أدعوهم بالنهار وأدعوا لهم بالليل – بقلم: د. محمد حامد عليوة
إن من أخلاق الدعاة الصادقين، ومن شيم المربين العاملين؛ أن ينشغلوا بمن يدعونهم، ومن تكفلوا بتربيتهم، انشغالًا يجعلهم يقضون الأوقات في تعهدهم ورعايتم، ويتضرعون إلى الله بالدعوات من أجل صلاحهم وهدايتهم.
فها هو الإمام حسن البنا يقول: «يا أخي: اجتهد ما استطعت أن تغترف من ذخائر الليل ما توزعه على إخوانك بالنهار».
وقد سُئل الإمام البنا يومًا عن سر تأثر الناس به، وإقبالهم العجيب عليه، فأجاب: «كنت أدعوهم بالنهار وأدعوا لهم بالليل».
ولنا في قرآننا وسنة نبينا خير شاهد ودافع ودليل على تمثل هذه الأخلاق: قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.) (الحشر: 10). وقال سبحانه وتعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (محمد: 19). وقال جل في علاه: إخبارًا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ). (إبراهيم: 41) ويقُولُ رسُول اللَّه ﷺ: «دَعْوةُ المرءِ المُسْلِمِ لأَخيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابةٌ، عِنْد رأْسِهِ ملَكٌ مُوكَّلٌ كلَّمَا دعا لأَخِيهِ بخيرٍ قَال المَلَكُ المُوكَّلُ بِهِ: آمِينَ، ولَكَ بمِثْلٍ» رواه مسلم
وعلى هدي القرآن وسنة النبي العدنان ﷺ، سار الصحابة ومن تبعهم بإحسان من سلف الأمة الصالح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإليكم بعض النماذج العملية والأفعال الحية الدالة على هذا الأمر: – روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: «إني لأدعو لسبعين من إخواني وأنا ساجد». وفى رواية أخرى لأبى الدراء أنه قال: «إنى لأدعو لسبعين من إخوانى فى سجودى، أسميهم بأسمائهم». – وهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول: «ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي – رحمه الله». – وكان لأبي حمدون القصاص (*) صحيفة، مكتوب فيها ثلاثمائة من أصدقائه. قال: وكان يدعو لهم كل ليلة، فتركهم ليلة فنام، فقيل له في نومه يا أبا حمدون لم تسرج مصابيحك الليلة؟ قال: فقعد فاسرج، وأخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ. (1)
ولقد بلغني عن بعض إخواني أنهم كانوا يخصصون أوقاتًا في أثناء حجهم أوعمرتهم -في البقاع المقدسة والأوقات المباركة- بالدعاء لإخوانهم المدعوين والمتربين، وقد كان أحدهم يُحصي حاجات إخوانه التي تتطلب الدعاء ويُعد قائمة بهم وبحاجاتهم، ويخصص وقتًا للدعاء لهم متخيرًا أوقات الإجابة متخذًا بأسباب القبول. ولقد كان لهذا الأمر أثره البالغ فيما بينهم من حب وقبول وتآلف وتآزر.
وقد جرب أحدهم الدعاء لإخوانه بالصلاح والهداية في أمور عايشهم فيها، وبذل الجهد معهم في إصلاحها وتقويمها، وقد كان لدعائه لهم بظهر الغيب، الأثر الكبير في تجاوز هذه الأمور وإصلاح هذه الأحوال.
وهو درس نتعلمه على طريق الدعوة، مفاده: أن طرق آذان من ندعوهم بالتوجيه والإرشاد لا يكفي، فلا بد من الدعاء لهم والانشغال بهم، ولا سيما في أوقات الليل الغالية، لأن الإقبال الصادق على الله فيه سر القبول من الناس، ومن أقبل على الله بقلبه؛ أقبل الله بقلوب العباد عليه.
وكما قال الإمام بن القيم: «ويكفي في الإقبال على الله تعالى ثوابًا عاجلًا أن الله سبحانه وتعالى يُقبل بقلوب عباده إلى من أقبل عليه، كما أنه يُعرض بقلوبهم عمن أعرض عنه، فقلوب العباد بيد الله لا بأيديهم».(2) وقول هرم بن حيان يقول: «ما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله عز وجل بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم». نسأل الله سبحانه التوفيق والعون والقبول.
———————- (*) هو الطيب بن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي التراب، ويعرف بأبي حمدون الفصاص، وهو أحد القراء المشهورين، وكان صالحًا زاهدًا. (1) المصدر: تاريخ بغداد – الخطيب البغدادي – ج ٩ – الصفحة ٣٦٧. (2) المجموع القيم من كلام بن القيم فى الدعوة والتربية وأعمال القلوب، ص 668 -669.