
السّاكِنَان لا يَلتقيَان – د. محمد حامد عليوة
- zadussaerinweb@gmail.com
- ديسمبر 7, 2024
- دعوتنا
- 0 Comments
السّاكِنَان لا يَلتقيَان (وقفة مع فقه الحركة بدين الله) – د. محمد حامد عليوة
من الأمور البديهية أن السكون لغةً ضدُّ الحركة، وأن الجسم إما أن يكون ساكنًا أو متحركًا، ولا يمكن لجسمٍ ما أن يكون ساكنًا متحرِّكًا في الآن نفسه.
نعم.. (السّاكِنَان لا يَلتقيَان)، وهو أمر مقطوع به في قواعد اللغة، وفي أصول الفقه وتطبيقاته، وفي نظريات العلم، وفي حركة الحياة.
لذلك كان مقتضى الحال أنه:
– لا بد من الحركة حتى يتحقق اللقاء.
– ولا بد من الحركة حتى يكون الأداء.
– ولا بد من الحركة حتى يستمر العطاء.
وإلا كيف يحدث اللقاء ويكون الأداء ويستمر العطاء مع السكون وعدم الحركة؟
ولا شك أن في الحركة طهر وبركة، أما الطهر فمصدره الحركة الصحيحة النافعة، فالماء الجاري طاهر في نفسه، مطهر لغيره، وهكذا حال من يتحرك بالخير بين الناس، فهو لم يكتفي بصلاحه ولكنه يسعى بحركته إلى إصلاح غيره، وحمل الخير الذي يحياه إلى من هم سواه، فيحفظ بذلك لنفسه صلاحها وينال بإصلاح نفوس غيره ثوابها.
والبركة في الحركة تأتي من أن حالة الصلاح الفردي التي لا يتعدى نفعها صاحبها فهي قاصرة قليلة الأجر والثمرة، وهو الأمر الذي عبر عنه الإمام حسن البنا في مذكراته بالقول: «وأعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عامله، قاصر ضئيل، وخير الأعمال وأجلها ذلك الذي يتمتع بنتائجه العامل وغيره، من أسرته وأمته وبني جنسه، وبقدر شمول هذا النفع يكون جلاله وخطره».
ورحم الله الإمام الشافعي حين أجاد تصوير هذا المعنى وتجسيد هذا المبدأ بأبياته الرائعة، فقال:
إِنّي رَأَيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ .. إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ
وَالأُسدُ لَولا فِراقُ الأَرضِ مااِفتَرَسَت .. وَالسَهمُ لَولا فِراقُ القَوسِ لَم يُصِبِ
وَالشَمسُ لَو وَقَفَت في الفُلكِ دائِمَةً .. لَمَلَّها الناسُ مِن عُجمٍ وَمِن عَرَبِ

الحركة من طبيعة الإسلام
وطبيعة الإسلام أنه دين حركة وفعل لا دين سكون وعجز، فنجده يطالب أبناءه بالحركة والتفاعل الإيجابي مع المجتمع الذي يعيشون فيه، ويحثهم على مخالطة الناس وغشيان مجامعهم، والتفاعل الإيجابي مع الأحداث والتعاطي مع الأحوال في صغير الأمر وكبيرة، ولا يسمح لهم بالسكون المفضي إلى العجز والكسل.
والمسلم الحق تتسم حياته بالحيوية الدائمة والإيجابية النافعة مع كل ما يحيط به من مفردات هذا الكون الواسع الفسيح، وعلى كل مستويات هذا المحيط ودوائره، حتى يربيه على أن دوره في هذه الحياة ليس لنفسه فحسب؛ ولكن عليه واجبات وأدوار نحو غيره، فمثلًا لا حصرًا أوجب عليه الإسلام أن يُحسن إلى والديه والقيام على برهما، وأن يصل رحمه، ويُحسن إلى جيرانه، ثم في أمور العبادات المحضة من صلاة وصيام وزكاة وحج يدعوه من خلالها إلى توسيع دائرة علاقاته وتنويع مستوى واجباته، فهو مطالب يوميًا بصلاة الجماعة بالمسجد ليحتك بشريحة أكبر من غير دائرة الأهل والقرابة والآرحام، وسنويًا يؤدي زكاته نحو شريحة من مجتمعه جعل الله لهم الحق في ماله، وفي صيامه كذلك وسائر مناسكه ما يجعله يتفاعل ويتشارك مع مجتمعه، والمسلم في كل عبادة تتسع دائرة حركته واحتكاكه وينتقل إلى مستوى تفاعل أكبر مع المجتمع المحيط به.
ثم هو مطالب بالإيجابية العامة مع المجتمع، وذلك بأداء واجب الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وهو الأمر الذي نالت به أمة الإسلام الخيرية عما سواها من الأمم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران 110)، ومُطالب بأن يقضي حوائج الناس ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف والصدقة والزكاة وكفالة اليتيم، ومطالب بالصدع بكلمة الحق أمام السلطان الجائر وإن أستشهد بسبب تحركه بكلمة الحق فهو (سيد الشهداء) كما ورد في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ص قال: «سيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلبِ، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله». وفوق ذلك كله، نصل إلى الذروة، فهو مطالب بالجهاد في سبيل الله وتعبيد الكون لله، وعمران الأرض، والهجرة فرارًا بالدين أو دفاعًا عنه. وغيرها من صور الحركة بهذا الدين ولهذا الدين.
الحركة بهذا الدين
ننتقل من هذا المعنى المجرد في السكون والحركة إلى تطبيقاته المحسوسة في حياة الدعاة والمصلحين، إذ لا بد لصاحب الدعوة الحق أن يتحرك بدعوته ويسعى بين الناس برسالته، ويندمج مع مجتمعه ومحيطه ولا ينعزل عنهما، فلا ينكفئ على نفسه ويترك الفساد يعيث من حوله، وفي نفس الوقت لا يدعى أنه يُصلح الكون من حوله ويترك الخراب يدب في نفسه.
ولقد عبّر صاحب الظلال وشهيد القرآن على ضرورة التحرك بهذا الدين بقوله: «والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه، مهما تفرغوا لدراسته في الكتب – دراسة باردة -! وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به لتقريره في حياة الناس، ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق!».
نعم هذا الدين بحقائقه وقيمه ومفاهيمه ومعانيه وشرائعه لا يمكن أن يقوم على الأرض ما لم يتجسد في بشر، يحملونه أولًا ويتحركون به بين الناس.
وهو الأمر الذي أكد عليه الإمام حسن البنا من قبل، وهو أن نهضات الأمم والشعوب تحتاج إلى جهود حقيقية وتضحيات عزيزة وحركة دؤوبة، تتجاوز الكلام والوعظ والإرشاد، فقد ذكر في هذا الشأن: «أن الوعظ والإرشاد والدعوة والإقناع وتهذيب النفوس وتزكية الأخلاق إنما هي سبيل الفلاسفة الخياليين لا المصلحين العمليين، ونحن قوم عمليون».
والأفكار والدعوات لا تنجح بالتنظير لها -فحسب- دون العمل في سبيل نشرها، والحركة بين الناس بها.
والحمد لله رب العالمين