حَياة القُلوب تُنيرُ الدُروب – بقلم: د. محمد حامد عليوة
«والقلب الحيّ، قلب مطمئن موصول بالله تعالى، تشع منه أنوار المعرفة وتنبعث منه ومضات اليقين، ويخفق بحب الله فيمتلئ بخشيته، ويأنس برقابته، فتستجيب لهذه الحالة القلبية جوارح العبد، فتراه يري بنور الله، ويتكلم لله وفي الله، ويسمع ما يُرضي الله، ويمشي ويتحرك بهدي من الله».
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «سُمي القلب قلباً لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه». وقال رحمه الله: «وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير، تصلح الرعية، وبفساده تفسد». (1)
ويقول الأستاذ عمر التلمساني – رحمه الله -: «عجيب أمر هذا القَالَبِ الصنوبريِّ، الذي أودعه اللهُ صدورَ بني الإنسان! يصلح القلب فتصلح الدنيا معه، ويفسد القلب فيفسد العالم على أثره، ويتسع فيسع الدنيا وما فيها، ويضيق فكأنما يصعد صاحبه في السماء، أو يتنفس من سم الخياط، ويزكو القلب فلا يرى صاحبه في الوجود إلا خيرًا ونورًا، ويأثم فلا يرى في الكون إلا الظلمة والشرور، ويتجلى ربك ببسط على القلب فلا تجد فيه متسعًا لحقد أو ضغينة، ولا يشرق فيه نور الجمال القدسي فإذا به معترك الإحن والبغضاء».(2)
مع القلب السليم
وأنت تقرأ قول الله عز وجل: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)) سورة الشعراء، وتتدبر ما فيها، وتعيش معانيها، تدرك أن سلامة القلب ونقاءه فى الدنيا هي جواز المرور إلى رضوان الله تعالى، وهي النافع الحقيقي للعبد يوم لقاء الله، فلا ينفع المرء لا مال ولا عيال ولا غيرها، إذا لقي العبد ربه بقلب خبيث مريض، تخبطته الشهوات والشبهات، وأفسدته المعاصى والموبقات، وأثقلته الأمراض والآفات.
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: «القلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرئاسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله.
ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص. وهذه الخمسة حجب عن الله، وتحت كل واحدة منها أنواع كثيرة، تتضمن أفراداً لا تنحصر. ولذلك اشتدت حاجة العبد، بل ضرورته، إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، فليس العبد أحوج منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء أنفع له منها.» (3)
وهنا لا يتعجب المرء حين يربط رسول الله ﷺ صلاح الجسد وفساده بحالة القلب الذى يحمله هذا الجسد، فيقول: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ، فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ، ألا وهِيَ القَلبُ». رواه البخاري ومسلم، وحسب حالة القلب فى الدنيا يكون دوره مع صاحبه يوم القيامة. وفي هذا الحديث تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه.
يُعقب الأستاذ عمر التلمساني – رحمه الله – على هذا الحديث فيقول: « أيها الأخ الحبيب: هذا هدي الصادق الأمين – صلوات الله وسلامه عليه – فاحرص على أن تجعله مهبط التجليات الربانية، والفيوضات الإلهية، والرحمات القدسية، والإمدادات النورانية، تعش سعيدًا هانئًا في خضم الحياة، ولا يجد الشيطان إلى مدخلك سبيلاً مهما استمر الخلاف واكفهر وجه الجدل، وآمِنْ بأن كل ما يصدر من إخوانك إنما يُبتغى به وجه الله ورضاء الرحمن».
القلب المخموم
عن عبد الله بن عمرو قال: سئل النَّبِي ﷺ أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد» [رواه ابن ماجه].
قال الإمام السيوطي: (كل مخموم القلب) بالخاء المعجمة، هو من خمَمْت البيت إذا كنسته ونظفته. وهذا يتطلب مجاهدة قوية لتنظيفه من أهواء البغي والغِلّ والحسد، وما أكثر تلوُّثَ القلوبِ بها!
والمعنى: أن يكون قلبه نظيفاً خالياً من سيّئ الأخلاق، “صدوق اللّسان”، أي: لسانه مبالغ في الصّدق، فيحصل بذلك المطابقة بين تحسين اللّسان وطهارة القلب، فيخرج عن كونه مرائياً.
فما مخموم القلب؟فقال النّبيّ ﷺ: هو (التّقيّ)، أي: الخائف من الله في سرّه وعلنه، والمراقب له في كلّ أعماله، (النّقيّ)، أي: نقيّ القلب، وطاهر الباطن، (لا إثم فيه)، وفي رواية: (لا إثم عليه)، أي: لا يوجد به سوء من الحقد والغلّ، فإنّه محفوظ بحفظ الله وعنايته، وقوله: (ولا بغي) أي: لا ظلم فيه ولا ميل عن الحقّ، (لا غلّ) أي: لا حقد، (ولا حسد)، أي: ولا يتمنّى زوال نعمة الغير.
دُخل على أبي دجانة الأنصاري -رضي الله عنه- وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل ؟؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين؛ كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى: كان قلبي للمسلمين سليمًا. (4)
خلاصة القول فى هذا الأمر: أن من أعظم النّعم على العبد، أن يحمل هذا القلب النّقيّ التَقيّ الصّافي من كل أمراض القلوب، وكل ما يُوغر الصّدور ويبعث على الفرقة والشّحناء والغلّ والحسد، والتي نهانا عنها رسول الله ﷺ في حديثه الصحيح حيث قال: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد اللّه إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التّقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرّات – بحسب امرئ من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» (رواه مسلم)
وبالتالى ترى حال أصحاب القلوب السليمة في الدنيا كما وصفهم القرآن: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10، 11]، فيمنحهم الله أعظم عطاباه في الآخرة بعد دخولهم الجنة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47]. اللّهمّ إنّا نسألك قلوبا نقيّة تقيّة تحبّ وتبغض فيك، وتوالي وتعادي فيك، اللّهمّ اشرح صدورنا، واغفر ذنوبنا، واختم لنا بخير يا ربّ العالمين.
—————————
(1) فتح الباري (1/156).
(2) مقال منشور للأستاذ عمر التلمساني بعنوان: (القلب معين الصفاء).