الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الحكيم (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المجاهدين، محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد
لقد قدم الدعاة والمصلحون -ولا زالوا يقدمون- نماذج طيبة وأمثلة حيّة من الثبات على المبادئ والصبر في الشدائد، وذلك رغم كثرة الخطوب ووحشة الدروب، وكثرة المحن وتعدد صور الأذى والفتن، فما لانت لهم قناة وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، وما توقفوا عن مسيرة الدعوة أو تخلفوا عن ركب الإصلاح، وما زادتهم هذه الصعاب إلا إيماناً وتسليماً وتثبيتاً.
وبعد توفيق الله لهم، وتثبيته إياهم على طريق الحق، كان للتكوين الدقيق والتربية العميقة لهذا الصف الإخواني أثراً كبيراً في ثباتهم، ولا سيما التكوين الإيماني والعبادي الذي هو سبباً مباشراً لهذا الثبات.
وقد تكلم الإمام البنا في رسالة التعاليم عن (ركن الثبات)،أحد أركان هذه الدعوة، فقال -رحمه الله-: «وأريد بالثبات: أن يظل الأخ عاملًا مجاهدًا في سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين، فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية،﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾الأحزاب:23، والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات، ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة.»(1)
والإمام البنا بهذا التوجيه الواضح للإخوان المسلمين، يريد منهم أن يعاهدوا الله على العمل وبذل الجهد، وعلى الاستمرار في الحركة والسعي الدؤب؛ من أجل التمكين لدين الله في الأرض، مهما طالت المدة وبعدت الشقة، وتتابعت المشاق والعقبات، وتنوعت الفتن والمنزلقات.
فقد كانت الرؤية لمعالم الطريق واضحة من أول يوم، لم لا وهي ذات الطريق التي سار عليها رسول الله ﷺ والذين أمنوا معه، فطريق الدعوة ليس طريقاً مفروشاً بالورود والرياحين، ولكنه طريق شاق سار عليه أنبياء الله جميعاً ومن تبعهم بإحسان، فيه من العقبات والمنعطفات ما فيه، وعلى جانبيه من الصوارف والجواذب والمزالق والفتن الكثير.
وقد استشرف الإمام البنا -من واقع فهمه العميق لسنن الله في الدعوات-، العقبات التي ستواجه الدعوة وأصحابها، وقد تحول بينهم وبين الثبات والاستمرار على طريقها، فكتب في رسالة (بين الأمس واليوم)، معدداً مظاهر هذه العقبات: 1) سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم. 2) وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله. 3) وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان. 4) وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء. 5) وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم. 6) وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم. 7) وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان. 8) وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات. 9) وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم ومعتدين بأموالهم ونفوذهم، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) الصف:8
10) وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) العنكبوت:2.
والمتأمل فيما يجرى للدعوة والدعاة الآن -ولا سيما في مصر الكنانة-، يلاحظ أمرين إثنين: أولاً: إن مظاهر العقبات والمحنة التي ذكرها الإمام البنا، متحققة في واقع الدعوة الآن. ثانياً: حالة الثبات والصمود البطولي للإخوان المسلمين أمام هذه المحن والفتن المتنوعة.
ونخرج من هذه الحالة الواقعية إلى بشرى عاجلة وقريبة إن شاء الله، وهي تأييد الله ونصره لعباده الصابرين المحتسبين كما وعد سبحانه (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).
هذا وعد الله، ووعد الله حق، وقوله الصدق سبحانه، وهذه سنة الله في الدعوات وأهلها، أن يُمتحنوا ويُفتنوا، وعليهم أن يصبروا ويثبتوا، ولا يحيدوا عن منهجهم الرباني، ومبدأهم القرآني، عندها سيتنزل أمر الله بهلاك الظالمين المجرمين، ونصره وتأييده لعباده الصالحين الصابرين المحتسبين، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحج:40.
اثبتوا.. فإن النصر مع الصبر فاثبتوا أيها الأحبة، واصبروا على هذا المصاب، فلو شاء ربكم ما فعلوه، ولكنها حكمة الله البالغة التي لا يعلمها إلا هو، وسنته الواقعة في عباده وأوليائه.
كتب الإمام البنا يوماً في جريدة الإخوان ما نصه: «إن بين الهزيمة والنصر صبر ساعة، لن تتقدم فيها آجال أراد الله أن تتأخر، ولن تتأخر أعمار أراد الله لها أن تنقضي(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)آل عمران:154، وإنما موقف الكرامة، ومعالم البطولة والشهامة يمتحن الله بها عباده الصادقين،(وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)آل عمران:154.»(3)
وبثباتكم على الحق والمبدأ، وصبركم على فتن ومصاعب الطريق، سيأتي النصر والفرج القريب، وما ذلك على الله بعزيز، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). الروم 4-6
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
—————– (1) رسالة التعاليم (2) رسالة بين الأمس واليوم (3) مقال للإمام حسن البنا، منشور بجريدة الإخوان المسلمين، بتاريخ 9 رمضان 1367هـ – الموافق 16 يوليو 1948م