الحمد لله الذي أكرمنا بنعمة الأخوة، وألف بين قلوبنا فأصبحنا بنعمته إخوانا، وبعد. لقد ربط الله بين قلوب عباده المؤمنين برباطين، وأقام بينهما عقدين، أولهما عقد الإيمان والآخر عقد الأخوة، وهي عقود قلبية وثيقة، تجمع القلوب والأفئدة، قبل العقول والأبدان، التقت على طاعته، واجتمعت على محبته، وتوحدت على دعوته، وتعاهدت على نُصرة دينه وشريعته.
والأخوة وقوة الرابطة القلبية من دعائم قوة الجماعة، ولنا في رسول الله ﷺ الأسوة الحسنة يوم آخى بين المهاجرين والأنصار ليرسي دعائم البناء الاجتماعي للجماعة المسلمة الأولي.
ومن يتدبر كتاب الله تعالى يجد هاتين الدعامتين، ففي سورة آل عمران تتجلى دعامة الأخوة والوحدة والترابط في قوله تعالي: (وَلا تَفَرَّقُوا وَإذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَأنًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103]، بعد أن أقر سبحانه دعامة الإيمان وقوة العقيدة في قوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا).
يقول الإمام البنا تحت عنوان (واجبات) في رسالته القيّمة، (بين الأمس واليوم): «وتحابوا فيما بينكم، واحرصوا كل الحرص على رابطتكم فهي سر قوتكم وعماد نجاحكم، واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين».
ولأهمية الأخوة في بناء الدعوة جعلها الامام البنا ركناً من أركانها فقال: «وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة: قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب: سلامة الصدر، وأعلاه: مرتبة الإيثار، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَأنَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)). (سورة الحشر)
والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم، فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، (وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، (والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا). (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة: 71)، وهكذا يجب أن نكون».(1)
إن درجات الأخوة تتصاعد، حيث تبدأ بسلامة الصدر وتنتهي بالإيثار، وبالتالي كان الخط الأحمر الذي لا يسمح بتجاوزه بيننا هو سلامة الصدر، فمن وجد في نفسه شيئاً نحو أخيه لا ينام حتى يُزيله، ويُعالج نفسه ويُنقيها، ويُصارح أخيه بما عنده لينتهي الأمر وتصفو النفس. لأن الله سبحانه يحب المرء على قدر حبه لأخيه لا بقدر حب أخيه له، وإن كانت الثانية دليل على الأولي.
الأخوة رابطة قلبية لا وظيفية إن أصل العلاقة بيننا أخوية، وإن العقد الذي بيننا عقدان (عقد الإيمان)، (عقد الأخوة)، وهي روابط قلبية قبل أن تكون روابط وظيفية. فمن يعمل في شركة يكون بينه وبين صاحبها عقد وظيفي تحدد فيه الحقوق والواجبات، والمنح والجزاءات، أما نحن على طريق الدعوة فالعقود بيننا قلبية، والواجبات والمسؤليات أخلاقية وأدبية نتعبد بها إلى الله ونتقرب بها إليه سبحانه. من هنا يجب أن يكون شعورنا وحالنا تجاه دعوتنا أننا أصحابها وشركاء في العمل لها، فلا يعمل أحدنا عند أحد فيها، ولكننا جميع – قيادة وجنود – نعمل لله معا من خلالها.
وبالتالي لا داعى أن تُنسينا الأوضاع التنظيمية أصل روابطنا الإيمانية والأخوية، فلا يزايد أحد على أخيه، أو يتعالى أخ على أخيه، أو يغمط أحد حق أخيه، أو ينتصر أحد لنفسه على أخيه، أو يقلل أخ من شأن أخيه، فالجميع شركاء في الملكية والمسئولية.
موقف يرتبط بالأخوة كتبت يومًا عن أدب التعامل مع أصحاب الفضل من أهل السبق والصدق، وعن فضل التناصح بين من سبق ولحق، وأن ذلك خلق وعبادة نتقرب بهما إلى مولانا سبحانه. فعقب أخ حبيب قائلاً بالنص: «أسلوب النحنحة ونظام أخوك الكبير الذي ضحي واعتقل لا يجدى في تولى القيادة». فقلت يا أخي: غفر الله لي ولَك، أين النحنحة هنا حينما نتكلم عن فضائل وآداب وقيم وأعراف؟ ألم يصف ربنا الجماعة المؤمنة بـ (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)؟ ألم يأمرنا النبي ﷺ«لينوا في أيدى إخوانكم»؟ هل تري هذه الذلة وهذا اللين نحنحة؟
يا أخي: إن أهم ما تميزت به هذه الدعوة أنها (زُمرة القلب الواحد)، وأن أخوتنا هي سر قوتنا، وأننا إن فقدنا هذا العمق القلبي والرباط الأخوي سنفشل ونتنازع وإن امتلكنا المهارات والقدرات، وستذهب ريحنا إن لم نلين لبعضنا، فيكمل منا القوي نقص الضعيف، ويشد الضعيف منا عضد القوي. (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ). والحمد لله رب العالمين
—————— (1) رسالة التعاليم، للإمام حسن البنا، جمادى الأولى 1357هـ – يوليو 1938م.