فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ

(فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) بقلم: الدكتور محمد بديع – حفظه الله

رفع الله من شأن المؤمنين وكرَّمهم فجعل للمؤمن أن يعقد العقودَ مع الله ويبايعه وجعل وفاءه بهذه البيعة مقياسَ إيمانه، ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه، ويكشف الله لنا فحوى هذه البيعة فيقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَأيَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة).

إنها حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله- قد استخلص الله لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء. لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقيةً لا ينفقونها في سبيله. لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا. كلا. إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير.

مَن أمضى عقد الصفقة ومَن ارتضى الثمن ووفَّى فهو المؤمن. فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا، مع أن الله هو واهب الأنفس والأموال!

لقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين على عهد رسول الله ﷺ فتتحوَّل من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقعٍ في حياتهم؛ ولم تكن مجرَّد معانٍ يتملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم. كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها؛ لتحويلها إلى حركةٍ منظورة، لا إلى صورةٍ متأملةٍ.

هكذا أدركها عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في بيعة العقبة الثانية. قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله (يعني ليلة العقبة): اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل». هكذا، (ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل).

لقد أخذوها صفقةً ماضيةً نافذةً بين متبايعين؛ انتهى أمرها، وأمضى عقدها، ولم يعد إلى مردٍ من سبيل: (لا نقيل ولا نستقيل)، لقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول الله هذه البيعة لا يرتقبون من ورائها شيئًا إلا الجنة، ويوثقون هذا العهد ولا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله ﷺ لا رجعةَ فيها ولا خيارَ؛ فالجنة ثمن مقبوض لا موعود. ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92)﴾ (التوبة).

صورة أخرى مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد، والألم الصادق للحرمان من نعمةِ أدائه، إنها واقعة البكائين السبعة من الأنصار، لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة، فآلمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعًا؛ لأنهم لم يجدوا ما ينفقون، فقالوا يا رسول الله احملنا، فقال لهم: «والله لا أجد ما أحملكم عليه»، فتولوا وهم يبكون، وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدوا نفقةً ولا محملًا. فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه. بمثل هذه الروح انتصر الإسلام، وبمثل هذه الروح عزَّت كلمته، فلننظر أين نحن من هؤلاء، وإلا فلنسدد ولنقارب. ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَأيَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

ما الذي فاتهم؟ ما الذي فات المؤمن الذي يُسلِّم لله نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ والله ما فاته شيء. فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت، سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل الله أم في سبيل سواه! والجنة كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك.

صفقة رابحة فالله هو المشتري، والمؤمن هو البائع، وبضاعة المؤمن نفسه وماله، والطريق الجهاد، ونهاية الطريق النصر أو الاستشهاد، والثمن الجنة، فهو بيع يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوزٌ لا ريب فيه.

هي بيعة في عنق كلِّ مؤمن لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه، إنها بيعة تتقاصر دونها الهمم الهابطة والعزائم الضعيفة، إنها الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة، إنها نفوس تجهد لطول الطريق وتتجنب أداء الثمن الغالي، فالثمن القليل لا يشتري سوى التافه الرخيص، ويتولى القرآن كشفهم ويحذرنا من خطورةِ دربهم وعاقبة فعلهم. ﴿لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88)﴾

هؤلاء طراز فريد نهضوا بتكاليف الدعوة، وأدوا واجب الإيمان وعملوا للعزة، فلهم في الدنيا الكرامة والفلاح ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية، وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى ولهم الرضوان.

لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة، وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما تمثلت الدعوة في تجمع حركي يعقد صفقة وبيعة مع الله، بيعة لا يصلح لها إلا كل مَن نذر نفسه لله، وتهيَّأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت والأكاذيب والافتراءات في أبشعِ صورها.

إن رؤية هذه الحقيقة – على هذا النحو – كفيلة بأن ترينا تدبير الله الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرَّضت لها الدعوة في مكة- في أول الأمر- وحكمته سبحانه وتعالى في تسليط الطواغيت على الجماعة المسلمة يؤذونها، ويفتنونها عن دينها، ويفعلون بها الأفاعيل. ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَأيِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)﴾ (الفتح).

 بذلك تكوَّنت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عودًا في المجتمع العربي، وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة، ومعهم الأنصار ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدنية. وشيئًا فشيئًا تميَّزت مجموعات من المؤمنين على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها. فتميَّز أهل بدر، وتميَّز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية، ثم تميَّز بصفةٍ عامةٍ الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا.

وبعد عامين اثنين من الفتح عندما قبض رسول الله ﷺ فارتدت الجزيرة العربية كلها، ولم يثبت إلا مجتمع المدينة – القاعدة الصلبة الخالصة – ارتجَّت الجزيرة، وثبتت القاعدة الصلبة، واستطاعت هذه القاعدة بصلابتها وخلوصها وتناسقها وبوفائها لبيعتها أن تقف في وجه التيار، وأن ترده عن مجراه الجارف، وأن تُحوِّله إلى الإسلام مرة أخرى.

إن هذه الحقيقة – كما أنها ترينا تدبير الله الحكيم – هي كذلك تكشف لنا عن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية في أي زمان وفي أي مكان، إنه المنهج القويم الذي بدونه لا تصلب الأعواد وبه تتحقق الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار وتحمُّل الأذى والتنكيل مع انعدام النصير الأرضي، بهذا وحده تتكون القاعدة الصلبة الأصيلة الثابتة الحارسة للدين من كل الهزات.

فيجب توجيه الجهد لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الوفية لبيعتها، شعارها (لا نقيل ولا نستقيل)، يُعرِّضها الله للمحنة الطويلة، حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا وتهيَّأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة. ثم ينقل خطاهم بعد ذلك بيده – سبحانه – والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾ (البقرة). والحمد لله رب العالمين

———————————————————————

اترك تعليقا