كيف ربَّى حسن البنا إخوانه على الحب؟ (2)

كيف ربَّى حسن البنا إخوانه على الحب؟ (2) إعداد: عادل المحلاوي

ثانيًا: من وحي اللقاء، مشاعر ومواقف
* سعادة لا يعدلها شيء
أيها الإخوة الفضلاء: تحيةً من عند الله مباركةً طيبةً، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والله إنها لسعادة لا يعدلها في الدنيا شيء، هذه التي نحسُّها ونشعر بها كلما التقينا في هذا المجتمع الذي يحفه رضا الله تعالى، وتحضره الملائكة.

* وتيار حب متبادل
أيها الإخوة الفضلاء: إن هناك تيارًا متبادلًا من الحب العميق والمودة الصادقة بين هذه القلوب التي جمعها الله تعالى لتحرير الأوطان الإسلامية، وإقامة حكم الله تعالى في الأرض. و. ، هذا الشعور ما زال يتدفَّق، والاجتماع في هذه الليلة ما زال ينمو ويزيد.وفي الحق إننا عاجزون عن أن نوفِّر لهذه العاطفة ما يقول بشكرها، وهكذا تتدفَّق العواطف في سبيل الغاية العُليا التي نعمل لها، والآداب السامية التي نقصد إليها.

* وحنين وترقُّب واشتياق
أيها الإخوة الفضلاء: في مثل هذه الليلة، وبالأمس القريب ونحن كذلك إذ شعرنا بالحنين إلى ليلة الثلاثاء، ولا أدري لماذا نستعجلها؟
إن معنى هذا هو الرابطة الروحية، والتوفيق الأخوي، والصلة بين القلب والقلب، وهذه المعاني مما يحرص عليها الإسلام كلَّ الحرص، ولهذه كان الإيمان هو الحب والبغض، فإذا أحببت لله، وأبغضت لله، كان ذلك دليلًا على إيمانك بالله، وأنه هو الذي يتصرَّف في مشاعرك وتخضع لأوامره، وقد أحاط بكل شأنك، ولهذا حصر رسول الله الإيمان في الحب والبغض كما قال: «لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا»، «وهل الدين إلا الحب والبغض؟» (المستدرك على الصحيحين للنيسابوري).

وصدقوني أيها الإخوان. إن هذه الليلة تتراءى أمام عين القلب، فتحنُّ لها الأفئدة وتتطلَّع إليها الأرواح، إني أترقَّبها وأسرُّ بها، وأحسُّ بقربها، لأنها ستجتمع فيها القلوب التي آمنت بالحق وتعاونت على كلمة الحلق، وأبَت إلا أن تتفقَّه في دينها حقيقةً. إن روح الإسلام الحق ورابطته التي لا تنفصل، والتي لا يشعر فيها المسلم بالفرقة هي روح قربة مهما تباعدت الديار.

ويقولون: إن مألوف الإنسان جزء لا يتجزَّأ من حياته، ومن فارق هذا المألوف فقد فارق الحياة نفسها، وهذه الليلة أيها الإخوة كأنها جزء من حياتنا، أنِسْنَا بها وأنِسَت بنا، نترقَّب فيها هذا الجمع الحاشد، وتلك الوجوه النيِّرة، والوجوه التي تلاقت في الله وعلى طاعة الله، وإذا مضت تلك الليلة فلم نلتقِ فيها فإنه يطول بنا الشوق والحنين إليها، ونسأل الله تبارك وتعالى الحبَّ فيه والاجتماعَ عليه وأن يجعله سببًا نافعًا في الدنيا والآخرة.

* وزاد وشحنات للقلوب
ويقول بعض الإخوان إني آخذ معظم الجلسة في التطلع إلى وجوه الإخوان، وأشعر بحالة غريبة كأنها (دينامو) متصل ببطارية يصل إلىَّ منها شحنةٌ روحيةٌ، فأفكر وأحسّ بأن هذا التيار يتردَّد كلما نظرت إلى الإخوان، ثم ينصب علىَّ انصبابًا.

هذا الشعور الغريب بتلك الرابطة الروحية الإسلامية هو صدى لدعوة الحق وللمبادئ العليا التي جاء بها القرآن الكريم، والتي لن يقوم صلاح الإخوان إلا عليها، بل السماء والأرض لن تقوم إلا على الحق ﴿وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾. ولا يمكن جمع الحق والهوى، فإذا تحكم الحق خضع الهوى والعكس بالعكس

وقد جعل الله تبارك وتعالى رسوله على الحق ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾(النمل: 79)، ولا حقَّ إلا ما عليه رسول الله وأصحابه، وهذا الحق لا يمشي على رجليه، ولكن جعل الله له أنصارًا يجاهدون في سبيله ويقومون بالشهادة عليه.
يقول الأخ: هذه الخواطر كلما شعرت بها شعرت بلذة غريبة وعجيبة في بابها وأثرها.

* وخطاب يتكلم حبًّا
في صباح الثلاثاء الماضي جاءني خطاب من أحد الإخوان، وجاءني بالبريد المستعجل، ففتحت الخطاب، فإذا هو مجرد تحية وسلام لا أقل ولا أكثر، استغربْت، لِمَ أرسله بالبريد المستعجل؟ وما الذي دفعه لهذا؟
قيَّدتُّ الخطاب وقلت لعلّي أجد ما يذهب غرابتي، وإذا بحاشية يقول فيها: إنما أرسلت الخطاب بالبريد المستعجل لعله يصل قبل يوم الثلاثاء، فتبلغ إخواني تحيتي وسلامي؛ إذ إني لم أستطع أن أشاركم بجسمي فأشاركهم بخطابي.
هذه حقيقة الحب، فانظروا كيف طفا الحب على الأوضاع بهذه العاطفة التي جعلها الله تعالى منشأ هذا الاجتماع الكريم، فعلى الأخ الكريم السلام ورحمة الله وبركاته، ونسأله تعالى أن ينفعنا بهذا الحب يوم لا ظلَّ إلا ظله.

* وتكفينا النظرات الحانية
أيها الإخوان الأجلاَّء: إني قد سمعت من أحد الإخوان كلمةً عابرةً، وكثيرًا ما وجدتُّ لها هذا الأثر الحلو في نفسي، ذلك أننا كنا في كتيبة، ومن نظام الكتيبة أن يكون فيها حديثٌ حول الفكرة والدعوة، ولكنه في هذه الكتيبة كان حديثًا مختصرًا، ونظر أحد الإخوان إلى أخيه، وقال له: لِمَ لَمْ نتكلم الليلة كثيرًا؟ ، فقال: إنا لا نأتي للكلام، ولكن يكفينا أن ينظر بعضنا إلى بعض وأن يتلاقى بعضنا مع بعض.

صدقوني أيها الإخوان إن هذه الكلمة أثَّرت في نفسي تأثيرًا عميقًا، فإن الأخ كان يقولها من عصارة قلبه، ومن أعماق نفسه، بهذا الشعور جاء هذا الأخ ليسعد، ولينعم بهذه القلوب المؤمنة التي اجتمعت على أقدس المبادئ وأنبل الغايات، طمأنني هذا الشعور، وعلمت أن الله تعالى قد أنعم علينا بالرباط الروحي الذي لا تعادله أية قوة في الوجود.

اطمأننت كثيرًا لأن فيه قوة الإيمان وقوة الحب وقد جمعهما الله لنا، ومتى اجتمع لجماعة الإيمان بالفكر والحب الوثيق في مؤازرتها فقد جُمع لها كل شيء، وأصارحكم أني قد استرحت لهذا الرباط المتين وأيقنت أننا نجتمع لله، وأكثر منه للدرس، وما دام الأمر كذلك فلست في حاجة إلى إعداد الدرس في حديث الثلاثاء، وارتحت لهذا المعنى وشعرت بهذا التغيير، وسألت نفسي: ما مصدر هذا الحب؟ ولماذا يحب بعضنا بعضًا حتى يرى أن النظر إلى أخيه كسْبٌ وطمأنينةٌ؟

هل مصدره التأثير بجاه أو التطلع إلى مال أو أمل من آمال الدنيا؟
اللهم لا شيء من هذا أبدًا، فإن الإخوان في عزة أنفسهم وقوة أرواحهم أغنياء عن كل هذا وإنما مصدره الحب في الله، ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (الأنفال: 63).

فهي نعمة لا تُنال بمجهود ولا تُشترى بمال؛ لأن القلوب التي تحابَّت وتعاهدت وتضافرت إلى نصرة الحق، فغايتها أسمى الغايات والمهمة التي جمعت قلوب الإخوان هي مهمة الرسول ، الذي أرسله الله تعالى: ﴿شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)﴾ (الأحزاب)،
فإن هم صدقوا في دعوتهم وآمنوا ولم يخرجوا عنها كانوا دعاة إصلاح ومصابيح هداية على قدم رسول الله ، وعلى طريقة السلف الصالح، الذين باعوا لله أنفسهم وأبدانهم، وإن أهدى طريق للإصلاح ما جاء عن كتاب الله تعالى.

* وقلب منشغل بإخوانه
وسألني أحد الإخوان: هل يستطيع الأخ أن يفيد أخاه وينفعه ويمده بسبب مادي أو روحي؟ فقلت له: أوضِح، فقال: يدعو له ويهتم بأمره بينه وبين نفسه أو يشتغل به، وهل في اشتغال المؤمن بأخيه وتوجهه إليه والشعور بالصلة التي تربطه به ما يفيده؟ وهل في النصوص الإسلامية أو الوقائع ما يدل على هذا أو يؤيده؟

في الواقع أيها الإخوان لقد سُرِرت لهذا الأمر من وجهين:
الأول: أنه فائدة علمية.
والثاني: أن النبي قال «العلم خزائن مفاتيحها السؤال».
ويثاب في السؤال ثلاثة: السائل، والمسئول، والمستمع، فهو يفتح بابًا من أبواب الخير.
ولكنَّ سروري كان أبلغ وأعظم لأني استشرفت من وراء هذا معنى عاطفيًّا، وهو أن هذا الأخ كان مشغولًا بإخوانه، وأنه يودُّ أن يشتغل بهم، وما خطر له ذلك وما دفعه إليه إلا شعور باطني عظيم؛ لأنه إما مشغول به على أنه ينفعه، فهو يريد أن يفيد أخاه، وإما أنه في حاجة إلى معونة إخوانه، فلعله يتلمَّس منهم هذه المعونة، ففي هذه الحركة النفسية اشتغال قلب بقلب، ونفس بنفس، وذلك كله من صميم الإسلام، وإني أصدقكم أن كل مشاغلي لم تُنسِني التلذُّذَ بهذا السؤال، وقد أحسستُ بأن القلوب يشتغل بعضها ببعض.
أما الجواب على هذا السؤال فمن حيث النصوص ما قاله فيها رسول الله : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا».

* وإخاء عالمي يتخطى الحواجز
أيها الإخوان: كنت اليوم مع موظف كبير عادَ مؤخرًا من رحلة خارج القُطر، ومرَّ خلالها ببلاد كثيرة، ودار الحديث حول هذه الرحلة، وتوقَّف طويلًا عند هذا المعنى الذي يُقسم بالله أنه لم يتأثر في حياته مثل ما أثّر في نفسه.

مشهد شاب التقى به في أحد البلدان، فلم يكَد هذا الشاب يعلم بأنه أمام أخ له مسلم إلا وقد فاضت عيناه بالحب، وامتلأ حديثه بالعاطفة على غير معرفة سابقة على غير لقاء سابق، لا شيء يجمع هذا اللقاء إلا أننا مسلمون، فكانت هذه المقابلة – كما يقول الأخ المسلم – تيارًا من الكهرباء سرَى إلى نفسه؛ لأنه رأى إخوانًا له مسلمين، ويرتبطون به رابطة روحية، فعلم أنه ليس هناك أقوى ولا أمنع من هذه الرابطة التي أوجدها الإسلام، متى خلعت القلوب واستشفت نعمة الله عليها. ﴿وَإذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾.

———————————
انتهى (الجزء الثاني)، ويتبعه (الجزء الثالث والأخير) إن شاء الله تعالى.

اترك تعليقا