
دعوة الوفاء والإباء
- zadussaerinweb@gmail.com
- يناير 16, 2020
- دعوتنا
- 0 Comments
دعوة الوفاء والإباء – بقلم: د. محمد حامد عليوة
نعيش مع رجل من رجالات الدعوة الأوفياء، وواحد من قادتها الأعزاء، الذي تميز بين إخوانه بالشموخ والإباء، وحب الدعوة والتفاني من أجلها، والوقوف أمام الباطل بقوة وجلد، إنه فضيلة المرشد الراحل الأستاذ محمد حامد أبو النصر – رحمه الله.
والمتأمل في سيرة الرجل ومواقفه، يجد نفسه أمام رجل وفيّ وأبيّ، وفيّ لبيعته ودعوته، وأبيّ لا يقبل الدنية في دينه ورسالته، ومع الوفاء والإباء، كان رحمه الله أباً حنوناً، وأخاً رحيماً بإخوانه متمثلاً قوله تعالى (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)، وقد جعل لنفسه شعاراً بين إخوانه وهو قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.) الكهف:28.
وخلال هذه الرحلة الطويلة التي تنوعت فيها مواقف الإخاء والوفاء والعطاء والإباء، نقف أمام واحد من مواقف الرجل، والتي أظهر فيها قوته أمام من ظلموه، وجسارته أمام من يساوموه، ودفاعه عن دعوته ومنهجها بكل عزة وإباء.
رفيق الدرب يتحدث
يذكر الدكتور رشاد البيومي (نائب المرشد العام)، متحدثاً عن بعض جوانب شخصية الأستاذ محمد حامد أبو النصر فيقول:
«كانت تظله مهابة أعيان الصعيد، فقد أُوتي بسطةً في الجسم؛ قامة عالية معنًى ومبنًى، ينم وجهه بنظراته الصارمة عن الاعتزاز بالنفس والترفع عن الدنايا، ورغم ذلك فقد كان رقيق الإحساس لدرجة غير مسبوقة، فإذا فتحت أبواب قلبه تحسُّ الأنس والمودة والأبوة الصادقة. وفي كل لحظةٍ تستشعر منه الولاء الصادق العريق لدعوته وجماعته. ولا غرو فهو أحد الأربعة من مكتب الإرشاد الذين وهبوا حياتهم لدين الله فلم تفتر همتهم ولم تهتز عزيمتهم، وكانوا قدوةً صادقةً صالحةً لإخوانهم في التجرد وإنكار الذات والثبات على الحق».(1)
دعوة على طريق العزة والإباء
سجل الإخوان في سجلات تاريخهم البطولي المشرف، أن فضيلة الأستاذ: محمد حامد أبو النصر المرشد الرابع لجماعة الاخوان، كان له موقف قوي وكلمة تاريخية؛ يوم أن قرر السادات الإفراج عن الإخوان في عام 1974م، بعد عشرين عاماً قضوها في غياهم السجن، صابرين محتسبين ثابتين.
بعد إنتصار أكتوبر قرر الرئيس السادات الإفراج عن الإخوان المسلمين، وبالفعل تم ترحيلهم من السجون المختلفة وتجميعهم في سجن مزرعة طرة (جنوب القاهرة)، وبعد تجمعهم بأيام اجتمع بهم اللواء فؤاد علام، وهو من القيادات الأمنية آنذاك، وقال كلمة لسجناء الإخوان قبل الإفراج عنهم، وقد حاول فؤاد علام في كلمته أن يستغل الفرصة، ويُظهر للإخوان أن للأمن دورًا في الإفراج عنهم، كما طالبهم في كلمته بالتعاون مع الحكومة، ومما قاله أيضا: «أن الاخوان تأثروا بالسجن وتحولوا من التطرف إلى الاعتدال». وهو كلام لا يتفق مع طبيعة هذه الدعوة الربانية المعتدلة، التي تميزت بالوسطية، وقامت على التربية والتزكية للفرد والبيت والمجتمع. الدعوة الأبية التي يتربى أبناؤها على الثبات والتضحية والفداء.
وقد عَقَّب الأستاذ أبو النصر في هذا الإجتماع على كلمة فؤاد علام – في حضور إدارة السجن وأمام جُموع الإخوان – قائلاً: «إن روح الاعتدال أصل في منهج الدعوة وأخلاق وتعاملات الإسلام، وليس للسجن أي تاثير في ذلك، وكان الأولي أن تقول إن إدارة السجن هي التي تحولت إلى نوع من الآدمية والإنسانية بعض الشيء، أما الاخوان فهم ثابتون على عقيدتهم وبيعتهم لخدمة الإسلام، ولا يعتبرون هذه السنين التي بلغت عشرين عاماً خسارة، بل هي ربح في ميزان حسناتهم يوم القيامة إن شاء الله. وأحب أن أصارحك بأن ما جري علينا وعلى عموم إخواننا من تعذيب وتشريد لم يغير من عقيدتنا شيئاً، ولا نزال نحفظ للمحسن إحسانه ونغفر للمسيء إساءته، والله تعالي يُعلمنا؛ (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الشورى 40.»
إنها تربية حسن البنا
إن روح العزة بالدعوة والسمو في ظلال الفكرة، والتى كان يبثها الإمام البنا في نفوس إخوانه لم تكن نوعًا من الكبر والتعالي والتفاخر والتباهي، ولكنها كانت الشعور بالكرامة في ظل الدعوة، والعزة في الإنتساب لها. فقد كان الواحد منهم رقيق الحال بسيط المقال، لكنك تشم منه روح الإباء والعزة والكرامة التي ورثها من دعوته. يقول الإمام البنا في هذا الباب: «فدعوتكم أحق أن يأتيها الناس، ولا تأتي هي أحدًا، وتستغني عن غيرها، وهي جماع كل الخير، وما عداها لا يسلم عن النقص. إذًا فاقبلوا على شأنكم ولا تساوموا على منهاجكم، واعرضوه على الناس في عزة وقوة، فمن مد لكم يده على أساسه، فأهلًا ومرحبًا في وضح الصبح وفلق الفجر وضوء النهار؛ أخ لكم يعمل معكم ويؤمن إيمانكم، وينفذ تعاليمكم، ومن أبى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه».(2)
ولذلك لا نستغرب من روح الإباء التي كان عليها الاستاذ محمد حامد أبو النصر وكثير من إخوانه، حتى وهم في قبضة الظالمين، لم يفرطوا في دعوتهم، ولم يساوموا على منهجهم.
فها هو الشهيد سيد قطب – أحد أبناء هذه الدعوة الأبيَّة – يعرض عليه الطغاة الجبارين يوم تنفيذ حكم الإعدام عليه أن يعتذر عن دعوته ويُقر بخطأ مسلكه، وإن اعتذر فسيصدر العفو عنه، فقال في شموخ وإباء: «لن أعتذر عن العمل مع الله» فقالوا له إن لم تعتذر فاطلب الرحمة من الرئيس، فقال: « لماذا أسترحم؟ إن كنت محكومًا بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكومًا بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل».
يا لها من عزة، ويالها من كرامة، ويا له من إباء، يروي لنا أحد الأحبة في قضية الإخوان مع عبد الناصر عام 1965، أن أحدهم في هده القضية وهو الأخ: (كامل عبد السلام) – رحمه الله – كان عاملًا بسيطًا في مصنع المحلة للغزل والنسيج، وبعد جولات التعذيب والتنكيل به هو وإخوانه في السجن الحربي، يأتون به إلى غرف التحقيق التى نصبت لهم في داخل السجن، ويقف الأخ كامل عبد السلام أمام المحققين حافي القدمين موثق اليدين، فيسأله المحقق وهو الضعيف الهزيل في قبضة الجلادين: ما الذين بينكم وبين جمال عبد الناصر يا كامل يا عبد السلام؟ فيرد عليه الأخ كامل عبد السلام: «نحن الإخوان المسلمون أصحاب مشروع وقضية وهو له مشروع، وإما نحن وإما هو في هذه البلد». فيزداد غيظ المجرمين من شموخ هؤلاء المستضعفين، ويزداد تنكيلهم بالصالحين بغياً وبطشاً، فما زادهم هذا البغي والبطش إلا إيمانًا وتسليمًا وتثبيتًا.
إنها تربية حسن البنا والذين معه، إنه منهج الدعوة المحمدية المجاهدة، دعوة العزة والكرامة. يقول الإمام البنا: «سنجاهد في سبيل تحقيق فكرتنا، وسنكافح لها ما حيينا، وسندعو الناس جميعا إليها، وسنبذل كل شيء في سبيلها، فنحيا بها كراما أو نموت كراما، وسيكون شعارنا الدائم، الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا».(3)
يا لهم من رجال كرام
يا لهم من رجال كرام، لا يضعفون أمام ظلم الطغاة، ولايفرطون في دعوتهم، ولا يساومون على ثوابتها ومبادئها، رجال يتخلقون بالعفو والصفح، من غير ضعف ولا ذلة ولا تملق، لا ينتقمون لأنفسهم رغم معرفتهم بمن آذوهم وعذبوهم، ولكن جعلوها لله. وكان شعارهم الدائم (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (المدثر:7)، إنها أخلاق الكبار.
رجال يذودون عن دعوتهم، ويظهرون فكرتهم، ويوضحون منهجهم، ويؤكدون في أي فرصة تتاح لهم على ثوابتهم ومبادئهم.
رحم الله رجالأً أوفياء؛ (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا)، رجالاً لم يجذعوا من أذى الظالمين وبطشهم، ولم يتلونوا بغير صبغة دعوتهم الربانية الإصلاحية الشاملة. (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138).
رحم الله فضيلة الأستاذ محمد حامد أبو النصر، وأجزل مثوبته، وجعل جهده وجهاده في ميزان حسناته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(1) من مقال (المرشد الرابع الأستاذ محمد حامد أبو النصر) للدكتور رشاد البيومي بتاريخ 4/5/2010
(2) مذكرات الدعوة والداعية، ص: 263
(3) رسالة إلى الشباب، (1940م.