في مطلع القرن التاسع عشر كان العالم الإسلامي ما يزال يعاني صدمة تداعي الخلافة العثمانية الإسلامية، وكانت مصر ترزح تحت الاحتلال الإنجليزي، ولم يكن من الطبيعي أن لا يصدر عن الأمة ككل، وخصوصاً في مصر بلد الأزهر، أي رد فعل لسقوط الخلافة، وغياب ذلك الرمز الذي وحد كلمة المسلمين قرونا طويلة .
وبقدر عظم المصيبة التي أصابت الأمة، بقدر ما كانت ردود فعل المخلصين من أبنائها والذين رأوا آخر قلاعهم وهى تتهاوى ثم تتقاسم تركتها الأمم لتنشئ واقعاً جديداً – مغايراً تماماً لمواصفات الأمة الواحدة – يرتكز على هوية جديدة عمادها الإقليمية والعصبية وزرع العداوة والبغضاء بين وحدات هذا الواقع الجديد، وتبنى مناهج بعيدة كل البعد عن المنهج الرباني الواحد الذي كان أساس الأمة الإسلامية الواحدة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي منع من سقوط الرمز برغم فترات الضعف والخلل الذي كان يصيب كيان هذه الأمة السياسي في فترات تاريخية متباعدة .
ولعل دعوة الإخوان المسلمين والتي بدأت خطواتها الأولى رسمياً في مارس 1928 على يد الإمام الشهيد حسن البنا (1906-1949) وبعض رفاقه، كانت من أنضج الدعوات وعياً وإدراكاً وشمولاً لمعاني الإسلام التي أفرزتها مأساة سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية، بحيث عدها المؤرخون الرد الطبيعي الأول للأمة على هذه المأساة .
ففي رسالة (إلى الشباب) –1941– يقول الإمام الشهيد حسن البنا: «لقد أتى على الإسلام والمسلمين حين من الدهر توالت فيه الحوادث وتتابعت الكوارث، وعمل خصوم الإسلام على إطفاء رواقه وإخفاء بهائه وتضليل أبنائه وتعطيل حدوده، وإضعاف جنوده، وتزييف تعاليمه وأحكامه، تارة بالنقض منها، وأخرى بالزيادة فيها، وثالثة بتأويلها على غير وجهها، وساعدهم على ذلك ضياع سلطة الإسلام السياسية وتمزيق إمبراطوريته العالمية، وتسريح جيوشه المحمدية، ووقوع أممه في قبضة أهل الكفر مستذلين مستعمرين .
فأول واجباتنا نحن الإخوان المسلمين، أن نبين للناس حدود هذا الإسلام واضحة كاملة بينة، لا زيادة فيها ولا نقص بها ولا لبس معها. وذلك هو الجزء النظري من فكرتنا، وأن نطالبهم بتحقيقها ونحملهم على إنفاذها ونأخذهم بالعمل بها، وذلك هو الجزء العملي في هذه الفكرة . وعمادنا في ذلك كله، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسيرة المطهرة لسلف هذه الأمة، لا نبغي من وراء ذلك إلا إرضاء الله، وأداء الواجب وهداية البشر وإرشاد الناس». (رسالة: إلى الشباب)
وقد قفز الأمام حسن البنا بالعمل الإسلامي من إطار الجهود الفردية والاجتهادات الشخصية إلى إطار الحركات والجماعات الإسلامية لحمل المشروع الإصلاحي، ونقله من مشروع فكري نخبوي إلى حركة شعبية تضم فئات مختلفة من أفراد الشعب، وقد استطاع الإمام البنا إيجاد صورة جديدة لحمله الدعوة والفكرة الإسلامية في المجتمع، من المثقفين وطلاب الجامعات والمطلعين على العلوم الحديثة، والداعين إلى الاستفادة من الحداثة في إطار مدروس وفي سياق الحفاظ على (المقومات الحضارية) للأمة .
وبقيام جماعة الإخوان المسلمين، وجد المسلمون، والمثقفون منهم بشكل خاص، الإطار الملائم الذي يصبون جهودهم من خلاله في سبيل نصرة الإسلام.. إن أضخم إنجاز حققته جماعة الإخوان المسلمين، هو أنها أخرجت المسلمين من الزوايا والتكايا، وأسقطت وصاية القاصرين، والمسيئين عنه، وأكسبته مداً جماهيرياً، وأبرزته في الإطار الحضاري المتناسب مع روح العصر.
وقد مثلت الجماعة منذ تأسيسها في منتصف القرن الرابع عشر الهجري في مصر، حركة تجديدية بالمعنى الشامل للاسلام، واعتبر مؤسسها الامام الشهيد حسن البنا رحمة الله، مجدد القرن.
ولا غرو أن نقول: أن فهم الإخوان المسلمين للإسلام، كان غريباً على كثير من المسلمين في ذلك الوقت .. فعامة المسلمين كان لا يرى في الإسلام شيئاً وراء حدود الشعائر التعبديّة، ومنهم من كان لا يرى في الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانيّة الفياضة، ومنهم من يرى الإسلام عقائد موروثة وعادات بالية لا بدّ من التخلّص منها، وقد كثر وجود هذا الصّنف فيمن تلقّوا الثقافة الأجنبية ولم تُتَح لهم فرصة الاتصال بالحقائق الإسلامية.
لقد كانت دعوة الإخوان المسلمين، هي (دعوة الإسلام)بالشمول والتكامل والتوازن والوضوح والدقة التي جاء بها رسول الله ﷺ والثابتة لدينا بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة.
فجاهدت الجماعة لإشاعة ونشر فهمها للإسلام وتثبيته في نفوس أبنائها أولا ثم في صفوف عامة المسلمين، والذي يمكن إيحازه في النقاط الثلاث التالية:
أولاً:الشمول :-أحكام الإسلام تنتظم شؤون النّاس في الدنيا والآخرة. فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف.
وفي القرآن الكريم توجيه إلى العبادة المخلصة، وإلى الأخذ من زينة الدنيا، وإلى تنظيم شؤون الحكم والسياسة والقتال والمداينة، وفيه تشنيع على من يتّخذ الدين أجزاء وتفاريق كما فعل اليهود. قال تعالى: (أفتؤمنونَ ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاءُ من يفعلُ ذلك منكم إلا خِزْيٌ في الحياة الدّنيا، ويومَ القيامة يُردّون إلى أشدِّ العذاب. وما الله بغافل عمّا تعملون).سورة البقرة: 85.
ثانيا: الربانية :-أساس أحكام الإسلام ومعينها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تضلّ الأمة ما تمسّكت بالكتاب والسنّة، وإن كثيراً من الآراء والعلوم التي اتّصلت بالإسلام إنّما تلوّنت بلون العصر الذي نشأت فيه، ولهذا يجب أن نستقي النظم الإسلامية التي تُحمل عليها الأمة، من هذا المعين الصّافي، وأن نفهم الإسلام كما فهمه الصحابة والتابعون من السّلف الصالح رضي الله عنهم.
ثالثا:الإسلام دين البشرية كلّها، في عصورها جميعاً، وفي جوانب الحياة كلّها، فمن واقعيّته أن يرسم القواعد الكليّة، ويدع كثيراً من التفصيلات والجزئيات، لا سيّما في شؤون الدّنيا. وأن يُعالج النفس الإنسانية من أمراضها، ويسمو بها في آفاق الكمال. فإذا استقامت النفس استقام كل سلوك يصدر عنها.
ولقد قيل: إن العدل يكون في نفس القاضي أكثر مما يكون في نص القانون.فبالقواعد الكلية والتوجيهات العامة لشؤون الحياة المتطوّرة(مع ضبط مفصّل للشؤون الثابتة)ومع تهذيب للنفس البشرية وتطهير … تنطلق الحياة نظيفة في ظلّ الإسلام.
وكان من نتيجة هذا الفهم الصحيح للإسلام أن أصبحت دعوة الإخوان شاملة لكل خير، يجد فيها كل مخلص غيور أمنيته.
وعليه نقول: إن الإخوان المسلمين:
دعوة سلفية:لأنّهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنّة رسوله ﷺ.
وطريقة سنية:لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنّة المطهرة في كل شيء، وبخاصّة في العقائد والعبادات.
وحقيقة صوفية:لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ونقاء القلب، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحبّ في الله، والارتباط على الخير.
وهيئة سياسية:لأنّهم يُطالبون بإصلاح الحكم، وتعديل النظر إلى صلة الأمّة الإسلامية بغيرها، وتربية الشعب على العزّة والكرامة.
ورابطة علمية ثقافية: لأن الإسلام يهتم بالعلم. وأندية الإخوان مدارس للثقافة والتعليم والتربية.
وشركة اقتصادية:لأن الإسلام عُني بشؤون المال والصّناعة والتّجارة والزراعة.
وفكرة اجتماعية:لأنهم يعنون بأدواء المجتمع ويحاولون علاجها. فقد ترى الأخ في المحراب خاشعا متبتلا، ثم تراه مدرسا واعظا، ثم تراه في الملعب رياضيا، ثم في عمله تاجرا أو صانعا، وليس في الاهتمام بهذه النواحي جميعا أي تناقض أو تعارض .
———————-
المصدر: رسالة من معين التربية الاخوانية، المجلد الأول، العدد 1، ذو القعدة 1429هـ ، أكتوبر 2008م.