نظرات فى تُراث الإمام حسن البنا (9)

دولة المتقين – بقلم: الدكتور محمد حامد عليوة

نستكمل النظر في تراث أستاذ الجيل الإمام حسن البنا، رحمه الله، ونقف اليوم مع مُقتطف هام من تراثه الزاخر، حيث ذكر رحمه الله في أحد توجيهاته المنشورة (بجريدة الإخوان المسلمين)، تحت عنوان (دولة المتقين) ما يلي:

«أيها الإخوان المسلمون: إن لأهل الأرواح دولة وللمتقين سلطانًا ومملكة، هي أوسع أقطارًا وأعلى أمتارًا من هذا الملك الزائل والدولة الحائلة والسلطان المزعزع المترجرج، فاتقوا الله.

أيها الإخوان: طهروا أرواحكم، وفدوا نفوسكم، واسموا بعواطفكم ومشاعركم عن هذه الأعراض الدنيوية، وكونوا ربانيين، يمنحكم الله من قوته وتأييده ما تعنو له الحياة وتنحنى أمامه رءوس الجبارين». (1)

الدروس والفوائد التربوية والدعوية من هذا التوجيه:

1- أن حياة القلب والروح هي جوهر حياة الفرد وإن ضعف بدنه وقل جهده، لأن صلاح الناس يبدأ من قلوبهم ونفوسهم، ففي الحديث الصحيح لرسول الله إذ يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت، فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»، وأن سعادتهم لا تأتى من سلطانهم أو نفوذهم أو مالهم، فكم من صاحب مال أوسلطان أونفوذ لكنه شقي تعيس بخواء نفسه وموات قلبه.

يقول الإمام حسن البنا: «طالعت كثيراً وجربت كثيراً وخالطت أوساطاً كثيرة وشهدت حوادث عدة، فخرجت من هذه السياحة القصيرة المدى الطويلة المراحل بعقيدة ثابتة لا تتزلزل، هي: أن السعادة التي ينشدها الناس جميعاً إنما تفيض عليهم من نفوسهم وقلوبهم، ولا تأتيهم من خارج هذه القلوب أبداً، وأن الشقاء الذي يحيط بهم ويهربون منه إنما يصيبهم بهذه النفوس والقلوب كذلك، وإن القرآن الكريم يؤيد هذا المعنى ويوضحه، ذلك قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11). وما رأيت كلاهما أعمق في فلسفة الاجتماع من قول ذلك:

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها *** ولكن أخلاق الرجال تضيق

اعتقدت هذا واعتقدت إلى جانبه أنه ليست هناك نظم ولا تعاليم تكفل سعادة هذه النفوس البشرية وتهدي الناس إلى الطرق لهذه السعادة كتعاليم الإسلام الحنيف الفطرية الواضحة». (2)

2- يؤكد الإمام البنا على طهارة الروح وتزكية النفس وسمو المشاعر عن أعراض الدنيا الفانية، لأن الدعاة إلى الله لا بدَّ أن ترتبط قلوبهم بمولاهم، وهذا الاتصال يحتاج إلى جهد وعمل مع الله سواء بالقلب أو الجوارح، فتجد قلب رجل الدعوة خاشعاً خاضعاً لربه، وتجد لسانه ذاكراً لمولاه، وعيناه تفيض بالدمع من خشيته رغبًا في ثوابه وخوفاً من عقابه، قلوبهم وجلة من ذكر الله، ويزداد إيمانهم وتزكوا أفئدتهم إذا تُليت عليهم أيات الله. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَأنًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (2 – الأنفال).

لذلك كثيراً ما كان يوصي الإخوان بالوصايا التي تدعوهم إلى تزكية نفوسهم ونقاء أعمالهم وحسن الصلة بربهم، وتحثهم على الإقبال على القرآن والتزود الدائم منه، فقد أورد في رسالة (بين الأمس واليوم) مانصه:

«أيها الإخوان:

* آمنوا بالله واعتزوا بمعرفته والاعتماد عليه والاستناد إليه، فلا تخافوا غيره ولا ترهبوا سواه. وأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه.

* وتخلقوا بالفضائل وتمسكوا بالكمالات، وكونوا أقوياء بأخلاقكم أعزاء بما وهب الله لكم من عزة المؤمنين وكرامة الاتقاء الصالحين.

* وأقبلوا على القرآن تتدارسونه، وعلى السيرة المطهرة تتذاكرونها، وكونوا عمليين لا جدليين؛ فإذا هدى الله قومًا الهمهم العمل؛ وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (3).

3- ما أجمل أن تتوجه قلوب الإخوان بصدق نحو خالقهم، لأن الربانية والصدق مع الله واليقين به سبحانه يمنح العبد قوة تعينه على نوائب الدهر ومشاق الطريق، قوة تجعله لا يرجو إلا الله ولا يخاف إلا من الله، قوة تزعزع أمامها قوى الجبارين في الأرض. لذلك كان صدق التوجه واتجاه القلوب إلى مولاها هي مصدر القوة وأساس العون.

يقول الإمام حسن البنا في أحد وصاياه القيمة للإخوان:

أيها الإخوان: إن أول ما أوصيكم به أيها الأحباب الأعزة، أن يصدق توجه قلوبكم إلى الله وحده، وأن تشرق أرواحكم بمعرفته، وتمتلئ قلوبكم بخشيته، وتأنس أنفسكم بجمال اليقين وعظيم الثقة به، ودوام مراقبته في كل قول وعمل، وأن تستقيموا على أمره، وتلتزموا حدوده وأحكامه، فذلك رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، وشتان ما بين قلب خأو لايتصل بالله في شيء، وبين قلب استنار بأضواء الإيمان، وأشرق بشمس اليقين. (4)

وختاما: وجب على السالكين لدرب الإصلاح والدعوة إلى الله، أن يكونوا ربانيين، أصحاب قلوب عامرة والسنة ذاكرة، وجوارح على مصاعب الطريق صابرة. وجب علينا التحلي بالربانية، وحسن الصلة بالله تبارك وتعالى، وتعلق القلوب به، والتذلل إليه، والانكسار بين يديه، واللجوء إليه، والاحتماء بقوته، والحياة في كنفه ومعيته، والاستعانة به، وطلب الهداية والتوفيق منه، فهو نعم المولى ونعم النصير.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

—————————–
(1) المصدر: مقال (دولة المتقين)، جريدة الإخوان المسلمين، العدد 8، 1 جمادى الأولى 1356 هـ – 9 يوليو 1937م.
(2) رسالة المؤتمر الخامس
(3) رسالة: بين الأمس واليوم
(4) من مقال للإمام حسن البنا نشر بجريدة الإخوان المسلمين، بتاريخ 24 شوال 1362 هـ – الموافق 23 أكتوبر 1943م.

اترك تعليقا