أبعاد الصراع بين الحق والباطل (2)

أبعاد الصراع بين الحق والباطل (2)
بقلم: الدكتور محمد عبد الرحمن المرسي

ثامنًا: ثلاث نظرات مترابطة:
أ – أن الله يصنع لنا ولدعوته.
ب – لكن معها: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، فمع وعد الله لأم سيدنا موسى برده إليها إلا أنها قالت لأخته (قُصِيه)، ومعها أيضًا (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
جـ – (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى)، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)، جعل الله أسباب الهزيمة الحقيقية من داخل الصف، أما الضغط الخارجي مهما اشتد فهو أذىً فقط ما دام الصف ثابتًا متمسكًا بأهدافه ومبادئه.

تاسعًا: نتائج الأعمال وصحة القرار:
الله لن يحاسبنا على النتائج، وإنما سلامة القصد وصحة الخطوات. فصحة القرار تقوم على: إخلاص القصد، وعدم حجب المعلومات، والشورى. فإن أصبنا كان لنا أجر الفائزين، وإن أخطأنا كان لنا أجر المجتهدين. ولا يجوز التشكيك فيه ما دامت تحققت تلك الأركان، لكن من الناحية الموضوعية هو صواب يحتمل الخطأ، ويأتي التقييم والتعديل من نفس المسار ومن الجهة صاحبة الصلاحية وبنفس القواعد.
مثال: الخروج لأُحد، إرسال أصحاب وشهداء بئر معونة، فداء أسرى بدر.
والنصيحة واجبة والاستماع لها واجب، ولها ضوابطها وآدابها، ولا ننسى العامل الربانى في المواجهة، والنتيجة بيد الله، ودورنا هو استفراغ الجهد البشرى، فقد تقول الموازين المادية باستحالة تحقيق الأهداف أو هزيمة الباطل. وينادى البعض – عندما تصل الدعوة إلى طريق مسدود في التخطيط البشرى – أن: غيروا أهدافكم وتراجعوا. فدورنا هو الثبات وليس التراجع أو التنازل أو اليأس.

وهذه نماذج:
1- سيدنا موسى عليه السلام وبنى إسرائيل، عندما جاء الأمر باقتحام بلدة العماليق، فالموازين المادية تقول أن هذا مستحيل (قوة الجسم – العدد – السلاح )، وبالتالي لا يمكن تحقيق النصر أو تحقيق المعادلة الصفرية، ونفكر في معادلة أخرى.
هكذا كان تفكير بعض اليهود، فتراجعوا وانسحبوا، ونسوا أن هناك موازين أخرى تحكم الصراع بين الحق والباطل، ثم عندما تابوا واستعدوا للجهاد تكرر نفس الموقف مع طالوت وجيشه في مواجهة جالوت، لكن الطليعة المؤمنة أدركت تلك الموازين، فهزموا هؤلاء العماليق بإذن الله.
2- غزوة بنى النضير: كانت حسابات اليهود أنهم أقوياء ولا يمكن هزيمتهم: (وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ.) (الحصون، المؤنة، السلاح، العدد، تحالف المنافقين)،
وحسابات المسلمين كانت: (مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا)، ولم يكن هناك معادلة للحل بخلاف تلك المعادلة الصفرية، وهي صعبة جدًا، أو حتى الاتفاق على إجراء وسطى، ثم جاء قدر الله فوق كل تقدير: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).
3- الإخوان في مواجهة عبد الناصر: عندما رفض الإخوان في سجون عام 1954 تأييد عبدالناصر والانضمام لهيئة التحرير، وقرروا الثبات على دعوتهم وتحمل المحنة الشديدة الطويلة.

عاشرًا: لسنا مثل أي حزب سياسى، وبالتالي أي خطوة أو إجراء ننظر أولًا تأثيرها على المشروع الإسلامي، في حروب الردة ومانعى الزكاة أصرَّ الصديق رضي الله عنه على حربهم رغم أن كل الحسابات ترى تأجيل ذلك، وقال الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ” أينقص الدين وأنا حى “، في حين كان رأى سيدنا عمر رضي الله عنه تقديرًا للحسابات غير ذلك.
عند اتخاذ قرار حيوي أو كبير، ننظر مدى تأثيره على أهداف الدعوة وعلى المشروع الإسلامي – هل يؤثر سلبيًا أم إيجابيًا؟ -. إلخ، وبالتالي ننحاز لأهداف وثوابت المشروع الإسلامي مهما كان الأمر. وإذا اشتدت الأمور، أو توقفت الوسائل لتحقيق الأهداف، نثبت ونكل الأمر لله، مهما كانت التضحيات.

حادى عشر: إذا اختلطت الخيارات واحتار الإنسان في تحديد الموقف بوضوح، نرد الأمر للثوابت والأصول في الدعوة، فهى أساس التقدير والاختيار:
أ – الأنصار في غزوة بدر – وهم الأغلبية – كانت بيعتهم حماية الدعوة والرسول في المدينة وليس خارجها، وهم غير مستعدين للقتال، ولا يمكن للمهاجرين في بدر أن يحاربوا إذا انسحب الأنصار ويواجهوا جيشًا يفوقهم عددًا.
لكن لأن مصلحة الدعوة هي الأساس، وقد وضح فيها أن الانسحاب أمام الباطل هزيمة للدعوة وله الأثر السلبى عليها، فردوا الأمر إلى هذا الأصل وقدر الله هذه المواجهة لتكون نصرًا للإسلام.
ب – وفي غزوة الأحزاب كان أمام قادة الأنصار خيار أن يدفعوا لقبيلة غطفان ثلث ثمار المدينة لينسحبوا من حلفهم مع قريش، وبالتالي تضعف الجبهة المعادية وتنسحب على أغلب الظن، وكان هذا في مواجهة خيار آخر هو الصمود والثبات، رغم أنه لا طاقة لهم بهذه القوات المعادية إذا اقتحمت الخندق أو دخلت المدينة، فرفض الأنصار الخيار الأول لأن فيه إذلال لدولة الإسلام، وتحريك طمع الآخرين فيها، رغم أن الخيار الآخر ليس معه خطة واضحة في كيفية هزيمة الأحزاب.
جـ – الدعوات لا تتراجع عن أصولها وتموت في سبيل المحافظة عليها ولا تترخص في ذلك.
فموقف الإخوان من معارضة اتفاقية الجلاء 1954 والمطالبة بالحريات كان يمكن أن تسكت حتى لا تتعرض للإيذاء، لكن كان توجيه الأستاذ الهضيبى لهم أن هذا شأن أصحاب الدعوات، تموت في سبيل دعوتها والثبات عليها.

ثانى عشر: النصر بالكيفية وفي التوقيت. هو من عند الله وليس من عند أنفسنا:
” وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ “، فهو يدبر كل شيء بحكمته وعلينا: الثبات، التجرد، حسن التوكل وتعلق القلب بالله، التضحية مهما كانت، اليقين في تأييد الله ونصره.
ففي غزوة الأحزاب، هل كان أحد يتخيل أن يتم النصر بالريح والرعب؟. وهل كان أحد يتخيل النصر في معركة بدر؟
وهل كان طالوت ومن معه يتخيلون كيف ستنتهى المعركة مع جالوت وجيشه الضخم؟ .
وهل كان أحد يتصور المسار والنتيجة في غزوة تبوك؟ وهم قد ذهبوا لحرب طاحنة مع الروم.

ثالث عشر: جرت سنة الله أن يكون هلاك الظالمين من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون، بل أهلكهم الله من حيث يظنون النجاة، كما حدث مع قوم شعيب (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وهزيمة بنى النضير (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) بعد أن حسبوا كل شيء، فأخرجهم الله من غير أن يكلف المسلمين صدامًا مسلحًا أو قتالًا ضاريًا.
أشد أوقات المحنة هي التي تسبق النصر (مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ)، (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، وكان دعاء النبى يوم بدر (اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض). وقد تكون النهاية في غاية القرب وظواهر الأمور على عكسها تمامًا، كهلاك فرعون وجنوده.

رابع عشر: وقت الشدة والمحنة واضطراب الأمور تكون النجاة في الالتفاف حول القيادة ووحدة الصف، وهذا الأمر وعدم مراعاته كان سببًا في الفتنة وإراقة الدماء في خروج سيدنا معاوية رضي الله عنه على سيدنا على رضي الله عنه. (والأخوة بعد الاعتصام بالله هي سلاحنا الأساسى، فاحرصوا عليها ولا يشغلنكم عنها المشاغل الزائلة ولا الأوهام القاتلة) الإمام البنا.

خامس عشر: يوضح الإمام حسن البنا موضوع الجهاد ومشروعية القتال في الإسلام حتى لا يقع الفهم بين الإفراط أو التفريط، فيقول عن ذلك في رسالة (أصول الإسلام كنظام اجتماعى )(الإسلام شريعة السلام ودين المرحمة ما في ذلك شك، لا يخالف هذا إلا جاهل بأحكامه أو حاقد على نظامه أو مكابر لا يقتنع بدليل ولا يسلم ببرهان … القاعدة الأساسية التي وضعها الإسلام للحياة هي ولا شك الطمأنينة والسلام والاستقرار، ولكن الإسلام مع هذا دين يواجه الواقع ولا يفر منه … وحين تكون الحرب لردع المعتدي وكف الظالم ونصرة الحق والانتصاف للمظلوم تكون فضيلة من الفضائل … وحين تكون تحيزا وفسادا في الأرض واعتداء على الضعفاء تكون رذيلة اجتماعية وتنتج السوء والشر والفساد في الناس … وفي الوقت الذي يقرر الإسلام فيه هذا الواقع يحرم الحرب ويسمو بها ولا يدعو إليها أو يشجع عليها إلا لهذه الأغراض الأساسية السامية العالية الحقة:
1- رد العدوان والدفاع عن النفس والأهل والمال والوطن والدين …
2- تأمين حرية الدين والاعتقاد للمؤمنين الذين يحاول الكافرون أن يفتنوهم عن دينهم.
3- حماية الدعوة حتى تبلغ إلى الناس جميعا ويتحدد موقفهم منها تحديدا واضحًا … فلا بد أن تزول من طريقها كل عقبة تمنع من إبلاغها ولا بد أن يعرف موقف كل فرد وكل أمة بعد هذا البلاغ، وعلى ضوء هذا التحديد تكون معاملة الإسلام وأهله للناس:
فالمؤمنون إخوانهم، والمعاهدون لهم عهدهم، وأهل الذمة يوفى لهم بذمتهم، والأعداء المحاربون ومن تخشى خيانتهم ينبذ إليهم فإن عدلوا عن خصومتهم فبها وإلا حوربوا جزاء اعتدائهم حتى لا يكونوا عقبة في طريق دعوة الحق أو مصدر تهديد وخيانة لأهلها لا إكراها لهم على قبول الدعوة ولا محاولة لكسب إيمانهم بالقوة .
4- تأديب ناكثي العهد من المعاهدين أو الفئة الباغية على جماعة المؤمنين التي تتمرد على أمر الله وتأبى حكم العدل والإصلاح.
5- إغاثة المظلومين من المؤمنين أينما كانوا والانتصار لهم من الظالمين … فكل ما سوى هذه الأغراض الإنسانية الإصلاحية الحقة من المقاصد المادية أو النفعية فإن الإسلام لا يجيز الحرب من أجلها بحال من الأحوال.) – رسالة: (أصول الإسلام كنظام اجتماعى) للإمام البنا، باختصار.

كما تكلم الإمام البنا عن أن الجهاد له شروطه وآليات للإعداد له، وليس أن يندفع فرد أو مجموعات من الأفراد يرفعون السلاح ويسمون هذا جهادًا، وأشار رحمه الله أن هذا هو من (الجهاد الخاطىء).

سادس عشر: إن استفراغ الوسع والقدرة البشرية في إعداد الفرد أو الجندى لمعركة المواجهة، هو تكليف ربانى، ولا يجب التقصير فيه وإن كان سقف الإمكانيات المتاحة محدودًا، إنما الجانب الأهم الذي يجب أن يركز عليه المربى، كما قال اللواء صلاح شادى: (هو تلقين الجندى ممارسة الحاجة إلى الله وهو في خضم الأحداث، ولا يتأتى ذلك فقط بقراءة الأوراد أو الأذكار. وإنما يتأتى ذلك بممارسة الشعور بذكر الله وحضوره معه – والحاجة إليه – وهو محوط بالمخاطر مشدود إلى الأهوال. أما الاستعاضة عن ذلك بتلقين الجندى وصفًا رائعًا لصموده أو لذكائه وعبقريته أو لبراعة حركته، فأمر لا ينفعه).

ويذكر أيضًا ما حدث للإخوان في محنة 1954، 1965 (فصمد لها من استأهل ستر الله، وأحسَّ بضعفه فسارع بالركون إلى الله وليس إلى نفسه وقدرته، وطلب العون منه سبحانه وتعالى، وهو قد حذرنا (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)). [كتاب حصاد العمر لـ أ. صلاح شادى ص 92: 93، باختصار]
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل
والله أكبر ولله الحمد

اترك تعليقا