نستكمل وقفاتنا في رحاب فقه الدعوة، مع الشارح الأول لمبادئ الدعوة الأستاذ مصطفي مشهور -رحمه الله-، وكتاباته القيمة في فقه الدعوة.
يذكر فضيلة الأستاذ في كتابه القيّم (القدوة على طريق الدعوة): «لقد أثبتت الأحداث والأيام أنه بقدر الاهتمام بالتربية تتحقق الأصالة للحركة، واستمراريتها ونموها، ويكون التلاحم بين الأفراد ووحدة الصف، وعكس ذلك إذا أهمل جانب التربية أو حدث فيه تقصير، يظهر الضعف والخلخلة في الصف، ويبرز الخلاف والفُرقة ويتضائل التعاون ويقل الإنتاج».(1)
الإرشادات والفوائد الدعوية والتربوية: 1- إن أهم ما توصف به دعوة الإخوان المسلمين أنها دعوة التربية والتكوين. أو إن شئت قل أنها: «مدرسة التربية والتكوين على منهج الإسلام الشامل العظيم»، يقول الإمام حسن البنا: «أيها الإخوان: إنكم دعاة تربية، وعماد إنتصاركم إفهام هذا الشعب وإقناعه، وإيقاظ شعوره من كل نواحيه، على قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام ومبادئ الإسلام، وهذه غاية لا تُدرك في أيام أو تُنال بأعوام قليلة، ولكنه الجهاد الدائب والعمل المتواصل، ومقارعة جيوش الجهالة والأمية والمرض والفرق والأحقاد والأضغان وخفة الأحلام وتقطيع الأرحام، وتنظيف رواسب قرون عدة سرى فيها الفساد إلى كل مكان. أفترون أو يرى الناس أنّ هذا أمر يسير؟».
ويقول الإمام البنا في موضع آخر: «تميَّزت دعوة الإخوان بخصائص خالفَت فيها كثيرًا من الدعوات التي عاصرتها، ومن هذه الخصائص العناية بالتكوين والتدرج في الخطوات». وحينما كان يُسأل المربي الفاضل أ. محمد العدوى -رحمه الله-، عن توصيفه وتعريفه باختصار لجماعة الإخوان المسلمين، كانت إجابته: أنها (جماعة تربوية).
2- أن التربية عند الإخوان معلم من معالمها، وثابت من ثوابتها، لأن منهجها في الإصلاح والتغيير، يرتكز على بناء الفرد، وتكوين البيت، وتربية المجتمع وإرشاده بنشر دعوة الخير فيه، إلى غير ذلك من مراتب العمل ومحاور البناء والحركة، حتى يتحقق التمكين وتسعد الإنسانية تحت ظلال أستاذية الإسلام الوارفة بإذن الله تعالى. وبالتالي تتأكد المقولة الرائعة التي يرددها الإخوان: (التربية والتكوين طريقنا للتمكين).
3- أن التمكين لدين الله في الأرض -وهي الغاية الأسمى- تحتاج إلى رجالٍ يؤمنون بتعاليم الإسلام الصحيح، ويعملون على تحقِّقه واقعًا في أنفسهم وعملًا في حياة الناس، وهذا هو الجيل الذي تكلم الإمام البنا عن ضرورة تربية وتكوينه على مبادئ الإسلام فقال -رحمه الله- «إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيلٍ جديدٍ من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الكاملة في كل مظاهرها ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138)». ولا يمكن الوصول لهذا الجيل إلا بالتربية.
4- أن من مبادئ المنهجية التربوية عند الإخوان، ضرورة تعهد الأفراد بالتربية والمجاهدة حتى يشتد العود ويكمل الاستعداد، ومن مبادئها أيضا، أن بناء الرجال هو أهم ما ينبغي أن يُعنَى به المصلحون. من هنا حرص الإخوان على أن تكون التربية هي ديدنهم، وزاد يقينهم في أن أي دعوة أو فكرة لا تقوم على أساس تربوي تكويني -في إطار من الدعاية والتعريف والتبشير بها- إنما هي سراب خادع، الأمر الذي جعل الإمام البنا يعلنها صريحة مدوية، فقال «إن معركتنا معركة تربوية» ليؤكد على هذه الحقيقة.
5- أن الفرد المسلم الصحيح هو منطلق التغيير وأساس الإصلاح، وعليه تنعقد الآمال، وكما قال الإمام البنا: «إذا وُجد المسلم الصحيح وجدت معه وسائل النجاح جميعًا»، ولا يمكن الوصول إليه إلا بالتربية والرعاية والتعهد، الأمر الذي جعل دعوة الإخوان تنتهج النهج التربوي الشامل لإيجاد هذا الفرد الصحيح في تكوينه وبناءه، ولذلك حدد له الإمام البنا صفات عشر، لا بدَّ أن يتحقق بها ويتربى عليها.
6- أن التربية عند الإخوان المسلمين هي الطريق الوحيد لبناء الرجال الأوفياء الأتقياء الصادقين المجاهدين، والإخوان المسلمون يعلمون أن التربية طريق شاق طويل كثير العقبات، ولا يصبر على تكاليفه إلا الصادقون، لكنه الوحيد الموصل للأهداف المقصودة والغايات المنشودة، وعليه فقد أيقن الإخوان أن التربية هي طريق الوصول، فلا بديل عنه، ولا مساومة عليه، ولا خديعة بغيره.
7- أن طريق الدعوة ليس مفروشًا بالورود والرياحين، ولكنه شاق به وعورة، تكثر عليها العقبات، وتحيط به المكاره والمنعطفات، ولا يُعين على ذلك إلا الإيمان العميق والتكوين الدقيق، الأمر الذي جعل الإخوان ينهجون النهج التربوي، ولولا فضل الله عليهم، ثم هذه التربية لما استطاعوا الصمود أمام هده الصنوف من الشدائد والمحن التي تعرضوا لها، ولما استطاعوا الوقوف في وجه اليهود وأعداء الدين قديماً وحديثاً.
8- أن ضعف التربية يعنى ضعف الجماعة وذلك ناتج عن ضعف تكوين أفرادها الذين هم لبنات البناء، وأن أي خلل في البناء التربوي، ينتج عنه انحرافات، وتصدعات في العمل، وتضييع للأوقات والجهود، ومزيد من الابتعاد عن بلوغ المقاصد والأهداف. والذى حفظ هذه الجماعة من التشطر والانحراف وجعلها عصية على الاحتواء أو التصفية -بعد فضل الله وبركته ورعايته لها- قوة التأسيس والتوريث والتربية ومنهجية إعداد وبناء الرجال.
9- أن الجماعة القوية ترتكز على ثلاث مقومات: (مقوم البناء النفسي – مقوم البناء التنظيمي – مقوم البناء الحركي)، وكلها مقومات تتصل وتتقاطع بشكل مباشر مع عملية التربية والتكوين والبناء داخل الجماعة، وبقدر الإهتمام بالتربية داخل الجماعة، تكون قوة هذه المقومات، وبوجودها ترتكز الجماعة على مقومات نجاحها وتماسكها واستمرارها في العطاء بإذن الله، ومقوم البناء النفسي والتربوي هو الأساس والمنطلق الذي يزود البناء التنظيمي والحركي بما يضمن لهم التماسك والاستقرار والفعل والتأثير.
10- أن اتساع ساحة الأعمال التنفيذية، والانتشار الأفقي الواسع للدعوة في شرائح المجتمع مع ضعف في برامج التكوين الفردي والبناء النفسي، قد يظهر الضعف أو القصور التربوى في بعض الأفراد أو بعض المسؤولين مما لم يكن ظاهراً قبل ذلك.
وبالتالي فإن هذا الأمر يقتضي المعالجة السريعة حتى لا يزداد الضعف، ويحتاج أيضاُ إلى المراجعة المستمرة لحال الأفراد والمتصدرين للعمل التنفيذي والعمل العام، مع التركيز التربوي والإعداد والتكوين.
وقد أشار الإمام حسن البنا إلى ذلك، عندما بدت بعض مظاهر الضعف التربوي والخلل التكويني لدى بعض الأفراد والمسؤولين، نتيجة التوسع في الأعمال المجتمعية والسياسية والتنفيذية على حساب البناء والتربية، فقال -رحمه الله-: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بالدعوة إلى سابق عهدها، مزيد من التربية والتكوين وعهد المأثورات».
وهو ما يؤكد على مكانة التربية في ضبط إيقاع الحركة، وترشيد جهودها وأوقاتها. والحمد لله رب العالمين