قارورة الدواء من وحي السماء – بقلم: الدكتور محمد حامد عليوة
نستكمل الحديث حول نظرات في تراث الإمام البنا – رحمه الله -، ونقف اليوم مع جزء من أحد توجيهاته التى كتبها في سبتمبر 1948م، أي قبل استشهاده بنحو خمسة أشهر. يقول رحمه الله: «أيها الإخوة الفضلاء الأعزة: إن العالم الآن تتجاذبه شيوعية روسيا من جانب، وديمقراطية أمريكا من جانب آخر، وهو بينهما مذبذب حائر لن يصل عن طريق أحدهما إلى ما يُريد من استقرار وسلام، وفي أيديكم أنتم قارورة الدواء من وحي السماء، فمن الواجب علينا أن نعلن هذه الحقيقة في وضوح، وأن ندعو إلى منهاجنا الإسلامي في قوة، ولن يضيرنا أن ليس لنا دولة ولا صولة؛ فإن قوة الدعوات في ذاتها، ثم في قلوب المؤمنين بها، ثم في حاجة العالم لها، ثم في تأييد الله لها متى شاء الله أن تكون مظهر إرادته وأثر قدرته ورحمته، ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، ونمكن لهم في الأرض (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَأمَأنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَأنُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ سورة القصص. وهذا هو واجبكم الأول فاعلموه، واثبتوا عليه، وجاهدوا في سبيله، ولكم النصر إن شاء الله».(1)
إرشادات وفوائد دعوية وتربوية من هذا التوجيه: 1- يؤكد الإمام البنا على عظمة رسالة الإسلام، وأن فيها العلاج الناجع لما تعانيه البشرية من أمراض وأسقام، وفيها الهداية والرشاد لهذه الإنسانية الحائرة، لما لا وهي رسالة السماء التي نزلت على محمد ﷺ؛ نزلت من لدن حكيم خبير بعباده يعلم ما بين أيدهم وما خلفهم، ويعلم ما فيه صلاحهم ونفعهم.
والمطلوب من أهل الدعوة والإصلاح أن يوقنوا بهذه الحقيقة الواضحة، وينطلقوا بهذا اليقين معلنين هذه الحقيقة بوضوح. نعم نحن المسلمون حملة أعظم رسالة ولا فخر، وأتباع خير رسل الله ولا فخر، وبين أيدينا أعظم منهاج لهداية البشرية الحائرة ولا فخر. (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). 33 فصلت.
فمن يحملون هذا الخير وينالون هذا الشرف لا يليق بهم التأخر أو الانزواء أو التردد أو الضعف، ولكن ندعو إلى منهجنا الإسلامي بعزة وقوة – كما قال الإمام البنا -، قوة نستمدها من القوي الذي أنزل هذا المنهج لصلاح العالمين، قوة من ربانية هذا المنهج الذي فيه الرحمة والرشاد للناس أجمعين.
2- إن حملة منهج الحق مبادرون إيجابيون، تحركهم دعوتهم، ويدفعهم للحركة ما في أيديهم من خير، يطرقون الأبواب ويغشون المجالس ويقرعون الآذان ويصدعون بالحق في كل ميدان، لما لا وفي أيدبهم مشاعل الهدى والرشاد للحياري والغافلين، لما لا وأهل الباطل لا يتورعون أو يخجلون وهم يدعون إلى باطلهم، بل يتحركون به في تحد وإصرار، وثبات واستمرار، وبذل وصبر من أجل باطلهم، وقد وضح القرآن ذلك وهو يتحدث عن عناد صناديد قريش وإصرارهم على باطلهم: (وَأنْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ أمْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) سورة ص: 6، وقوله سبحانه في موضع آخر: (إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا) الفرقان: 42. وبالتالى الأولى بأهل الحق أن يبادروا بالفعل والحركة، ويصبروا ويثبتوا، ويبذلوا الغالي والثمين من جهد ووقت ومال من أجل دعوة الحق.
3- أن قوة الدعوات ترتكز على أربعة دعائم: أ –الدعوة ذاتها: من حيث منهحها وقيمها ومبادئها ومقاصدها ووسائلها. ب –قلوب المؤمنبن بها: من حيث ارتباطهم بها، ويقينهم في منهجها، وثباتهم على طريقها، وثقتهم في نصر الله لها، وايمانهم بأنها دعوة الحق، وأن البذل لها من أسمى القُربات وأجل العبادات. ج –حاجة الناس لها: من حيث أثرها في إصلاح شئونهم وضبط سلوكهم وتزكية نفوسهم وتنمية أخلاقهم وتقويه وتنظيم علاقتهم بخالقهم فينسجموا مع بقية الخلائق في الانقياد لربهم. د –تأييد الله لها: من حيث حفظه لمنهجها، ورعاية أولياءه السائرين على دربها، والانتقام ممن يمكرون بها، ويحابونها.
وهذه الدعائم الأربعة ترتكن عليها دعوتنا، والذى يجب أن يشغلنا نحن السائرون على دربها هو اليقين بـ (عظمة الرسالة – تأييد الله لها – حاجة الناس إليها)، وننطلق من هذا اليقين الجازم إلى الارتباط القلبي بها والثبات على طريقها والحركة المستمرة من أجل نشرها والتمكين لها، حتى وإن لم تكن معنا دولة أو يكون لنا صولة، وإن قدر الله لنا الصولة والدولة مع هذه الدعائم الأربع فهذا فضل من الله علينا وعلى دعوتنا «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».
4 – أن نستشعر نحن حملة لواء الحق تأييد الله لدعوته وأولياءه، وبهذا التأييد الرباني لا نخاف على الدعوة فهي بعين الله محفوظة، ولكن ننتبه لأنفسنا ونشفق عليها إن قصرت في أداء واجب الدعوة عليها، وفي هذا السياق يذكر الأستاذ مصطفى مشهور رحمة الله عليه في أحد مقالاته: «كلمتي الأولى: إلى الإخوان عامة والشباب منهم بخاصة أن يطمئنوا على جماعتهم وحفظ الله لها، وأنها ارتبطت بدعوة الله ولن يقضي عليها كيد الأعداء بإذن الله، وليثق الإخوان في طريقهم وأنهم ملتزمون طريق رسول ﷺ ولم تُغير الجماعة مسارها رغم الفتن والابتلاءات، والا ينزعج الإخوان وبخاصة الشباب من أي تشكيك أو ادعاءات باطلة تُلصق بجماعتهم من أي جهة، هذه الدعوات الحقة لا بدَّ لها من العقبات في طريقها، لكن قوة دعوتنا وحاجة العالم إليها ونبالة مقصدنا وتأييد الله لنا هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبه ولا يقف في طريقها عائق،(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)يوسف ٢١» (2)
5- أن العلم بالواجب والثبات عليه والجهاد في سبيله هما طريق النصر والتمكين بإذن الله تبارك وتعالى، فلايكفى لرجل الدعوة أن يعرف ويعلم ما يجب عليه القيام به فحسب، ولكن يجب أن يلازم هذا العلم سعي دؤوب، واستمرار في العطاء والبذل مهما كانت التضحيات والعقبات، ودائما الثبات على الحق يحتاج إلى نفس قوية تجاهد نزواتها ورغباتها حتى لا تنحرف عن الطريق أو تقعد عن العمل بسبب المشاق والعقبات، ومع حسن الدراية والفهم، والثبات على الأمر، ودوام الجهاد والبذل، سيتحقق وعد الله بالنصر، وهذا هو المعنى الذي ختم به الإمام البنا توجيهه القيم حين قال: «وهذا هو واجبكم الأول فاعلموه، واثبتوا عليه، وجاهدوا في سبيله، ولكم النصر إن شاء الله». والحمد لله رب العالمين
————————— (1) المصدر: (رسالة الأستاذ المرشد العام بمناسبة مرور عشرين عامًا على تأسيس أول شعبة للإخوان المسلمين)، 3 ذو القعدة 1367 هـ، 6 سبتمبر 1948. (2) من مقال للأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله – منشور بمجلة الدعوة، يوليو 1981م.