الدعوة.. المبادئ قبل الأشخاص

الدعوة.. المبادئ قبل الأشخاص بقلم: أحمد صلاح

من الطبيعي والمنطقي والبديهي أن يتأثَّر التلميذ بأستاذه الذي أخذ بيده من الظلمات إلى النور، ومن حياة التخبط واللا معنى إلى حياةِ الرؤية الواضحة والارتياح لمعنى الحياة وهدفها ومغزاها، ومن عالم الجهل إلى عالم المعرفة والتأمل.

طبيعي ومنطقي وبديهي أن يَدين الطالب لأستاذه بالجميل، ولكن من الخطأ أن يعتبر أن آراءه وأفكاره منزَّهةً عن النقص؛ لا يجوز عرضها على المنطق ولا التفكير فيها لتعديلها أو رفضها، فيظل يربط عقله بعقله، وقدمه بقدمه، ويده بيده، وقلبه بقلبه، فيفعل ما يفعل، ويحب ما يحب، ويكره ما يكره، يتحمَّس إذا تحمَّس، ويفتر إذا فتر، ويتقدَّم إذا تقدَّم، ويرجع إذا يرجع.
يفعل المدعو ذلك وهو لا يدري أنه قد أخطأ خطأً كبيرًا بأن جعل أستاذه الداعية حاجزًا بينه وبين المرجعية الكبرى التي لا يأتيها الباطل أبدًا: القرآن والسنة.

يفعل التلميذ ذلك وهو لا يدري أنه يقطع حبل الربانية بينه وبينه خالقه الذي يُمده بالزاد المتواصل إذا ذهب البشر، ويهديه الصواب إذا اختلف الناس وتاهت الأفكار، ويهديه السبيل إذا ضاع الطريق.
أتذكرون وفاة الرسول ﷺ؟ أتذكرون الصدمة التي دفعت الآلاف من المسلمين إلى أن يرتدُّوا فيمتنعوا عن دفع الزكاة؟ أتذكرون ماذا قال أبو بكر أشد مَن أحبَّ الرسولﷺ من الناس وصدقَه وتفانيَه في التضحية من أجله، آخر مَن يتصوَّر أن يفقد حبيب القلب ورفيق العمر؟

لقد نادى في الناس برباطة جأش أذهلت كل مَن يعرف أبا بكر الصديق وهو يقول: «مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت». ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ آل عمران: 144.

رغم كل هذا الحب كان كل هذا الوعي والفهم وتحمل المسئولية والتعلق بالفكرة والمبدأ والمنهج ورب المنهج، لا معلِّمِه ومرشدِه، حتى وإن كان هذا المعلم والمرشد هو الرسول نفسه.

احترام المعلم والعالم
من المؤكد أننا مطالبون باحترام معلمينا وعلمائنا وتقدير جهدهم وآرائهم وتفكيرهم، فنذكرهم دائمًا بالخير، ولا نسمح لأنفسنا ولا لغيرنا بالتطاول عليهم أو اغتيابهم إذا اختلفوا مع رأيهم، ولا النيل منهم أو التشهير بهم إذا أخطئوا كأي بشر مُعرَّض للخطأ مهما كان علمه وقدره، لكننا في الوقت نفسه مطالبون بألا نرفعهم إلى درجةِ القداسة، فنعتبر أن كل ما يجري على لسانهم صحيحًا، بغض النظر عن مرجعيته، أو دون محاولة النظر فيه أو الرد عليه، واعتبار أن كل ما يقال على ألسنة مَن اختلفوا معهم خطأ لا ينبغي النظر إليه أو التعليق عليه أو الأخذ به.

مكمن الخطورة
وعندما يذوب الحد الفاصل بين حب العلماء والأساتذة والتعلق بهم، يبدأ الخطر على الدعوة نفسها؛ لأن هذا التعلق المرفوض بهم سيدفع إلى تحوُّل ولاء الأشخاص من الدعوة إلى الولاء لهم، وسيكون ذريعةً لتبرير الخطأ، ويجعل انتقاد الأفكار مرادفًا لانتقاد الرموز والشخصيات.

هذا الأسلوب في التفكير يجعل الدفاع عن الرمز والشخص مقدَّمًا على الدفاع عن الدعوة والفكرة، ويجعل الأشخاص تعلو على المبادئ والأفكار، وهو أمر ينفي الإخلاص والتجرد للدعوة، فيضعها في مهبِّ ريح الهوى والعصبية، وينشأ التعصب الأعمى للفرق والمذاهب – والتي من الطبيعي والمنطقي وجودها طالما وجد الناس الذي خلقهم الله مختلفين ولا يزالون مختلفين -، أما المَشين فهو أن يتحوَّل الخلاف المذهبي والفكري إلى ساحةٍ للغِيبة والنميمة وتجريح الأشخاص والعلماء، وربما يصل إلى أبعد من ذلك، بما يتنافى مع أبسط قواعد الأخلاق الإسلامية والإنسانية.

إن التعلق بالشخص دون الفكرة يجعل صاحبه أسيرًا لمَن تعلَّق به، فينطفئ نور عقله وبصيرته، فيمنع عن نفسه الخير الكثير، ويقف ضد مصلحة دعوته ودينه ونفسه.

روى أصحاب السير أنه قد قيل لخالد بن الوليد يومًا بعد ما أسلم متأخرًا – وهو الحري بعقله وفطنته أن يسارع إلى الإسلام فور سماعه – قيل له: «أين كان عقلك يا خالد فلم تر نور النبوة بين ظهرانيكم؟ قال: كان أمامنا رجال كنا نرى أحلامهم كالجبال».

والأخطر أن هؤلاء الأشخاص هم أول مَن يقعون في الفتنة إذا افتتن من تعلَّقت به قلوبُهم وعقولُهم؛ فهم يستمدون إيمانهم بأفكارهم من أشخاصٍ يُصيبون ويُخطئون، وتجري عليهم قواعد التغير التي لا يستطيع أن يقف أمامها أحد؛ فهم لا يستمدونها من إيمانهم بالله واقتناعهم الذاتي بأفكارهم، فيظلون يدافعون عنها إذا غاب الناس، أو تراجعوا عن أفكارهم، أو فتر حماسهم، ليحملوا الشعلة من بعدهم، ويكملوا الطريق إرضاءً لله وإيمانًا بدعوتهم.

إنه نفس السبب الذي دفع عمر بن الخطاب إلى أن يعزل أشهر وأفضل قائد إسلامي في تاريخ الإسلام: خالد بن الوليد، عن قيادة الجيش وهو في أوج انتصاره، في قرارٍ تاريخي أذهل الكثيرين، بعدما خشي أن يُرجع المسلمون انتصاراتهم إلى خالد، لا إلى نصر الله القوي العزيز.

الدعوة المبادئ قبل الأشخاص

العلاج
تظل القضية ذات مسئولية مشتركة بين الداعية والمدعو، وعلى كلٍّ منهما أن يقوم بدوره في انحسار المشكلة، والحد من أثرها الخطير على الدعوة.

أولًا: دور الداعية
1- التوجيه الدائم إلى إرضاء الله، ولو كان على حساب الأشخاص. إنه درس قديم ربَّى عليه الرسول صحابته، فدفع أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن يقول للمسلمين أول ما تولى الخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم؛ فإن عصيته فلا طاعةَ لي عليكم».
2- التحلي بالإخلاص والتواضع والتجرد.
3- ربط المدعوين بالفكرة لا بنفسه مهما عَلِيَ قدره.
4- شجاعة الاعتراف بالخطأ إن أخطأ.
5- الحث على التفكير والمناقشة وإبداء الرأي، وعدم أخذ ما يقوله الآخرون كمسلَّمات يجب الاقتناع بها وتنفيذها.
6- إعطاء القدوة والمثل في احترام المخالفين، وإبراز وجهات نظرهم، وعدم تجريح الأشخاص مطلقًا، وذكر المخالفين في الرأي بالخير دائمًا، على اعتبار أنهم مجتهدون يصيبون ويخطئون، مثلما يُصيب كل البشر ويُخطئ.
7- تقبُّل النقد بصدر رَحْبٍ، والرد على أي سؤالٍ دون ضجر، أو اتهام صاحبه بالجهل أو الرغبة في الجدل.

ثانيًا: دور المدعو
1- الربانية والاتجاه دائمًا بالعقل والقلب وكل الجوارح إلى الله لا الأشخاص.
2- عدم إنزال أحد- أيًّا كان- منزلة قداسة تُنزهه عن الخطأ، وتجعل رأيه صوابًا دائمًا، لا يجوز النقاش فيه، مهما علا قدره ومقامه بين الناس.
3- إعمال الفكر دائمًا فيما يقوله الآخرون.
4- استقلال الشخصية، والفصل بين التعلم من الآخرين، وممن نحبهم ونحترمهم، وبين التبعية المطلقة لهم.

5- الرغبة في الإبداع والتجديد، بما يعني الرغبة في الإضافةِ إلى ما أنجزه الآخرون، وعدم اعتبار أن ما وصلوا إليه هو آخر الدنيا، إنما إمكانات العقل لا حدودَ لها.
وعندما يحدث ذلك تتعلَّق القلوب والعقول والوجدان بخالقها أكثر من أي بشر، وعندها لا نرى أمامنا إلا الله، حتى وإن وقف أمامنا ملايين البشر، ونظل ندافع عن مبادئ آمنَّا بها، حتى وإن تخلَّى عنها الجميع، ولو كان من بين هذا الجميع أصحابها الذين نادوا بها من قبل.
والحمد لله رب العالمين

اترك تعليقا