (التوبة: من الآية 24) ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ﴾ (التوبة: من الآية 120)، ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا﴾ (الفتح: من الآية 17)، وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا).»
إنها التربية على الإيمان المطلق والاستعداد للتضحية بل السعادة بها. ويسعى كل فرد من الإخوان دائمًا إلى تمكين هذه العقيدة وهذا الاستعداد الدائم في نفسه وفي نفوس إخوانه، بل إنهم حين يختارون زيجاتهم يفضِّلون دائمًا من لديها نفس هذه الأفكار أو على الأقل من لا تناقضها. ليسلَمَ البيت على وجهة واحدة يكون موليها، وليكون قبلةً لما حوله من البيوت: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوْتَكُمْ قِبْلَةً﴾ (يونس: من الآية 87).
3- التربية على المبادئ وغرسها
وإذا كان الإيمان بالمبدأ دافعًا للتضحية في سبيله فإن غرس هذه المبادئ ورعايتها وتنميتها والعناية بها والتذكير بها وبأهميتها وضروريتها ديدن التربية في الجماعة من أسر وكتائب ورحلات وغيرها. وهذه التربية -التي تعني هنا التهذيب والتعهد الإيماني- مسئولية فردية وجماعية، فكل فرد في الجماعة عليه رعاية نفسه أولًا وتربيتها هذه التربية الإيمانية، فـ (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). ويسعى الأخ داخل الإخوان إلى تربية أهله وأولاده على هذه المبادئ، ولهذا لا نرى نشوزًا أو إعراضًا عندما يحين وقت إعمال هذه المبادئ التي تمَّت التربية عليها داخل البيت.
وكما أن المسئولية فردية فهي جماعية سواءً بسواءٍ، فالجماعة تهتم أيَّما اهتمام بغرس هذه المبادئ داخل أفراد الصف ولا تألو من الجهد الجمعي من تطوير الأداء وتنويع السبل ما يمكِّن لهذه العقيدة في النفوس حتى تؤتِيَ أكلها، فالكل فيها دائمًا مؤمنٌ بمبدئه مستعدٌّ للتضحية من أجله، على أهبة الاستعداد دائمًا لهذا، سعيدًا، راضي النفس، مستبشرًا. ويظهر نتاج هذه التربية في كل ما يحيط بالأخ. فهذه إحدى زوجات المعتقلين تقول بعد أن حكَت قصتها مع من روَّعوها في بيتها وأرادوا تفتيشه بدون إذن وبدون حجّة وبدون وجود أحد معها في البيت. تقول: «لقد شعرتُ هذه المرة بأنهم يقصدوننا نحن الزوجات والأبناء بهذه التصرُّفات للضغط علينا والتضييق؛ حتى نكون أداةً للضغط على أزواجنا، ولكني أقولها: والله الذي لا إله غيره لن يفلحوا في هذا، فمن خالط النقاء والطهر وعاشَرَه لا يرضى به بديلًا، ولا يمكن يومًا أن يكون سوطًا للجلاَّد عليهم. وهذه التصرفات لن تزيدنا -بإذن الله- إلا اعتصامًا بالله وتمسكًا بدعوتنا، ولن يضيعنا الله لأننا ننشد الخير لأمتنا وأهلينا». أرأيتم هذه تقول لزوجها في زيارته -إن سمحوا لها- غير ما تقدم وتثبته.
وتلك أخرى تُسأل صراحةً: «عن جدوى هذه الإجراءات ضد الإخوان؟ وهل من الممكن أن تنجح في كسر الجماعة؟» فترد قائلةً: «لا أستطيع إلا أن أقول لك ما جاء في كتاب الله عز وجل ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8). فهم بهذه الإجراءات يمنحون الفرصةَ أكثر للإخوان داخل المعتقلات أن يقوموا بالاختلاء بأنفسهم، وأن تصفو أذهانُهم؛ ليعيدوا حساباتهم وتنظيم أنفسهم، وهي فرصة أيضًا لزيادة العبادات والذكر وتَعلُّم علوم الدنيا والدين، ليخرجوا بعزيمة أعلى وقوة أكبر وخبرة أكثر وإيمانيات أعلى، فالضربة التي لا تُضعف تقوِّي، وكلما ضربوا أكثر ازددْنا قوةً أكثر بإذن الله، فهم يعتقدون بالموازين الدنيوية أنهم يُهينوننا ويقيدوننا، ويضيِّعون أموالنا، ولكن بالموازين الدينية هم يزيدوننا عزيمةً وحماسةً أكثر، وقوةً أكثر، وترابطًا أكثر، وصلةَ رحمٍ أكثر، ولن يُضارّ الإخوانُ ممَّا يُحاك لهم».
4- التكافل
التكافل ركن إسلامي أصيل دعا إليه الإسلام، فليس منا من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم، بل التكافل والبر مكفول حتى للمخالفين ما داموا مسالمين: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ (الممتحنة: من الآية 8). وكما هو معروف في أدبيات الإخوان أن التكافل أحد أركان التربية الإخوانية، إن الأخ داخل معتقله يكون على يقين بالله أن الله حافظٌ له أهله وأولاده بفضل هذا الخلق الإسلامي النبيل (التكافل)، فلا يجد الشيطان إلى نفسه سبيلًا ليوسوس له. ماذا سيفعل أولادك من بعدك؟ وخاصةً أن الهمَّ الأكبر لدى المرء هم أولادُه، حتى إن سفيان بن عيينة- رحمه الله- رُئي على باب السلطان، فقيل له استنكارًا: ما هذا؟ فردَّ قائلًا: وهل رأيت ذا عيال أفلح؟ إن أولاده هم الذين دفعوه إلى ذلك الموقف، وفي ظني أنه لو كُفي مؤنة أولاده لما رُئي في هذا الموقف.
5- التفاف الناس وتثبيت الخصوم!
يؤمن المسلم أن للطاعة أثرًا يظهر في حب الناس وقبولهم والتفافهم، لا لمصلحة إلا لهذه المغناطيسية التي تجذبك إلى الطائعين وتجبرك على احترامهم، وكم يكون هذا الحب كبيرًا حينما يُزار الأخ في معتقله من زملائه في العمل وجيرانه، لا لشيء إلا أنهم يحبونه، وكلهم يثبته ويشد على يديه، ولا يأخذ على يديه. بل إن هذا الحب وهذا التثبيت نراه حتى من (الخصوم)، أو ممن ارتضوا لأنفسهم هذه الخانة، فكم من مرة سمعنا بآذاننا دعواتهم للمعتقلين ودعواتهم على الظالمين، وكم يجالد المعتقل نفسه أن يكتم الدمع حين يرى نساءً من غير أقاربه تبتهل إلى الله بالدعوات على الظالمين وتلوح للمعتقلين والمحاكمين بعلامات النصر! فأي دلالة لذلك غير التفاف الناس وحبهم؟
ويحكي ابن أحد المعتقلين أن «رجلًا إنجليزيًّا مسلمًا كان يصلي معنا بالجامع، ووجد معي صورة أبي بالزِّيِّ الأبيض والقيد، فسألني عنه بعد أن افتقده في الصلوات؟ فأخبرته أنه من الإخوان المسلمين، وأنه تمَّ القبض عليه، فقال لي بكل ثقة: إذن فقد فعل شيئًا صحيحًا، ثمَّ سألني: هل تمَّ القبض عليك من قبل؟ فقلت له لا؛ فقال لي: لماذا؟ هل تفعل شيئًا خطأً؟ فقلت له: ليس هذا هو السبب، وإنما هي مسألة وقت! »، بل إن زميلًا له قال له: «أنا أحسدك على والدك، وكنت أتمنَّى أن يكون والدي مثله».
6- تراكم خبرات المعتقل وتوثيقها
تمتلك جماعة الإخوان رصيدًا كبيرًا من الخبرة بالمعتقلات وصولاتها، وما زالت هذه الخبرة في نمائها حتى هذه اللحظات! وأشدّ اللحظات صعوبةً على المرء أن يقدِم على ما يجهل، فما بالك إذا كان هذا المجهول هو السجن؟ إلا أن أصغر الإخوان لا يجهلون هذه السجون، على الأقل معرفيًّا، فحينما يعلم الإخوان أن فلانًا صاحب تجربة في المعتقلات يحرصون على الاستماع إليه وكيف تعامل معها، ماذا استفاد منها؟ وماذا؟ وماذا. يستفيدون منه، ويراهنون على أنفسهم أنهم لن يكونوا أقل منه إذا ابتُلوا بما ابتُلِيَ به! ولِمَ لا فهل يزيد عنهم شيئًا؟ هذا فضلًا عن التوثيق الكتابي؛ ولذلك حينما يُبتلَى أحدُهم يبدأ هذا التراكم في الخبرات يفيدهم، فمن سبقنا في هذا الباب بدأ في الإفادة مما أفاء الله عليه من معرفة.
7- الدقة والأمل
كثيرًا ما كُتب عن دقَّة الإخوان وتنظيمهم، ولهذا أثرٌ فيما نتحدث عنه، فالإخوان يحرصون على أن يكونوا منظمين، فحداء الأخ بالداخل والخارج: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)﴾(الطلاق) «فمن ذا الذي يعلم غيب الله وقدره المخبوء. إنه يلوح هناك أمل، ويوصوص هناك رجاء، وقد يكون الخير كله، وقد تتغيَّر الأحوال وتتبدَّل إلى هناءة ورضا؛ فقدر الله دائم الحركة، دائم التغيير، ودائم الأحداث، والتسليم لأمر الله أولى، والرعاية له أوفق، وتقواه ومراقبته فيها الخير يلوح هناك».
والأمل والرجاء حاضران دائمًا، بالرغم من أن النفس البشرية قد تستغرقها اللحظة الحاضرة، وما فيها من أوضاع وملابسات، وقد تغلق عليها منافذ المستقبل، فتعيش في سجن اللحظة الحاضرة، وتشعر أنها سرمد، وأنها باقية، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويطاردها. وهذا سجن نفسي مغلق مفسد للأعصاب في كثير من الأحيان، وليست هذه هي الحقيقة؛ فقدر الله دائمًا يعمل، ودائمًا يغير، ودائمًا يبدل، ودائمًا ينشئ ما لا يجول في حسبان البشر من الأحوال والأوضاع. فرج بعد ضيق، وعسر بعد يسر، وبسط بعد قبض.
والله كل يوم هو في شأن يبديه للخلق بعد أن كان عنهم في حجاب.ويريد الله أن تستقر هذه الحقيقة في نفوس البشر؛ لتظلَّ تطلعهم إلى ما يحدثه الله من الأمر متجددةً دائمًا، ولتظل أبواب الأمل في تغيير الأوضاع مفتوحةً دائمًا، ولتظل نفوسهم متحركةً بالأمل، نديةً بالرجاء، لا تغلق المنافذ ولا تعيش في سجن الحاضر. واللحظة التالية قد تحمل ما ليس في الحسبان ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾.
(*) باحث مصري.
* الطوباوية: نزعة في الحكم أو الحياة إلى مثل أو مباديء لا يمكن تحقيقها.