الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد
* يحتاج الواحد منا -بين الفينة والفينة- أن يراجع أصوله الثابتة وأهدافه المحددة وطريقه المرسومة، ليرى هل لا يزال على الصراط المستقيم؟ أم أن أمواج الحياة ودوامة الأحداث وحِدَّة الصراع قد جرفته عن السبيل، وأبعدته عن الغايات، وخلخلت أصوله الراسخة، وذلك من أجل الثبات على المبدأ، وتصحيح المسار لبلوغ الأهداف – بإذن الله – وذلك هو دأب المؤمن مع نفسه أولا ثم مع إخوانه ثانيا ناصحًا ومذكرًا، عملًا بقوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)) (الذاريات)، ومن هذا المنطلق كانت هذه الرسالة.
* إن من أصول عقيدتنا الإيمان بأن دعوتنا هي دعوة الله – عز وجل – وأنه – سبحانه وتعالى – هو حافظها وناصرها (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) (الحجر)، (هُوَ الَّذى أَرسَلَ رَسولَهُ بِالهُدىٰ وَدينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكونَ (33)) (التوبة)، وأنه ينصرها على أيدى رجال مؤمنين، وأن نصرتهم لها إنما هي لمصلحتهم هم (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)) (العنكبوت)، وأن من يقعد عن النُصرة فلن يضر إلا نفسه، وسوف يأتى الله بمن هو خير منه (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)) (سورة محمد)، ولذلك ينبغى أن يكون الارتباط بمبادئ الدعوة لا بالأشخاص، ولو تخلى عنها كل الناس، وحسبنا في هذا عتاب الله للمؤمنين الذين انهاروا إثر سماعهم إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، وذلك قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)) (أل عمران).
* إن الإبتلاءات ضرورة لازمة من لوازم الدعوات (الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذِبِينَ) العنكبوت 3:1، (أمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)) (البقرة). وهذا أمر معلوم بالضرورة لكل من ارتضى هذا الطريق وقرر أن يسير فيه، سواء استظل بغطاء قانوني أم لا، ولا يحسبن أحد أن الغطاء القانوني سيحمى الدعاة، فالخصوم يستحيل عليهم أن يسمحوا بذلك الغطاء، وعلى فرض وجوده فمنذ متى يحترم الخصوم القانون أو الدستور أو الحق أو العدل أو العقل أو الشرف؟ أليس في سيل الافتراءات والمظالم أوضح برهان؟ ألم يتهم الأقدمون لوطًا وأتباعه بتهمة الطهر والعفاف، ويحكموا عليهم بالطرد والإبعاد؟ (أَخْرِجُوا آل لُوط مِنْ قَرْيَتكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاس يَتَطَهَّرُونَ (56)) (النمل)، فهل يتورع المُحدَثُون عن مثل ذلك وأكثر؟.
* نعم إن من واجبنا أن نوفر أكبر قدر من الأمن والحماية للدعاة والعاملين للإسلام حتى يُبلغوا رسالة الله أسوة بالنبي ﷺ وهو يقول: «من يحميني حتى أبلغ دعوة ربي»، وهو يأذن للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة مرتين، وهو يستظل بحماية عمه أبى طالب المشرك، ولكن ليس معنى ذلك أن تكون الحماية الآمنة شرطًا للدعوة والعمل لدين الله وإلا فما معنى الإبتلاء ومتى تكون التضحية؟
والنبي ﷺ وهو القدوة وهو يقول عبارته الخالدة: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يسارى لا اترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك دونه». وهو يستمر في دعوته وقد ارتفعت عنه مظلة الحماية بموت أبى طالب، وامتدت إليه الأيدى بالأذى حتى أوشكت أن تنال من حياته ليلة الهجرة، وما خبر الأنبياء الذين قتلهم أقوامهم، أو الصحابة الذين فاضت أرواحهم تحت سياط التعذيب، أو الدعاة والمصلحين الذين تخلص منهم أعداء الله بالسجن أو القتل في كل زمان ومكان بخافٍ على أحد.ولذلك يجب أن يكون رائدنا في هذا الموضوع هو قول النبي ﷺ: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا.».
* إن من أصول عقيدتنا أيضًا أن الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة ومظاهرها، وتُمثل العقيدة والعبادة والأخلاق الأصل منه، وتُمثل باقى الجوانب والأنشطة الفروع ومنها السياسة، وبديهي أن الفرع لا يمكن أن يقوم مقام الأصل أو يُغنى عنه، ومن ثم لا يجوز إختزال الدعوة في حزب سياسي يحكمه قانون الأحزاب الذي يحظر قيام الحزب على أساس ديني، ويحدد نشاطه ويُقيد حركته في إطار العمل السياسي فقط دون سائر جوانب الحياة التي يشملها الإسلام، ولذلك لا يصح مطلقًا أن يُوضع الحزب في مواجهة الدعوة، فضلًا عن أن يُقدّم عليها عند التعارض.
* إن التربية هي المنهاج الذي انتهجه النبي ﷺ في إعداد جند الإسلام وإقامة دولته، وهي المنهاج الذي تنتهجه دعوتنا منذ نشأتها وإلى الأبد – بإذن الله -، وأساس التربية هو إصلاح النفوس والقلوب، لأن القلب هو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله والعمل كله، وإن فسدت – والعياذ بالله – فسد الجسد والعمل كلاهما، ولذلك كانت أمراض القلوب والنفوس أخطر بكثير من أمراض الأبدان، ومن ثمّ وجب على كل منا أن يتعهد نفسه وقلبه وأن يجدد نيته مع كل عمل، وأن ينقى إخلاصه من كل الشوائب حتى ينتفع بعمله، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)). (الشعراء)
وإن من أخطر أدواء القلوب داء الكبر والعُجب – عافانا الله وإياكم – وحقيقة هذين المرضين أن يرى المرء نفسه أكبر من الناس وأن يرضى عن نفسه، ومن مظاهرهما: (أن يتعالى على الناس – وأن ينتقدهم – ويعيبهم – ويُحقر من شأنهم – ويطلب لنفسه الصدارة عليهم والعلوّ فوقهم – ويرفض النصيحة منهم والانصياع للحق الذى يأتيه عن طريقهم)، وفى ذلك قول النبي ﷺ: «الكبر بطر الحق وغمط الناس».
ولقد حذر القرآن والرسول والصالحون من هذين المرضين، حيث قال تعالى: (لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)) (النحل)، وقال ﷺ: «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر». وقال: «ثلاث مهلكات: شح مُطاع، وهوى مُتبع، وإعجاب المرء بنفسه». وقال يوسف بن الحسن ناصحاُ الجُنيّد: «لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذُقته مرة، ما رأيت بعدها خيراً قط». وعقيدتنا أن التمكين بغير تربية شر من عدم التمكين، وما يحدث في أفغانستان أوضح بُرهان على هذه الحقيقة.
——————
(*) انتهي الجزء الأول من الرسالة، ويتبعه الجزء الثاني والأخير إن شاء الله تعالى.
(**)(فوائد من الشدائد)، رسالة تربوية داخلية صدرت عن قسم التربية المركزي، عام (1417هـ 1997م)، وقد صدرت مع غيرها من الرسائل التوجيهية فى كُتيب صغير، عنوانه: (من زاد السائرين إلى رب العالمين). وقد صدرت هذه الرسالة مع غيرها لوقاية الصف من آثار المشكلة الداخلية التى تأثر بها البعض، والمرتبطة بقضية حزب الوسط فى 1996م.