قال تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. (الصف:1) يذكر الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في ظلال هذه السورة: «تجيء هذه التسبيحة من الوجود كله لله العزيز الحكيم، في مطلع السورة التي تعلن للمسلمين أن دينهم هو الحلقة الأخيرة في دين الله، وأنهم هم الأمناء على هذا الدين الذي يوحد الله، وينكر على الكافرين المشركين كفرهم وشركهم، والذي يدعوهم للجهاد لنصرته، وقد قدر الله أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
فيوحي هذا المطلع أن الأمانة التي يقوم عليها المسلمون هي أمانة الوجود كله، وأن العقيدة التي يطلب إليهم الجهاد فيها هي عقيدة كل ما في السماوات وما في الأرض، وإن ظهور هذا الدين على الدين كله، هو ظاهرة كونية تتسق مع اتجاه الكون كله إلى الله العزيز الحكيم.»
ويقف الأستاذ سيد قطب وقفات مع أيات سورة الصف، فيقول -رحمه الله-:
* نقف أولاً أمام النفس البشرية التي تلم بها لحظات الضعف الطارئة، فلا يعصمها منها إلا عون الله، وإلا التذكير الدائم، والتوجيه الدائم، والتربية الدائمة.. فهؤلاء جماعة من المسلمين قيل في بعض الروايات: إنهم من المهاجرين الذين كانوا يتمنون أن يأذن الله لهم في القتال وهم في مكة من شدة الحماس والاندفاع. وكانوا يؤمرون بكف أيديهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فلما كتب عليهم القتال في المدينة في الوقت المناسب الذي قدره الله إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا: (رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ). أو هم جماعة من المسلمين في المدينة كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله ليفعلوه فلما أمروا بالجهاد كرهوه!
وهذه الوقفة كفيلة بأن تفتح أعيننا على ضرورة الموالاة للنفس البشرية بالتقوية والتثبيت والتوجيه; وهي تواجه التكاليف الشاقة، لتستقيم في طريقها، وتتغلب على لحظات ضعفها، وتتطلع دائما إلى الأفق البعيد. كما تلهمنا أن نتواضع في طلب التكاليف وتمنيها ونحن في حالة العافية! فلعلنا لا نقوى على ما نقترح على الله حين يكلفنا إياه! وهؤلاء جماعة من المسلمين الأوائل يضعفون ويقولون ما لا يفعلون; حتى يعاتبهم الله هذا العتاب الشديد، وينكر عليهم هذا الإنكار المخيف!
* ونقف ثانية أمام حب الله للذين ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾. نقف أمام هذا الإغراء القوي العميق على القتال في سبيل الله .. وأول ما يسجل هنا أنه كان لمواجهة حالة تقاعس وتخلف وكراهية للقتال. ولكن هذا السبب الغريب في الحادث المحدود لا ينفي أن الحض عام، وأن وراءه حكمة دائمة.
إن الإسلام لا يتشهى القتال، ولا يريده حبا فيه. ولكنه يفرضه لأن الواقع يحتمه، ولأن الهدف الذي وراءه كبير. فالإسلام يواجه البشرية بالمنهج الإلهي في صورته الأخيرة المستقرة. وهذا المنهج – ولو أنه يلبي الفطرة المستقيمة – إلا أنه يكلف النفوس جهدا لتسمو إلى مستواه، ولتستقر على هذا المستوى الرفيع. وهناك قوى كثيرة في هذه الأرض لا تحب لهذا المنهج أن يستقر، لأنه يسلبها كثيرا من الامتيازات، التي تستند إلى قيم باطلة زائفة، يحاربها هذا المنهج ويقضي عليها حين يستقر في حياة البشر. وهذه القوى تستغل ضعف النفوس عن البقاء في المستوى الإيماني وتكاليفه، كما تستغل جهل العقول، وموروثات الأجيال، لتعارض هذا المنهج وتقف في طريقه.
والشر عارم. والباطل متبجح. والشيطان لئيم! ومن ثم يتعين على حملة الإيمان وحراس المنهج أن يكونوا أقوياء ليغلبوا عملاء الشر وأعوان الشيطان. أقوياء في أخلاقهم، وأقوياء في قتال خصومهم على السواء. ويتعين عليهم أن يقاتلوا عند ما يصبح القتال هو الأداة الوحيدة لضمان حرية الدعوة للمنهج الجديد، وحرية الاعتقاد به، وحرية العمل وفق نظامه المرسوم.
وهم يقاتلون في سبيل الله.. لا في سبيل ذواتهم أو عصبيتهم من أي لون .. عصبية الجنس وعصبية الأرض وعصبية العشيرة وعصبية البيت.. في سبيل الله وحده، لتكون كلمة الله هي العليا. والرسول ﷺ يقول: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
وكلمة الله هي التعبير عن إرادته. وإرادته الظاهرة لنا – نحن البشر – هي التي تتفق مع الناموس الذي يسير عليه الكون كله. الكون الذي يسبح بحمد ربه. ومنهج الله في صورته الأخيرة التي جاء بها الإسلام هو الذي يتناسق مع ذلك الناموس; ويجعل الكون كله – والناس من ضمنه – يحكمون بشريعة الله. لا بشريعة يضعها سواه.
ولم يكن بد أن يقاومه أفراد، وأن تقاومه طبقات، وأن تقاومه دول. ولم يكن بد كذلك أن يمضي الإسلام في وجه هذه المقاومة; ولم يكن بد أن يكتب الجهاد على المسلمين لنصرة هذا المنهج، وتحقيق كلمة الله في الأرض. ولهذا أحب الله – سبحانه – الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص. .
* ونقف ثالثاً أمام الحالة التي يحب الله للمجاهدين أن يقاتلوا وهم عليها: ﴿صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾. فهو تكليف فردي في ذاته، ولكنه فردي في صورة جماعية. في جماعة ذات نظام. ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية، ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة، فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا. صفا سويا منتظما، وصفا متينا راسخا، ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة، وأن ينشئ مجتمعا متماسكا متناسقا.
فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة.
وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع: ﴿صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾. بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء.
إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام. التعبير المصور لطبيعة الجماعة، ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة. ارتباط الشعور، وارتباط الحركة، داخل النظام المرسوم، المتجه إلى هدف مرسوم.
—————— (*) المصدر: فى ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب، تفسير سورة الصف.