الرؤية الواضحة لمعالم الطريق– بقلم: الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله
أهم وأوجب الدروس في أول الطريق (الرؤية الواضحة لمعالم الطريق) لتكون قافلة النور على نور وبينة من الأمر، فلا تختلف بهم السبل، (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، الأنعام:153. فيكونون جميعًا على وحدة في الفهم ووحدة في التصور والهدف، ووحدة في منهاج العمل ووسائله، وذلك لسد كل منافذ الخلاف في أثناء السير بقدر المستطاع، ولو بحثنا لوجدنا أن الخلاف يحدث عادة حول أمور ثلاثة رئيسية:
أولها:(فهم الإسلام): حيث يحدث تباين في الفهم وخطأ وانحرافات، وأحيانًا شطحات فكرية، ويتجمع أصحاب كل فكرة ويكونون فرقًا وجماعات تتحرك وتعمل من منطلق فهمها، وبهذا تختلف طرق السير وتتشتت الجهود وربما تضادت، لذلك صار من ألزم الأمور الاجتماع على الفهم السليم الشامل للاسلام النقي من كل دخل، البعيد عن كل خطأ أو إنحراف؛ كما جاء به رسول الله ﷺ، وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
وقد انتبه الإمام البنا لأهمية هذا الأمر، فنجده في رسالة التعاليم يجعل الفهم الركن الأول من أركان البيعة، ويضع له أصولًا عشرين غاية في الدقة والتركيز، بمثابة إطار يحمى هذا الفهم من أي شائبة أو نقص أو خطأ، ويحرص أن يخرج بمن يلتزمها من دائرة الخلافات الفرعية التي مزقت وحدة المسلمين في الماضي.
وبما يجدر الانتباه إليه في قضية الفهم أن الخلاف في الفروع أمر لا مفر منه، ولكن المهم ألا يكون هذا الخلاف حائلًا دون تعاون العاملين في حقل الدعوة، لذلك نجد الإمام البنا يوصى بأن نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذُر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، ولم نجده ألزم أفراد الجماعة برأي واحد في الأمر الذي فيه أكثر من رأي، ولكل رأي دليله، وإلا تحولنا إلى فرقة أو طائفة صاحبة رأي بذاته. وجماعة الاخوان تهدف إلى جمع المسلمين تحت لواء واحد هو لواء رسول الله ﷺ.
ولما كانت الدعوات تقوم على العزائم وأولى العزم ولا تقوم على الرخص والمترخصين، فإننا نتواصى في مثل هذه الأمور أن نأخذ أنفسنا بالرأي الأرجح والأقوى ونحاسب على الأدنى، ولا نختلف فيما بين ذلك.
الأمر الثاني الذي يحدث عادة حوله اختلاف هو (تصور العمل الاسلامي)، فنرى تباينًا في فهم المطلوب من المسلم من واجبات وأعمال، ونجد البعض يحصر نفسه في مجالات محدودة، وأهداف جزئية أو محلية ويغفل متطلبات كبيرة، ومهام عظيمة، وهكذا تتوزع الجهود والطاقات في اتجاهات مختلفة، والواجب أن يكون تصور العمل الاسلامي كاملًا وشاملًا لكل متطلبات الإسلام، فيشمل العبادات والطاعات والأخلاق والعلم والذكر والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفعل الخيرات والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال وكل ما يتطلبه منا الإسلام نحو أبداننا وأموالنا وأهلينا والناس أجمعين، ثم هناك واجب من أوجب الواجبات تُمليى علينا طبيعة المرحلة التي تمر بها الدعوة الاسلامية؛ ألا وهو إقامة الدولة الاسلامية وإعادة الخلافة الاسلامية.
هذا واجب على كل مسلم ومسلمة لا يُعفى منه أحد، وبدون قيام الدولة الاسلامية سيظل المسلمون وأرض الإسلام عُرضة للغزو والاقتطاع بيد أعداء الله حيث يفتنوهم عن دينهم. إذ لا بدَّ للحق من قوة تحميه، والجهاد فريضة ماضية (كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) الرعد:17.
لا يجوز للعاملين في حقل الدعوة أن يحصروا أنفسهم في جوانب دون غيرها، ولكن علينا أن نلتقى على تصور شامل كامل للعمل، ويساعدنا على ذلك التقاؤنا على على الفهم الصحيح الشامل للإسلام، ودراستنا للسيرة العطرة حيث التطبيق الكامل للإسلام، خاصة أنها شملت خطوات بناء الدولة الاسلامية ىالأولى. ونحن اليوم بصدد بناء دولة اسلامية جديدة بعد أن سقطت الخلافة.
بعد الالتقاء على الفهم السليم للإسلام والتصور الصحيح الكامل للعمل، ننتقل إلى الأمر الثالث الذي يحدث حوله خلاف وهو (الطريق لتحقيق الأهداف والواجبات) خاصة واجب إقامة الدولة الاسلامية. وخير طريق لحسم الخلاف حول هذا الأمر هو أن نتبع ولا نبتدع، وذلك بأن نتبع طريق رسول الله ﷺ وصحابته في تطبيقهم العملي للاسلام وفي إقامة الدولة الاسلامية الأولى.
فقد بدأ ﷺ بإرساء العقيدة في النفوس، وربى المسلمين الأُول على مائدة القرآن وفي مدرسته صلى الله عليه وسلم، وتخرج على يديه رجال عقيدة، استحوذت عليهم عقيدة الإسلام وملكت عليهم مشاعرهم وأحاسيسهم حتى صارت هي كل شيء في حياتهم. فتحملوا في سبيلها كل أذى ولم يتخلو عنها، وعندما دعو للجهاد ضحوا بالنفس والمال. ثم آخى بينهم ﷺ، وكان يُؤثر بعضهم بعضًا ولو كان به خصاصة.
واستمر الرسول والمسلمون في نشر الدعوة رغم الايذاء لتكثير هذه النوعية وربطها وتنظيمها، والأخذ بأسباب إعداد القوة وتهيئة النفوس للجهاد والدفاع عن دعوة الحق، إذ لا بدَّ للحق من قوة تحميه من كيد الأعداء. وهكذا استمرت هذه المرحلة حتى تكونت القاعدة المؤمنة الصُلبة والتى قام عليها كيان الدولة الاسلامية في المدينة.
هذا هو الطريق وأي مخالفة أو تحول عنه يُعرض الجماعة والعمل الاسلامي إلى مخاطر لا يعلمها إلا الله. فلا يصح الإقلال من شأن التربية وإرساء العقيدة في النفوس لتخريج النوعية التي تُخلص وتتحمل وتُضحى وتُجاهد وتثبت وتلتزم الصف، كما لا نقلل من شأن التنظيم والحب والترابط والأخوة في الله، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) الصف:4
كما لا يصح أن نغفل الإعداد بقوة الساعد والسلاح (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) الأنفال:60 لهذا نرى الامام البنا يؤكد على هذه المعاني ويوضح أن القوة تتمثل أولا في قوة العقيدة ثم قوة الوحدة ثم في قوة الساعد والسلاح حينما لا يُجدى غيرها، ولا بدّ من هذا الترتيب لأن مخالفة هذا الترتيب يمكن أن يُعرض إلى أخطار جسيمة.
ومن الرؤية الواضحة لطريق الدعوة أن يكون معلومًا لسالكه من أول خطوة أنه محفوف بالمكاره، وأنه كله جهاد (الجهاد سبيلنا)، وأنه طريق الضحية، ويُريد منا كلنا لا بعضنا، وأنه أيضًا طريق السعادة والفوز في الدنيا والآخرة، وألا طريق للنجاة غيره.
ومن الرؤية الواضحة أن يعلم سالك الطريق أن الله غني عنه وعن جهاده وأنه هو الفقير إلى الله، وأن قافلة النور ستسير بإذن الله غير متأثرة بتخلف من يتخلف ولا تعويق من يعوق، والسعيد من فاز بوضع قدمه مع المسيرة المباركة، وثبت في صفوف المجاهدين لينال إحدى الحسنيين. وهكذا نرى أن الرؤية الواضحة لمعالم الطريق من أهم الدروس التي ننبه إليها والتى تحمى الفرد من التفلت أو التقاعد أو الخطأ، وتحمى الصف من الخلل والضعف.
فليحرص شبابنا المسلم الصادق في إيمانه وفي رغبته في العمل الجاد للاسلام أن تتحقق فيه هذه المعانى التي أوضحناها في هذا الدرس، ليكون دعامة قوية ثابتة في صف العاملين على الطريق. كما على القادة والمسئولين ألا يعتمدوا في صفوف العالمين إلا أمثال تلك العناصر السليمة المتفقة تمامًا مع فهم الجماعة للاسلام وتصورها للعمل ومنهج عملها. ومن خالف شيئًا من ذلك في أثناء السر قُدمت له النصيحة ليُصحح مساره، فإن أصر على المخالفة حدد موقفه ويُفاصل حتى لا يُحدث بلبلة أو اعوجاجًا في الصف. فالجماعة لا تُفرط في أحد أفرادها، ولكن إذا صار هذا الفرد مصدر عنت وتصديع للصف فالجماعة فوق الأفراد.
——————— المصدر: مقال: (الرؤية الواضحة لمعالم الطريق) أ. مصطفى مشهور، نُشر بمجلة الدعوة، العدد (53)، ذو القعدة 1400هـ، سبتمبر 1980م.
zadussaerin
الرؤية الواضحة لمعالم الطريق – بقلم: الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله