أكرمنا الله سبحانه وتعالى بنعمة الإيمان، ومنً علينا بنعمة الإسلام، وأرسل إلينا خير رسول أرسل وأنزل إلينا خير كتاب أنزل، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، كما أنعم علينا سبحانه بنعمة الأخوة في الله، في زمن طغت فيه الأثرة والأنانية وحب النفس وتغليب المصلحة الفردية، هذه النعمة العظيمة التي لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من خير بسببها لجالدونا عليها بالسيوف، والتي عبر عنها الإمام البنا – رحمه الله – قائلا: «أخوتكم سر قوتكم).
ومن نعم الله الظاهرة علي بعض عباده نعمة الدعوة الى الله والعمل لدين الله في زمن قل فيه العاملون وكثر فيه القاعدون عن نصرة الدين والدعوة إليه بإحسان، ونعمة الدعوة فضل من الله واصطفاء منه سبحانه لبعض عباده، رغم أنها واجب علي الجميع كل في ميدانه ومجاله إمتثالًا لقوله تعالي (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فكل من إتبع رسول الله ﷺ وجب عليه أن يدعو إلى الله.
ولأن الدعوة إلى الله نعمة وفضل من الله، وجب علي العاملين المجاهدين شكر هذه النعمة، حتي تدوم عليهم ولا يحرمون منها ومن فضلها (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
والشكر كما ذكر العلماء له عدة أوجه هي: (1) شكر اللسان: بأن يداوم الدعاة والعاملون تذكر هذه النعمة، وشكر المنعم بها سبحانه وتعالي، والتي لولاها لحرموا من خير كثير، وبذلك يضمنوا مع هذا الشكر بقاء النعمة بل وزيادتها بكثرة العمل والجهد في سبيل الله. (2) شكر الجنان: بأن يستشعر الأخ المسلم بقلبه أثر هذه النعمة عليه، وأنها كانت سببًا وراء خروجه من دائرة السكون والعجز في هذه الحياة الي دائرة العمل والفعل والحركة والتأثير والنفع. (3) شكر الجوارح والأركان: بأن يضاعف أهل الدعوة من جهودهم في سبيل نشرها ونجاحها، فلا يركنون فيعطونها فتات أوقاتهم، ومن صور شكر الجوارح أيضا مضاعفة البذل والجهد والتضحية في سبيل رفعتها، فتجد الأخ الشاكر علي نعمة الدعوة لا يهدأ له بدن ولا يستريح له بال ولا تلين له عزيمة إلا وهو يرى دعوته مزدهرة منتشرة، يلتف حول لوائها الناس.
التضحية على طريق الدعوة: من هنا كانت التضحية في سبيل الدعوة ببذل النفس والوقت والمال وكل شيء في سبيل الغاية، وفي ظلال هذه المعاني عاش صحابة رسول الله ﷺ، ومن سار علي نهجهم من الدعاة والمخلصين، فقد كانوا يحيون لدعوتهم وبدعوتهم، تراها في قلوبهم وعيونهم وتملأ عليهم حياتهم، يحملون همها وينشغلون بها، ويضحون من أجلها.
والذى يطمئن المؤمن ويدفعه للبذل والتضحية أن ما يقدمه من تضحيات بالجهد والمال والنفس لا يضيع، بل يقابل بالإحسان وأعظم الجزاء (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ : 39، (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) آل عمران : 157. وإن أي شيء يبذله المسلم يؤجر عليه صغيرًا كان أو كبيرًا. وقد ساق الإمام حسن البنا في هذا المعنى قوله تبارك وتعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) التوبة 120، 121.
إن كل ما يقدمه المرء من تحمل للجوع والعطش والألم والتعب والخطوات التي يمشيها من أجل الدعوة والتي تغيظ أهل الكفر والطغيان، وكل ما يسهم به من أجل نصرة الإسلام قليلًا أو كثيرًا، صغيرًا أو كبيرًا، يحفظه الله لعبده ولا يضيع، ويقابل الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
المقصود بالتضحية: كلمة التضحية في اللغة: مصدر للفعل ضحى، يقال ضحى بالشاة ونحوها أي ذبحها في الضحى يوم عيد الأضحى، ويقال ضحى بنفسه أو بعمله أو بماله: أي بذله دون مقابل (المعجم الوجيز). من المفهوم يتضح أن الذى يضحي بوقته أو بماله أو بنفسه في سبيل غاية عظيمة ومقصد نبيل لا ينتظر مقابل إلا رضا الله سبحانه وتعالى.
ورحم الله الإمام البنا وهو يتحدث في ركن التضحية فيقول: «وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) التوبة:111 (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة:24، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) التوبة:120 (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) الفتح:16. وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا)» (رسالة التعاليم).
شرعية وأهمية التضحية في سبيل الله: إن التضحية بالنفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الله قد تكون واجبًا لا فكاك عنه إذا كان لا بد منها لدفع الضرر عن المسلمين أو رد عدو عن أرضهم، وقد تكون التضحية مندوبًا إليها ومستحبة عندما لا تكون واجبة، وقد طالب الإسلام المسلمين بالتضحية في سبيل الله ووعدهم ربهم بالجزاء عليها أحسن الجزاء، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة:111.
ولقد أدرك الإمام الشهيد حسن البنا هذه المعاني، وعلم العاقبة الوخيمة التي تنتظر القاعدين، ومن هنا أعلن بكل قوة وصراحة أن «من قعد عن التضحية معنا فهو آثم»، فكيف لا وقد توعدهم الله ووصفهم بالفسق، كما توعدهم بالعذاب الأليم والاستبدال أكثر من مرة.
بين التضحية والجهاد: يُعلق الأستاذ سعيد حوي – رحمه الله – على هذه العلاقة، فيقول «هناك فارق إلى حد ما بين الجهاد والتضحية، فأحيانا يتطابقان وأحيانًا يتكاملان ولذلك اعتبرهما الأستاذ الإمام البنا ركنين من أركان بيعة الأخ المسلم على طريق الدعوة، فقد يجاهد المجاهد حتى إذا جاء دور بذل الروح تردد، وقد يجاهد المجاهد بالوقت ويضحى بالمال ولكنه لا يضحى بالحياة، ومن ثم أدخل الأستاذ البنا التضحية بالنفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في هذا الركن، إنه حيث وجد جهاد وجد نوع من التضحية غير أن الجهاد الكامل لا يكون إلا إذا وجدت تضحية كاملة، وإن ميزان هذا الركن هو أن يبذل الإنسان نفسه وماله ووقته وحياته من أجل تحقيق الأهداف في سبيل الله».
ملامح الشخصية المجاهدة المضحية: وقد حدد الإمام البنا ملامح الشخصية المضحية المجاهدة على طريق الدعوة حيث قال: «أستطيع أن أتصور المجاهد شخصا قد أعد عدته وأخذ أهبته وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير عظيم الاهتمام على قدر الاستعداد أبدا، إن دعي أجاب وإن نودي لبى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه وترى في بريق عينيه وتسمع في فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوىَ لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزيمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة». (من مقال للإمام البنا بعنوان: أمة فى ميدان الجهاد، نشر 1935)
من هنا وجب علي العاملين أن يشمروا عن سواعدهم، وأن يتخففوا من أثقال هذه الدنيا، وأن يعيشوا حياتهم عزيزة كريمة من أجل قضية كبيرة وغاية عظيمة، وأن يعلموا أن نجاحهم وفلاحهم في الدنيا والآخره مرهون بما قدموه لدينهم ودعوتهم.
قد رشحوك لأمر لو فطنت له … فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
ندعو الله سبحانه أن يجعلنا من عباده الصالحين، ومن جنده المخلصين العاملين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين