لا يَضعف يقينك بالله – د. محمد حامد عليوة

لا يَضعف يقينك بالله – د. محمد حامد عليوة
«لا يَضعف يقينك بالله، ولا ينقطع رجاؤك في الله، وعِش بالأمل مع العمل، وكن مُوقنًا بأن عطاء الله عظيم وفضله عميم، فقد يُعطيك أكثر مما ترجو منه، ويُحقق لك أعظم مما تصبو إليه.
فنبيّ الله موسى ابن عِمران (عليه السلام) ذهب يلتمس بجانب الطور نارًا؛ فعاد بالنبوَّة».

ونقف هنا مع مجموعة من نفائس الإمام ابن القيم الجوزية – رحمه الله – في (ثمرات اليقين وآثاره)، والتي أوردها محمد بن عبد العزيز العليّ في كتابه القيّم: (اليقين: مفهومه وآثاره ووسائل تقويته)، ونحن هنا نؤكد من خلال هذه الاستشهادات على المعنى المقصود، ويتضح لنا من خلالها أن اليقين من أجلّ عبادات القلب، وأنه من أعظم الأسباب المعينة على الطاعات وفعل الخيرات والبعد عن المنكرات، والصبر على الشدائد والفتن والابتلاءات، وهو كذلك من أعظم الأسباب المعينة على الأمل والبشر وانتظار الفرج في زمن الكُربات.

ثمرات اليقين وآثاره
لليقين آثار كثيرة وثمرات عظيمة في حياة العبد ومعاده، ومن تلك الثمرات ما يلي:
1- اليقين من أعظم أسباب حياة القلب وطمأنينته وقوته ونشاطه وسائر لوازم الحياة، فاليقين يزيل الريب والشك والسخط، ويملأ القلب نورًًا وإشراقًا ورجاءً وخوفًا من الله ومحبة له، ورضى بما قدر، وهو من أسباب زيادة أعمال القلوب كالتوكل والإنابة والخوف والخشية وإحسان الظن بالله تعالى، ولابد لليقين من علم صحيح يوصل بالخوف والرجاء فهما يدفعان إلى العمل بتحري الإتباع والإخلاص. (انظر: مفتاح دار السعادة).

وتأمل حال خليل الرحمن إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام عندما سأل ربه قائلًا كما أخبر الله تعالى عنه: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة: 260). فإبراهيم عليه السلام بسؤاله هذا «أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة». (تفسير القرآن العظيم)، فقال الله تعالى له: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) فأجاب إبراهيم عليه السلام بقوله: (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فرضي الله من إبراهيم قوله: (بَلَى) وعلم سبحانه من حال هذا الرسول الكريم أنه يريد زيادة الاطمئنان واليقين، وإزالة ما قد يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان. (تفسير القرآن العظيم). فازداد إبراهيم عليه السلام باليقين إيمانًا وقوة حجة وبرهان.

2- اليقين من أعظم أسباب قوة الإيمان وزيادته، وبه تنال الإمامة في الدين، يقول ابن القيم سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)». (انظر: مدارج السالكين).
كما أن من ثمراته العظيمة قوة التوكل على الله – كما أشرت في الثمرة الأولى – هذا العمل القلبي العظيم، فكلما ازداد اليقين في نفس العبد قوي توكله، قال تعالى:
(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل: 79) والحق هنا هو اليقين كما ذكر ابن القيم رحمه الله (مدارج السالكين).

3- اليقين سبب لتوفيق الله لعبده للجواب الصحيح حين سؤال الملكين في القبر – نسأل الله الثبات على الحق – كما أن اليقين سبب لدخول الجنة: فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، فأوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجال، يقال: ما علمك بهذا الرجل؟
فأما المؤمن أو الموقن فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثًا، فيقال نم صالحًا قد علمنا إن كنت لموقنًا به، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته»
(أخرجه البخاري ومسلم).

ويشهد لذلك الحديث السابق ذكره وهو قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: «من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة».(أخرجه مسلم) وكذلك جاء في سيد الاستغفار قوله صلى الله عليه وسلم: «من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» (أخرجه البخاري).

4- اليقين من أعظم الأسباب المعينة على العبادات والقيام بالمشروعات والإقدام على الأمر بالمعروف وإنكار المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى؛ وذلك إن اليقين يمنع ورود الشهوات والشبهات على القلوب، ويدفع عن النفس ما قد تجده من ثقل أو صعوبة في بعض العبادات، يقول ابن القيم: «والقلب متى استيقن ما أمامه من كرامة الله وما أعد لأوليائه؛ زالت عنه الوحشة التي يجدها المتخلفون، ولان له ما استوعره المترفون». (مفتاح دار السعادة).
ويقول الحسن البصري: «ما طلبت الجنة إلا باليقين، ولا هرب من النار إلا باليقين، ولا صبر على الحق إلا باليقين» (فتح الباري لابن رجب).
ويقول سفيان الثوري: «لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطارت القلوب اشتياقًا إلى الجنة وخوفًا من النار»
. (فتح الباري لابن رجب، وسير أعلام النبلاء).

5- اليقين من أسباب انشراح الصدر وسلامة النفس من الخوف والقلق والتردد، فاليقين يعين على الصبر والاحتساب والرضا بالقضاء والقدر، ويدفع عن القلب الوساوس والخواطر السيئة.
قال تعالى:
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن: 11) فاليقين – كما يقول ابن القيم – من أفضل مواهب الرب لعبده؛ إذ لا تثبت قدم الرضا إلا على درجة اليقين، يقول ابن مسعود في تفسير الآية السابقة: «هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم»
، يقول ابن القيم: «فهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا بيقينه» (انظر: مفتاح دار السعادة).
ويقول ابن رجب: «فمن حقق اليقين وثق بالله في أموره كلها، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفًا، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة» (جامع العلوم والحكم).
وتأمل قصة مسارعة أبي بكر الصديق إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج، فإن فيها من العبر اليقينية الشيء العظيم؛ فإنه
«لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضى الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة؛ فلذلك سُمي أبو بكر: الصدِّيق» (أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة).
انتهى؛ بتصرف بسيط من كتاب: (اليقين: مفهومه وآثاره ووسائل تقويته)

إن كل ما سبق ذكره يدعونا إلى اليقين بما يلي:
 أن الله سبحانه ناصر دعوته وإن قل النصير، ومُمَكن لدينه وإن عاداه كل متجبر حقير.
 أن الله منتقم ممن يُعادون أولياءه ودعوته؛ وإن كثر جندهم وعلا صوتهم وذاع سلطانهم.
 أن العاقبة للمتقين والخسران للظالمين.
 أن الله غايتنا، ومن كان الله غايته هانت عليه في الحق محنته.
 أن دعوة الله هي غرسه جل في عُلاه، وما غرسته يد الله لن تنال منه يد البشر، وستؤتي شجرة الدعوة أُكلها كل حين بإذن ربها.
 أن للكون ملك يُدبر أمره، وإله يُصرف شؤونه، وأنه لا يقع في ملكه سبحانه وتعالى إلا ما يعلم ويريد.
ورغم قتامة المشهد، وضيق المخرج، وتكالب الباطل، وبلوغ القلوب الحناجر، لا تفقدوا الأمل في مولاكم (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62))، سورة النمل.
 أن يد الله تبارك وتعالى تعمل، وعلينا أن نسترها بالجهد، لنحظى بالتأييد وننال الأجر.
 أن الغمة ستنكشف والمحنة ستزول، وسيأتي الفرج القريب بحول ربنا المجيب، ولن يطول ليل الظالمين، وسيعقبه فجر الصادقين، وسيخرج الصالحون الثابتون من البلاء خروج السيف من الجِلاء، أتقياء أنقياء. ولكنها سنة الله الواقعة في إمهال الظالمين وتمحيص المؤمنين. ومن يشك في ذلك فليراجع إيمانه ويجدد يقينه. (وَكَأنَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
 أننا نوقن يقيناً راسخاً بـ (أنه لا يصعب مع عون الله شيء)، فمن أوقف حياته ونفسه لنصرة الحق، واستشعر معية الله له، تراه دائماً لا يألوا جهدًا ولا يدخر وسعًا في سبيل دعوته، وإن تنوعت على طريقه الصعاب والفتن، وأحاطت به الشدائد والمحن، فهو يُوقن أن الله سبحانه معه، يؤيده ويعينه ويهديه، رغم كثرة الخطوب ووعورة الدروب. فلا يصعب مع عون الله شيء، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت 69). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقا