رسالة وضوح الرؤية على طريق الدعوة (الجزء 2)

رسالة وضوح الرؤية على طريق الدعوة (الجزء 2)

(3) حقيقة المعركة

 إدارة حقيقة المعركة وموضوعها ومعرفة أطراف الصراع الأصليين والتابعين وتحديد ميدان المعركة حالياً من أهم مفردات ومكونات الرؤية الواضحة، والناظر إلى المعركة الدائرة بين أمة الإسلام وبين عدوها قد يظن لأول وهلة أنها صارت معركة غير متكافئة، ولم يعد هناك مبرر لاستمرارها إذ يبدو أنها حسمت بالتفوق الساحق لأعداء الإسلام على المسلمين حتى صار المسلمون لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً؛ فهناك فجوة هائلة في امتلاك أسباب القوة العسكرية بين المسلمين وأعدائهم ، تلك الفجوة التي إن تحقق مثلها بين أي عدوين متقاتلين لاكتفى المتفوق منهما بها واعتبر نفسه منتصراً نصراً عسكرياً ساحقاً وَعَدَّ عدوه من المهزومين الذين انتهى خطرهم.

وعلى الصعيد السياسي فإن الكيانات السياسية التي تضم المسلمين على اتساع الكرة الأرضية لا تملك استقلال الإرادة السياسية وحرية القرار ومعنى ذلك أننا على صعيد الصراع السياسي مع الكيانات الأخرى نعتبر مهزومين إذ يستطيع عدونا توجيه القرار السياسي لبلادنا بما يحقق مصالحه هو وإن تعارضت مع مصالحنا، وقد يكون هذا منتهى مراد معظم المتصارعين في الحروب والنزاعات، أن يسلب أحدهم غريمه الإرادة السياسية أو حرية اتخاذ القرار وعندها تضع الحرب أوزارها.

وعلى الصعيد الاقتصادي، تتعجب عندما تلاحظ أن المسلمين الذين يتمتعون بثروات هائلة لا يملكون على أرض الواقع استقلالاً اقتصادياً ولا هم مسيطرون على ثرواتهم سيطرة حقيقية، إننا نعاني من التبعية الاقتصادية، ولا يخفى أن كثيراً من أصحاب الأطماع في عالمنا المعاصر رأوا في امتلاك السيطرة الاقتصادية على مقدرات منافسيهم بديلاً كافياً ومرضياً عن الاحتلال العسكري، فهم يعدون النجاح في إرغام عدوهم على التبعية الاقتصادية انتصاراً حقيقياً ومعياراً لهزيمة عدوهم الشاملة،

وعلى المستوى العلمي والتطبيقي، فإن تباين الفجوة الهائلة بيننا وبين أعدائنا على هذا الصعيد لا يحتاج لجهد.

 والآن، ماذا يريد المنتصر أكثر من هذا ؟؟ إن معركة يحقق فيها أحد طرفيها مثل هذه الانتصارات على عدوه جديرة بأن ينقشع غبارها وتخمد نارها،إن تفوقاً هذا وصفه يحققه أحد الطرفين على غريمه كفيل بأن يطمئن هذا المتفوق إلى الدرجة التي تجعله لا يأبه بالطرف الآخر ثانية ولا يخش من جهته تهديداً فقد انتهت المعركة بانتصار على كل الجبهات.

 ولكنها ليست هي الحقيقة، ما زال الطرف المتفوق يكيل لنا الضربات ويحتاط منا ويجمع علينا بل مازال يعدنا العدو الأول الذي يخشى جانبه،ما زال الطرف المنتصر يزيد المعركة شراسة حتى أن الحرب لا يبدو عليها أنها في طريقها لتضع أوزارها بل هي في اتجاه أن تزيد أواراها، لماذا؟

لأن عدونا يفهم حقيقة المعركة وموضوعها وميدانها فهماً أصح وأدق من فهم كثير من بني جلدتنا الذين صدموا من عظيم الهزائم وتعددها فأحبطوا، يفهمها فهماً أصح من فهم كثير حسنت نياتهم فشغلوا أنفسهم فقط بالتحايل لاستعادة أسباب القوة في الميادين الحضارية التي هزمنا فيها عسى أن تتمكن أمتنا من العودة إلى حلبة الصراع الذي يظنونه قد حسم مؤقتاً لصالح عدونا، أما عدونا نفسه فهو أول من يعلم أنه لم يكسب بعد المعركة رغم كل ما حققه، عدونا نفسه هو الذي يدرك أن المعركة الحقيقية الفاصلة لم تحسم لصالحه لذلك فهو مستمر في حربه. فما هي حقيقة المعركة التي يريد الانتصار فيها ؟

نجح عدونا عدة مرات على مدى سنوات الاحتلال في تفريغ الإنسان المسلم والمجتمع المسلم من مظاهر الإسلام، ولكنه صدم أيما صدمة حين وجد كيان الفرد المسلم يمتلئ إسلاماً مرة أخرى بمجرد أن سنحت له فرصة، أدرك العدو أن كيان الإنسان المسلم مازال سليماً يصلح أن يحمل إسلاماً يوماً ما، وأدرك مع هذا أن نصره الحقيقي لن يكون بالسيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية طالما ظل الكيان المسلم صالحاً أن يحمل الإسلام يوماً ما، لذلك فإن ميدان المعركة الحقيقي الذي يحارب فيه عدونا الآن هو ميدان كيان الإنسان المسلم في الأساس .

إنه يسعى لإفساد هذا الكيان، إنه ينظر إلى تكوين الفرد المسلم نظرته إلى إناء صالح للامتلاء بالإسلام، وأراد العود لهذا الإناء أن يفرغ من الإسلام ويمتلئ بغيره، فلما فشل قرر أن يثقب هذا الإناء حتى لا يصلح أن يحتفظ بالإسلام إن صب فيه مستقبلاً، ومن ثم صار ميدان المعركة الحقيقي الذي يجب أن نتنبه إليه هو هذا الكيان وهذا التكوين فعدونا لا يكتفي بتلك الفجوة الحضارية في المجالات العسكرية والسياسية والعلمية والاقتصادية وغيرها، عدونا يملؤه الرعب من المارد المسلم النائم رغم أن هذا المارد لا يستطيع أن يعيش إسلامه الآن، عدونا موقن أن هناك أفراداً مسلمين صالحين لحمل الإسلام مرة أخرى وهم يتزايدون وهنا مكمن الخطر ومن ثم كان جوهر المعركة وميدانها الحقيقي ، تكوين الإنسان المسلم.

 إن ميدان المعركة بيننا وبينهم الآن هو الهوية والخصائص والتكوين والصبغة الإسلامية، (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)، فعدونا الأصيل هم أصحاب مشروع الهيمنة الغربية، والصهيونية العالمية جزء منه، أما حكام المسلمين فهم أدوات بلغ بهم السفه أن باعوا آخرتهم وهم يسعون لكسب دنياهم، أعداؤنا يسعون بوضوح شديد لطمس الهوية الإسلامية وإزالة صبغة الله وتكريس ذلك بإفساد تكوين الإنسان المسلم حتى لا يصلح أن يحمل إسلاماً يوماً ما، وبالتالي يعجز المسلمون عن استعادة ما فقدوه على صعيد القوة والسياسة والاقتصاد والعلم، هم يسلكون في سبيل باطلهم وسيلة التربية النظرية والعملية من خلال الإعلام والتعليم والإفساد الاقتصادي والاجتماعي ويجعلون ذلك جهدهم الرئيسي.

ونحن نعمل للاحتفاظ بتكوين المسلمين في حالة تيسر لهم أن يمتلئوا إسلاماً يوماً ما، وهم يستخدمون أذناباً محلية لمحاربتنا، هذه الأذناب ما هي إلا حبالهم وعصيهم يخيل إلينا أنها تسعى، أو هم سفهاءهم الذين أغروهم كما أغرى أهل الطائف سفهاءهم برسول الله ﷺ من قبل، أما أذرع البطش الممتدة ضدنا من أجهزة هؤلاء السفهاء فقد بلغ من حمقها أن باعت آخرتها أيضاً ولكن بثمن أقل، باعتها بدنيا غيرها: دنيا السفهاء.

من أجل ذلك كانت الرؤية عندنا واضحة، أصررنا على أن نحارب في الميدان الفعلي للصراع ميدان التربية والتكوين والحفاظ على الهوية الإسلامية، وكانت الرؤية واضحة حين  تعالينا على التورط مثلما تورط غيرنا في اتخاذ الأدوات السفيهة والأجهزة الحمقى أعداءً أو أهدافاً لنا من دون العدو الحقيقي رأس الأفعى، ومن هذه الرؤية الواضحة نبع منهجنا في التغيير بكل خصائصه ومنها نبذ العنف حتى وإن مارسته ضدنا أدوات سفيهة أو أجهزة حمقاء تدرك أو لا تدرك أنها باعت آخرتها بدنيا غيرها، وهكذا لا تستدرجنا المناوشات والهجمات التي تشنها الأدوات والأجهزة عن إدارة المعركة الحقيقية، ولا يخدعنا تصدير أدوات باعت آخرتها بدنياها ولا أجهزة باعت آخرتها بدنيا غيرها، فتلهينا بعداوتها عن العدو الحقيقي الذي يستخدمها ويغريها ويستفيد من سفهها وحمقها، فذلك ما يريده العدو الحقيقي في سعيه للانتصار في المعركة الفاصلة بصرفنا عنها بحباله وعصيه.

  (4) حجم التحديات

 عرفنا طبيعة المرحلة وحقيقة المعركة  ومن هم الخصوم، والآن نظرة على التحديات التي نواجهها، تحديات بعضها نلاحظها وهي تلاحقنا، وبعضها يحتاج التدقيق كي نكتشفها، في ظل معركة الهوية، ومحاولات طمسها، معركة التكوين ومحاولات إفساده، تتضافر التحديات معاً من أجل فرض واقع جديد علينا محلياً وإقليمياً ودولياً، واقع تختفي فيه الهوية الإسلامية من شخصيتنا وتتحول فيه خصائصنا على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع إلى خصائص أخرى، واقع تتوارى فيه خصائص المسلم المؤمن المحسن المجاهد وتظهر فيه خصائص الوهن حب الدنيا وكراهية الموت، بل واقع تنتكس فيه الفطرة وتختفي فيه الأخلاق الأساسية اللازمة لبناء الحضارات والقيم التي تؤهل لاستعادة الأمجاد مثل الصدق والأمانة والوفاء والمروءة والشجاعة وإتقان العمل والنظام والرأفة والرحمة والعدل .

إن أول وأخطر وأهم هذه التحديات التي تواجهنا محاولات تمرير المشروع الغربي الصهيوني ومساعدته بالتطبيع للهيمنة على مقدرات الأمة، فهو المشروع المناوئ لمشروعنا الإسلامي على الصعيد العالمي والإقليمي والمحلي، وهو المشروع الذي يتاح له توظيف كافة المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في لب الصراع، وجوهر المعركة هذا المشروع المناوئ موجود فعلاً على أرض الواقع ويعمل فيه، ومن ثم فلسنا وحدنا على الساحة، والتغيير الذي يمكن أن يحدث على أرض الواقع ليس فقط نتاج عملنا لكنه محصلة أدائنا وأداء القوى الأخرى التي تحمل مشروعات للتغيير، تلك سنة من سنن الله وقانون من قوانين الحياة التي خلقها الله سبحانه وتعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)

والتحدي العالمي الآخر الذي يواجهنا يبدو في محاولات إضعاف دورنا القيادي للحركة الإسلامية العالمية وريادتنا لها هذه الريادة التي آلت إلينا على أرض الواقع لاعتبارات عديدة، هذا التحدي نابع من إدراك أصحاب المشروع الغربي الصهيوني لمسار حركة التاريخ، ويقينهم باتساقها مع المفهوم الإسلامي للعالمية، فرسالة الإسلام للناس كافة لذا فإن الدنيا صائرة لا محالة إلى تجمع في الأمم وتكتل في الأجناس والشعوب وتداخل الضعفاء بعضهم في بعض ليكتسبوا بهذا التداخل قوة، وانضمام المفترقين ليجدوا في هذا الانضمام أنس الوحدة، وكل ذلك ممهد لسيادة الفكرة العالمية وحلولها محل الفكرة الشعوبية القومية التي آمن بها الناس من قبل، وكان لابد أن يؤمنوا هذا الإيمان لتتجمع الخلايا الأصلية ثم كان لابد من أن يتخلوا عنها لتتألف المجموعات الكبيرة ولتتحقق بهذا التآلف الوحدة الأخيرة، وهي خطوات إن أبطأ بها الزمن فلابد أن تكون، وحسبنا أن نتخذ منها هدفاً وأن نضعها نصب أعيننا مثلاً وأن نقيم في هذا البناء الإنساني لبنته، وليس علينا أن يتم البناء فلكل أجل كتاب.

وعلى الصعيد المحلي فإننا نواجه جهوداً مضنية لإقصائنا عن كافة الواجهات العامة بما في ذلك المساجد التي تمثل بعض شرايين الالتحام الحيوي بهذا الشعب الطيب، هذه المساجد التي تغذي الحركة الإسلامية على مر العصور بحملة النور الرباني، وهي المنابر التي تصل من خلالها كلمة الحق إلى الناس فهي بيوت الله في الأرض.

كما أن هناك جهوداً كبيرة لمنافستنا في الأنشطة التي نقوم بها والتي اكتسبت شرعية واقعية بين الناس ومن أبرز هذه الجهود تلك المحاولات التي تبذل لتقديم الأنشطة بديلة تحت رايات مختلفة وهي نوعان :

 أولهما: منافسة محمودة بأنشطة بديلة مفيدة ومطلوبة، حتى وإن كانت نيتهم فيها منافستنا وتحجيم دورنا فلا بأس من المشاركة فيها مثل صلاة العيد ومشروعات التكافل وغيرها.

 وثانيهما: أعمال تصرف الناس عن أنشطتنا دون أن يكون فيها نفع لشعبنا مثل بعض الأسر الطلابية والاتحادات المعينة وغيرها في الجامعات في محاولة لطمس الهوية الإسلامية،وهذه يجب علينا مقاطعتها وصرف الناس عنها بالحكمة والموعظة الحسنة ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .

 ويحرص النظام على تغييب اسمنا ورموزنا لارتباط هذا الاسم وهذه الرموز بالبذل والعطاء والخدمة العامة والطهارة والنقاء، والمبادرة إلى الخير والاعتدال والرفق بالناس ونبذ العنف، هذه الأمور التي تعوق إلى حد كبير نجاح حملات التشويه الإعلامية المنظمة ومحاولات تلفيق التهم لأفرادنا وإثارة الشبهات من حولهم.

 أما كيان الحركة الإسلامية فيتعرض لعملية تقطيع لأوصاله وضرب العناصر الفاعلة فيه، ويتعرض الصف الداخلي لتحدي أمني يتدرج من التخذيل إلى التنصت إلى محاولة الاختراق وتضييق قنوات الموارد ومقومات نجاح الدعوات، ولقد كان الإمام الشهيد واضحاً معنا حينما صارحنا أننا سنلقى خصومات من كثير من الناس ومن الحكومات وسنتعرض للسجن والاعتقال والتفتيش والإيذاء، وأننا عندما نتعرض لذلك نكون قد بدأنا نسلك طريق أصحاب الدعوات، وقال وقد يطول بكم الامتحان، فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟.

 وبرغم ضخامة هذه التحديات إلا أنها متوقعة وطبيعية إنها تطبيق معاصر لقانون ورقة بن نوفل الذي ينطبق على كل من يحمل رسالة الحق إن محاولات إخراجنا من ساحة التأثير هي الإخراج المناظر لما قرره ورقة بن نوفل في قانونه، قال ورقة للنبي ﷺ: «إنه الناموس الذي نزل على موسى وليتني أكون معك جذعاً حين يخرجك قومك»، قال النبي ﷺ «أو مخرجي؟» قال ورقة: «ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا وأخرجه قومه».

————————-
انتهى الجزء الثاني، ويتبعه الجزء الثالث إن شاء الله تعالى.

اترك تعليقا