
توجيهات تربوية للمربي – د. محمد حامد عليوة
- zadussaerinweb@gmail.com
- يناير 13, 2020
- المربي القدوة
- 0 Comments
توجيهات تربوية للمربي – د. محمد حامد عليوة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد:
أخى المربي: أنت عماد العملية التربوية، وركن من أهم أركانها، بل أنت حجز الزاوية في بناء الدعوة، كما شبهك الإمام الرباني حسن البنا حين قال في الأسرة ونقيبها: «هي قاعدة الأساس في بناء دعوتنا، ونقيبها هو حجر الزاوية في هذا البناء».
فأنت صانع الرجال ومربي الأجيال، وبقدر وعيك بدورك ورسالتك، وتمثلك للقدوة، ومعايشتك لإخوانك، وحرصك على إخوانك ودعوتك، فإن العملية التربوية ستكون أكثر فعلًا وأعمق أثرًا، بعد توفيق الله وعونه لك.
وهذه التوجيهات نركز فيها على المربي ذاته وجهده في رعاية نفسه والارتقاء بها حتى يستطيع القيام بدوره وأداء واجباته نحو إخوانه ودعوته، وكأنها جملة توجيهات تتعلق بمحور الذات (ذات المربي).
وإليك بعض هذه النصائح والتوجيهات:
1. أخي المربي المفضال: إجعل نفسك التي بين جنبيك أول ميادين بذلك، واجتهد في تعهدها ورعايتها وتزكيتها، لأن فلاحك في تربية إخوانك يقوم أساساً على نجاحك مع نفسك، ومن توجيهات الإمام حسن البنا، فيما يتعلق بهذا الأمر: «ميدانكم الأول أنفسكم، فإذا انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنت على سواها أعجز».
ومن الغفلة المهلكة أن يظن المربى أنه قادر على تربية إخوانه والارتقاء بهم وحل مشكلاتهم وهو غير قادر على الإرتقاء بنفسه ورعايتها وتغيير حالها إلى الأحسن. ومن جميل ما ذكره الإمام البنا يتعلق بهذا المعنى قوله: «يا أخى: فاقد الشيء لا يُعطيه، والقلب المنقطع الصلة بالله كيف يسير بالخلق إليه، والتاجر الذى لا يملك رأس المال من أين يربح، والمعلم الذى لا يعرف منهاجه كيف يُدرسه لسواه، والعاجز عن قيادة نفسه كيف يقود غيره.»(1)
2. أخي الحبيب: العبادة طريق القيادة، والربانية وحسن الصلة بالله زاد يحتاج إليه كل قائد ومربي في أداء رسالته والقيام بمتطلبات وظيفته، والمربي حين يُقبل على الله بقلبه فإن من نتيجة ذلك أن يقبل إخوانه عليه ويأخذون منه ويلتفون حوله وينتفعون بما لديه. فها هو هرم بن حيان يقول: «ما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله عز وجل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم». وقد علق الإمام ابن القيم على ذلك فقال: «ويكفى في الإقبال على الله ثواباَ عاجلًا أن الله سبحانه وتعالى يُقبل بقلوب عباده إلى من أقبل عليه، كما أنه يُعرض بقلوبهم عمن أعرض عنه، فقلوب العباد بيد الله لا بأيديهم.»(2)
نعم أخي المربي إنها العبادة طريق القيادة، وإنه الصلاح أساس الإصلاح، واسمع إلى الإمام البنا وهو يوجههنا فيقول: «كونوا عبادا قبل أن تكونوا قوادًا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة». إنه الإنقياد لله تعالى الذي يُعين العبد على حُسن سياسة الناس وقيادة أمورهم.
3. أخي المربي صاحب الرسالة: تذكر دائماً أنك تسير على درب الرسل وتؤدي رسالة الأنبياء والمصلحين، وبالتالي لابد أن تستشعر عظم المهمة وقدر الرسالة التي تؤديها، إنها التربية والتزكية. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)). سورة الجمعة
وأول خطوات أداء رسالة التربية وأداء متطلباتها أن يستشعر المربي أهميتها ومكانتها في بناء الأمة، وبالمقابل خطورة التهاون فيها أو التقصير في أدائها على الوجه المطلوب.
تأمل أخي المربي قول الإمام حسن البنا في بيان مكانة التربية ومتطلباتها في بناء الأمة: «أيها الإخوان: إنكم دعاة تربية، وعماد انتصاركم إفهام هذا الشعب وإقناعه وإيقاظ شعوره من كل نواحيه على قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام ومبادئ الإسلام. وهذه غاية لا تدرك في أيام ولا تنال بأعوام قليلة، ولكنه الجهاد الدائب والعمل المتواصل، ومقارعة جيوش الجهالة والأمية والمرض والفقر والأحقاد والأضغان وخفة الأحلام وتقطيع الأرحام، وتنظيف رواسب قرون عدة سرى الفساد فيها إلى كل مكان. أفترون أو يرى الناس أن هذا أمر يسير؟».(3)
نعم أخي المربي.. ليس الأمر يسيراً، ولكن يحتاج إلى الدأب والمثابرة وبذل الجهد واستفراغ الوسع، إنها (التربية) المهمة الأولى بالرعاية والعناية على طريق الدعوة، وبالتالي لايجب التقليل من شأن التربية؛ لأن الإهتمام بها أثره كبير وإهمالها مآله خطير. يقول الأستاذ مصطفي مشهور: «لقد أثبتت الأحداث والأيام أنه بقدر الاهتمام بالتربية؛ تتحقق الأصالة للحركة، واستمراريتها ونموها، ويكون التلاحم بين الأفراد ووحدة الصف، وعكس ذلك إذا أُهمل جانب التربية أو حدث تقصير فيه؛ يظهر الضعف والخلخلة في الصف، ويبرز الخلاف والفُرقة، ويتضائل التعاون ويقل الإنتاج.»(4)
4. أخي الحبيب المفضال: هذه الدعوة لا يصلح لها إلا من أحاطها من كل الجوانب، ووهب لها ما تكلفه إياه من نفسه وماله ووقته وصحته. وبالتالي لا يليق بنا ونحن نؤدي أعظم رسالة – وهي رسالة التربية – أن نبخل على دعوتنا بشيء، وهذه شيم الدعاة الصادقين، لا يبخلون على دعوتهم، وهؤلاء الصادقين من أبناء الدعوة تحدث عنهم الإمام البنا ووصف حالهم فقال: «ألا فليعلم هؤلاء، وليُعلِموا غيرهم أن الإخوان المسلمين لا يبخلون على دعوتهم يوماً من الأيام بقوت أولادهم وعصارة دمائهم وثمن ضرورياتهم، فضلاً عن كمالياتهم والفائض من نفقاتهم، وأنهم يوم حملوا هذا العبء عرفوا جيداً أنها دعوة لا ترضى بأقل من الدم والمال، فخرجوا من ذلك كله لله، وفقهوا معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) التوبة 111، فقبلوا البيع وقدموا البضاعة عن رضاً وطيب نفس، معتقدين أن الفضل كله لله، فاستغنوا بما في أيديهم عما فى أيدى الناس.»(5)
5. أخي الحبيب المربي القدوة: أذكرك بهذه القاعدة الذهبية في تربية الناس وحسن قيادتهم: (إذا كنت إمامي؛ فكن أمامي)، إنها التربية بالقدوة العملية، إنها لغة الأفعال لا الأقوال.
فالتربية بالقدوة العملية، من أكثر أساليب التربية تأثيراً في النفس، وتهذيباً للسلوك، لأنها تحول الأفكار والنظريات إلى واقع وعمليات، فيرى الناس من المربي القدوة أفعاله قبل سماع أقواله، وبهذه الفعال الحيّة يتأثرون، وبهذه الخصال السويّة يقتدون، ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
من هنا وجب على المربين والدعاة أن يتمثلوا القدوة قولاً وعملاً، اقتداءً بالمربي الأول ﷺ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
6. أخى المربي: وانت تُربي إخوانك وأتباعك ومريديك، إجتهد دائماً أن تضبط انفعالاتك وتسيطر على مشاعرك وتراعي مشاعر إخوانك، وأن تنتصر للحق والمبدأ لا لنفسك وذاتك، فقد تكسب موقفاً لنفسك، وتخسر قلب أحد إخوانك.
فأيهما أنفع وأبقى لك ؟ موقف عابر تنتصر فيه لذاتك، أم قلب أخ تسعد به طول حياتك ؟ اللهم أعنا على أنفسنا، وهَيِّئ لنا من أمرنا مرفقا.
ورحم الله الإمام الشافعيّ – رضي الله عنه – يوم أن نصح يُونس بن عبد الأعلى، فقال له: «يا يُونس، لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات، فأحيانًا (كسب القُلوب) أولى من (كسب المواقف). يا يُونس، لا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها، فربما تحتاجها للعودة يومًا ما.»
7. احرص على التحلي بخلق التغافل وأنت تربي إخوانك، فالمربي اللبيب من تغافل لا من غفل، وهي حكمة بليغة في السلوك التربوي،مفادها: أنه يجب على الدعاة والمربين وأولياء الأمور ألا يقفوا طويلًا أمام بعض المواقف والسلوكيات التربوية البسيطة التى تصدر عن أولادهم وأتباعهم، وما عليهم إلا غض الطرف عنها وتغافلها، تغافلًا مقصودًا عن شكلها ومظهرها، لا غفلة عن آثارها ونتائجها، ولا إهمالًا لرصدها والتقويم المبكر لها.
وهذا المسلك التربوى مرغوب لسببين:
الأول: أن إغفالها مع الوعي الكامل بآثارها لن يضر شيئًا.
الثاني: أن الوقوف عندها وتفخيمها مع بساطتها، قد يبدد جهود المربي ويصرفه عما هو أولى وأهم.
وهذا المسلك التربوي لا يعني مطلقًا الغفلة عن المشكلات التربوية الصغيرة، لأن الغفلة عنها وعدم الاهتمام بها وعلاجها مبكرًا، قد يؤدي إلى استفحالها وتشعبها، وبالتالي تجذّرها، وهو ما يتطلب جهودًا مضاعَفة لعلاجها.
8. أخي المربي الكريم: من الكلم الطيب فى رعاية النفس وأثر ذلك في الدعوة والتربية: «بقدر جهدك مع نفسك؛ يكون أثرك فى غيرك».
ومن لطائف هذه الحكمة، التوازن في معناها ومبناها، فنلاحظ أربع كلمات (كمقدمة) تؤدي لأربع مثلها (كنتيجة)، بل تساوت كلمات المقدمة والنتيجة في عدد أحرفها وبنفس الترتيب.
نعم إنها النفس الأولى بالرعاية والأحق بالتزكية، ولذلك كان «العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا»، وميدان النفس هو أول ميادين الكفاح، وأول مراتب التغيير والإصلاح، ومنطلق التأثير والنجاح. ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ(11)﴾ الرعد.
ومما أورده الإمام الغزالي في الإحياء يتعلق بهذا المعني التربوي قوله: «وكما أن البدن فى الابتداء لا يُخلق كاملًا وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء، فكذلك النفس تُخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تُكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. والصبي إذا أهمل في ابتداء نشوئه خرج فى الأغلب رديء الأخلاق كذابًا حسودًا سروقًا نمامًا لحوحًا ذا فضول وضحك وكياد ومجانة، وإنما يُحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب.» (6)
9. أخي المربي: من الحقائق التربوية الدامغة؛ حقيقة تنوع نفوس الناس وطبائعهم، الأمر الذى يجب أن يقف أمامه كل مربي ومُصلح، ويعتبره ولا يتجاوزه، فيُنوع من أساليب التربية وطرائق التوجيه، فلكل شخصية مفتاحها، والأساليب التى تناسبها، ولهذا تنوعت أساليب وطرائق التربية فى نظريات التربية الحديثة، لتتوافق مع هذه الحقيقة التى نستنتجها من هديّ المربي الأول ﷺ وسيرته ومنهج تربيته لأصحابه وأتباعه.
عن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض، والأحمر، والأسود، وبين ذلك، والخبيث، والطيب، والسهل، والحزن، وبين ذلك». رواه أبو داود، والترمذي، وابن حبان في (صحيحه).
10. وأخيرًا وليس آخرًا: أخى الحبيب المربي، إن من أساليب التربية المؤثرة (التربية من موقع الجندية)، فكم من قائد أو مربٍ أفاد كثيرًا ممن يقودهم أو يربيهم. وقد رأينا كثيرًا من أساتذتنا ومن أهل الفضل علينا يمارسون معنا هذا الأسلوب الآسر للقلوب المؤثر فى النفوس. يُربيك من خلال جنديته الحاضرة وأخلاقه المؤثرة.
تدور الأيام ويجلس بين يديك مجلس الجنديّ من القائد، والمتربى من المربي، في أدب جمّ وحسن خلق. يُحسن الإستماع إليك، ولديّه من العلم والخبرة ما تفتقده أنت، لكن لا يُشعرك بذلك.
لقد قابلنا كثيرًا من هؤلاء الأكارم، الذين ربَّونا ولا زالوا يُربُونَنَا ويؤثرون فينا من موقع الجندية الحاضرة.
وقد تذكرت في ذلك قول عطاء ابن إبى رباح: «إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبل أن يُولد». الله. الله. إنها التربية من موقع الجندية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(1) من مقال للإمام حسن البنا، بعنوان (سبيل الظفر. عبادة ثم قيادة)، نُشر في جريدة (الإخوان المسلمون) بتاريخ (25 ربيع الأول 1356 هـ، الموافق 4 يونيو 1937م).
(2) المجموع القيم من كلام بن القيم
(3) من خطبة لفضيلة المرشد العام في طلاب الإخوان المسلمين من شباب الجامعة المصرية، وردت في كتابه مذكرات الدعوة والداعية، تحت عنوان (ستة يبعثون مجد الأمة).
(4) من كتاب: (القدوة على طريق الدعوة)، للأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله
(5) رسالة المؤتمر الخامس، للإمام حسن البنا، 1357 هـ – 1939م
(6) إحياء علوم الدين، الجزء 2.