كيف ربَّى حسن البنا إخوانه على الحب؟(3) – إعداد: عادل المحلاوي
ثالثًا: مناخ الحب والتلاق * مساواة وزوال فوارق أرضية أيها الإخوة الفضلاء: إن في سعة العاطفة متسعًا للجميع، زارني بعض الإخوة، فقال كنت في المؤتمر العام للإخوان المسلمين فلاحظتُ أمورًا عجيبةً، فمن ذلك أنني وجدت (باشمُفتِّش) مصلحة جالسًا على حصيرة، وآخر ناظر مدرسة جالسًا في ركن من أركان الدار، وهكذا من أمثال ذلك كثير يستمعون في إصغاءٍ وانتباهٍ، من غير ضجر ولا ملل، بينما غيرهم يجلسون على الكراسي المذهبة في صدر المكان، ثم لا يجدون في أنفسهم غضاضةً، مطمئنين لما هم فيه من متعة روحية، أربع ساعات طوال في وسط الشارع وفي الطرقات وفي فناء الدار
وقلت لهذا الأخ: إن كثيرًا من إخواننا الفضلاء لو استطعنا لحملناهم على أكتافنا، ولكنهم يأبون إلا أن يضعوا أنفسهم هذا الوضع دون أن يشعروا بغضاضة، ومن هنا نعلم أن الأزمة في النفوس، وليست الأزمة أزمة دراهم ولا نقود، ولا عرَض من أعراض الحياة، وإنما هي أزمة تعاطف وتراحم وتواد، ولذا يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
*في التزاحم تلاصق أجساد وارتباط أرواح
كنا نتمنى أن تكون المحاضرة في مكان أبرح وحيز وأفسح، ولكن هو حكم الظروف والجو فمعذرة، واحتسبوها ساعة في الله، يتحمل فيها الواقفون مشقة هذا الوقوف، ابتغاء مثوبة الله ورضاءه، ويتحمل فيها الجالسون مشقة هذا الزحام، ابتغاء مثوبة الله كذلك، وإن كنا في الحقيقة في هذه الليلة تغمرنا العاطفة الحبيبة القلبية اللذيذة، التي تُنسينا الشعور بالتعب المؤاخذة فيه، فلا يشعر الواقف بمشقة الوقوف، ولا الجالس أثر هذا الزحام، وهو الذي يجعلنا نعتقد أن مشكلة الدنيا ليست مشكلة فلوس ولا غذاء، وإنما مشكلة نفوس، وحب وسخاء، وبغضاء. فالناس فقراء في التعارف والتحاب والتوادّ.
ولكن في الحقيقة أيها الإخوة إن في هذا التزاحم بركة، وفي هذا التقارب الحسي تقاربًا معنويًّا، فإنا نستمد اتحادنا – بعد الله ومعونته – من تضامِّ هذه القلوب واجتماعها على البر والتقوى وتعاونها على طاعة الله تبارك وتعالى، فمن هذه العاطفة عاطفة الحب في الله والتقارب في مرضاته ومن هذه العاطفة نجد الأنس وراحة البال وهدأة الضمير. أيها الإخوة: إن في ديننا الحنيف إشاراتٍ لطيفةً إلى هذا المعنى، انظر إلى رسول الله ﷺ وهو يصلي بأصحابه، وهم من خلفه صفوف، يقول لهم: «صفوا المناكب ولينوا بأيدي إخوانكم».
وهذا هو الرباط الحسي، يُعنَى به رسول الله ﷺ؛ لغرض أسمى وأعلى، وهو ارتباط القلب بالقلب، والروح بالروح، فكان ﷺ يجسِّم لهم هذه المعاني الروحية في إشارته الحسية: «سدُّوا الفرج، سووا الصفوف، لا تختلفوا فتختلف قلوبكم».
ففي قوله هذا ﷺ أبلغ الإشارة إلى أن القلوب إذا تباعدت وتفرَّقت يجد الشيطان فيها حظَّه. ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
أيها الإخوة: إن في هذا التزاحم شيئًا من التضامن، وتقارب القلوب، واتحاد الكلمة، فإذا ضاق بكم المكان ففي القلوب فسحة، فلنكن على قلب رجل واحد، وعلى مبدأ واحد، وغاية واحدة.
*ولا يمنع التلاقي مطر وتقلب طقس أيها الإخوة: إن هذه الليلة التي تجمعنا على مجالس الخير وعلى مدارسة الخير، وعلى مرضاة الله، ومع هذه العوائق التي تعوق الناس عن مصالحهم الخاصة، وأبت تلك القلوب المتحابة إلا أن تتغلب عليها، وإلا أن تجتمع كما تجتمع كل أسبوع، فهو اجتماع المتحابين فيه لنكون من الذين قال فيهم رسول الله ﷺ: «إذا كان يوم القيامة نادي منادٍ من قبل الله تبارك وتعالى: أين المتحابون فيَّ؟ أين المتزاورون فيَّ؟ أين المتجالسون فيَّ؟ اليوم أظلهم بجلالي يوم لا ظل إلا ظلي».
*وهرولة من الداعية المحب عند تأخر
معذرةً أن أتخلف عن ساعة هي أحب الساعات إلينا، فليس أحب إلينا، ولا أشوق لأرواحنا من تلك الساعات الكريمة التي نلتقي فيها، فأعتذر إليكم شكلًا عن تأخري هذا الوقت، وموضوعًا أعتذر لنفسي، فقد حرمتها جمال الأنس برؤيتكم هذا الوقت.
أيها الإخوان: تأبى عاطفة الثلاثاء إلى أن تبرز حقَّها، وتدلل على وجودها، وإذا لم نعرف للنفس حقَّها، فمن ذا الذي يعرفه لها؟ لهذا دعوني أيضًا أسترسل مع عاطفة الثلاثاء في تصوير بعض حق هذا الإخاء، سائلًا الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما نقول وما نسمع، وأن يوثِّق بين قلوبنا هذه الرابطة، التي هي قوة المستضعفين، وعدة الآملين العاملين، وأسأل الله تعالى أن يجمع بين قلوبنا على مرضاته، وأن يمتِّعَنا بمتعة الحب فيه وأن ينفعنا بذلك في الدنيا والآخرة.
*وما كان لله دام واتصل
حقيقةً ما جمعه الحق لا يفرِّقه الناس، إننا يوم أن قُمْنا قمنا لله ومن الله وإلى الله، ويوم أن عملنا عملنا لله وإلى الله، ويوم أن قامت دعوتنا لله ومن الله وإلى الله كذلك، وإن دعوةً يرعاها الله سبعة عشر عامًا كاملةً تتخطَّى فيها العقبات، وتجتاز فيها المصاعب والمتاعب والزلل، لا بد أن يكون لله تعالى فيها إرادة.
هذه الدعوة قامت ولا زالت تقوم على أكتاف موحدة، وقلوب مؤمنة، وجهود مجموعة، وأشخاص مجهولة، لا يكاد يعرفها أحد، وليست مجموعة رياء ولا سمعة ينصرها ويؤيدها، ويقيم دعائمها بتوفيق الله. الصانع والزارع والطالب والفقير والغنى والأتقياء، والأحباء الأقوياء بصلتهم بالله، وستظل قائمة عليهم إن شاء الله تعالى.
الواقع أننا مطمئنون على مستقبلها ونمائها ما دامت تحبوها هذه العاطفة العاطرة الشريفة في مثل هذه الليلة من كل أسبوع تتجلى فيها الوحدة وتتقوى فيها الرابطة وتتوحد فيها الجهود والحمد الله على هذا التوفيق. والحمد لله رب العالمين
———————————-
انتهى بحمد الله (الجزء الثالث) والأخير، من سلسلة (كيف ربَّى حسن البنا إخوانه على الحب؟).