الحياة في ظلال القرآن (*) بقلم: الأستاذ سيد قطب – رحمه الله
الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه. والحمد لله. لقد منَّ على بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
لقد عشت أسمع الله – سبحانه – يتحدث إلى بهذا القرآن. أنا العبد القليل الصغير. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم تفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟
وعشت – في ظلال القرآن – أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال. وأعجب. ما بال هذا الناس؟ ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟
وعشت أتملى – في ظلال القرآن – ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود.لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب. وأسأل. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟
وعشت – في ظلال القرآن – أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما بريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله. ثم أنظر. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟ يا حسرة على العباد!
وعشت – في ظلال القرآن – أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود.أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه. إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وإنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها. والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول. والموت ليس نهاية الرحلة وإنما هو مرحلة في الطريق. وما يناله الإنسان من شيء في هذه الأرض ليس نصيبه كله إنما هو قسط من ذلك النصيب. وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك، فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع.
على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود، كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَأوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ). (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَأوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ). أي راحة، وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح؟
وعشت – في ظلال القرآن – أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد.إنه إنسان بنفخة من روح الله: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ). وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). ومسخر له كل ما في الأرض: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَأوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا). ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة. جعلها آصرة العقيدة في الله. فعقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج!.
والمؤمن ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذاك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد.عليهم الصلاة والسلام. (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).
هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه – كما يتجلى في ظلال القرآن – مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَأمِي وَخَافَ وَعِيدِ).
موقف واحد، وتجربة واحدة، وتهديد واحد، ويقين واحد، ووعد واحد للموكب الكريم. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف، وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد.
الحياة في ظلال القرآن: وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء، ولا للفلتة العارضة: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ). (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا). وكل أمر لحكمة. ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا). (وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها.
ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ الآثار والنتائج كما تنشئ الأسباب والمقدمات سواء: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا). (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ). والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها، والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها. والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين، والنجوة من الهواجس والوساوس: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
ومن ثم عشت – في ظلال القرآن – هادئ النفس، مطمئن السريرة، قرير الضمير. عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر. عشت في كنف الله وفي رعايته. عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها. (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ). (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ). (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه). (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ). (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ). (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا). (اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ). (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ). (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
إن الوجود ليس متروكاً لقوانين آلية صماء عمياء. فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة، والمشيئة المطلقة. والله يخلق ما يشاء ويختار. كذلك تعلمت أن يد الله تعمل. ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة؛ وأنه ليس لنا أن نستعجلها؛ ولا أن نقترح على الله شيئا. فالمنهج الإلهي – كما يبدو في ظلال القرآن – موضوع ليعمل في كل بيئة، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة. وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته، وقوته وضعفه، وحالاته المتغيرة التي تعتريه.
إن ظنه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته، سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة. كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه. ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم!. الإنسان هو هذا الكائن بعينه. بفطرته وميوله واستعداداته. يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب تكوينه ووظيفته، ويحترم ذاته وفطرته ومقوماته، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى الله.
ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل – الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن – ومن ثم لم يكن معتسفا ولا عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج. إن المدى أمامه ممتد فسيح، لا يحده عمر فرد، ولا تستحثه رغبة فان، يخشى أن يعجله الموت عن تحقيق غايته البعيدة؛ كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن! وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر، وتسيل الدماء، وتتحطم القيم، وتضطرب الأمور. ثم يتحطمون هم في النهاية.
وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المعتسفة! فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة، يدفعها من هنا، ويردعها من هناك، ويقومها حين تميل، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها. إنه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة. والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف. فالزمن ممتد، والغاية واضحة، والطريق إلى الهدف الكبير طويل، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة، وتتطاول فروعها وتتشابك. كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هينة وفي طمأنينة.
ثم يكون دائما ما يريده الله أن يكون، والزرعة قد تسقى عليها الرمال، وقد يأكل بعضها الدود، وقد يحرقها الظمأ. وقد يغرقها الري. ولكن الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل؛ فلا يعتسفولا يقلق، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة، السمحة الودود.إنه المنهج الإلهي في الوجود كله. (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا).
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود.ليس فلتة عابرة، ولا مصادفة غبر مقصودة. إن الله سبحانه هو الحق. ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ). (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ) والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَأوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ). ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر، ولا بدّ للباطل أن يزهق. ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).