احذروا الاستدارج– بقلم: الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله
تحدثنا في الحلقتين السابقتين عن(الوحدة وعدم التفرق)وعن(العمل والحركة والانتاج)، وما أروع أن يتحد العاملون في حقل الدعوة وأن توجه همتهم إلى العمل الجاد والحركة بالدعوة والانتاج المثمر في مجالاتها. وهذه الصورة تغيظ أعداء الله وعلى رأسهم إبليس اللعين، فإذا بالمحاولات المتعددة دون يأس في بث الفرقة في الصفوف واستدراج العاملين وصرفهم عن العمل، ولهذا ننبه إلى التحرز والحذر من الاستدراج كي نحبط على أعداء الله كيدهم بإذن الله.
ومن المهم أن نعلم أن الاستدراج يبدأ بسيطًا ومستخفيًا في سياج زائف من مصلحة الإسلام والعمل الإسلامي، فلا يشعر المستدرج أنه قد استدرج أو أنه حاد عن الطريق الصحيح فكريًا أو حركيًا، ولكن إخوانه الذين معه على نفس الطريق يلحظون ذلك عليه، وواجبهم أن ينبهوه ويأخذوا بيده، وواجبه أن يستجيب لنصحهم، وهذا من أوجب واجبات أخوة الإسلام وأخوة الطريق.
ومن أخطر صورالاستدراجوأحبها إلى أعداء الله إثارة الخلاف بين العاملين على الطريق والتحريش بينهم فتتصدع وحدتهم وتضعف قوتهم وينصرفون عن العمل الجاد لصالح الدعوة ويمكن للأعداء أن يجدوا الثغرات وبالجملة يفشلوا وتذهب ريحهم كما قال الله تعالى:(وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾، الأنفال:46، وللتحصن من ذلك علينا أن نحرص على رابطة الأخوة والحب في الله ونقفل على الشيطان أبوابه بأن نقول التي هي أحسن مع الصفح والإحسان وصدق الله العظيم(وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)، الإسراء:53، وقوله تعالى:(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، آل عمران:134، ثم عند بوادر أى خلاف يلزم المسارعة لانهائه بالتى هي أحسن(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، الحجرات:10
ومن أساليب أعداء اللهالاستدراجفي صورة استفزازات واثارات لندخل معهم في معارك جزئية تستنفد طاقتنا وأوقاتنا وتشغلنا عن العمل الجاد في حقل الدعوة. فلنكن على حذر من هذا الأسلوب ولنفوت عليهم غرضهم ونضبط أعصابنا ونمتنع عن التصرفات الفردية الفجة المنبثقة من الحماس السطحي غير المنضبط.
كثيرًا ما يلجأ أعداء الله على استدراج العاملين في حقل الدعوة ليتركوا مكانهم في الصف بأسلوب الترغيب أو الترهيب، فلنحذر ذلك ولنعلم أن كل متاع الدنيا زائل والأخرة خير ونعيمها أبقى، فلا نستجلب سخط الله بسبب أغراض دنيوية دنيئة، وقد يغرون بمناصب بحجة خدمة الدعوة الإسلامية من خلالها ولكن يكون القصد إذابة شخصية من يستجيب لهم هو وإنتاجه في حقل الدعوة الحر.
كما يجب ألانستدرج في فتح جبهات مع أفراد أو جماعات من المسلمين، فلا نسب أحداً أو نجرح أحدًا أو جماعة، ولا نستدرج في قضايا الحكم على غيرنا من المسلمين بالفسق أو الشرك فليس ذلك من التكاليف الشرعية. ثم إننا إن فعلنا ذلك نفجر حقل الدعوة بأيدينا ونقيم الحواجز بيننا وبين من ندعوهم، بل أن ندعوهم إلى الفهم السليم للإسلام كما جاء به رسول اللهﷺ، ولنقدم النصيحة على أكمل وجه دون تعال ولا سخرية فقد كان كثير منا مثلهم ومنَّ الله علينا بمن أخذ بأيدينا.
كما نحذر أن نستدرج بأسلوب الترهيب بالتهديد والوعيد، ولنتمثل قول الله تعالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، التوبة:51، ولنكن ممن قال الله فيهم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، آل عمران: 173-175، ولا نكون ممن قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ)، العنكبوت:10، فشتان بين فتنة الناس وعذاب الله.
هناك نوع آخر من الاستدراج الذي يحدث حوله خلاف كثير وهو الانشغال بالقضايا الجزئية والفرعية التي تدخل في مجال العمل الإسلامي عن القضية الكلية وهي إقامة الدولة الإسلامية والتركيز على وضع أساسها المتين في هذه المرحلة، وهذا أمر يحتاج إلى حكمة ودقة في التقدير بحيث لا نترك أنفسنا نستنفد كل طاقتنا وأوقاتنا في هذه القضايا الجزئية، ونهمل العمل الأساسي في مرحلة بناء الدولة وهو وضع الأساس المتين لها، كما أنه لا يصح أيضًا أن نقف من هذه القضايا الجزئية موقفًا سلبيًا دون أن نحرك ساكنًا، فالحكمة تقتضي أن نعطي هذه القضايا القدر المناسب من الاهتمام والجهد بحيث لا يستنفد كل الجهد والوقت فيها وبخاصة وأن كثيرًا من هذه القضايا لن يحل حلًا جذريًا بسب غياب الدولة الإسلامية التي تردع أعداء الله وتوقفهم عند حدهم، أما القضايا التي يمكن أن تُحل جذريًا فيلزم بذل الجهد لحلها.
وعلى سبيل المثال لهذه القضايا قضايا العالم الإسلامي والاقليات الإسلامية في بلاد الكفر، وتجاوز الاقليات غير المسلمة في البلاد الإسلامية، والمنكرات الموجودة في مجتمعاتنا، ومعاول الهدم الرسمية التي تهدم كيان المجتمع والأفراد، والتيارات الفكرية المختلفة، والأزمات التي تتعرض لها شعوبنا نتيجة غياب النظام الإسلامي عن حياة الناس.
وهناك نوع آخر من الاستدراج يلبس على بعض المسلمين وهو استغراق البعض في تحقيق بعض الواجبات المطلوبة من المسلم على حساب واجبات أخرى، كأن ينصرف إلى العلم والعبادة والذكر وفعل الخير عن العمل على إقامة دولة الإسلام والجهاد في سبيل الله للتمكين لهذا الدين. ولا يعنى ذلك الانتقاص ولكلٍ متطلباته وبخاصة ما تفرضه هذه المرحلة التي شاءت إرادة الله أن نعاصرها.
إننا نريد العلم الذي يدفع إلى العمل والحركة بالدعوة وجمع المسلمين لمواجهة كيد أعداء الله، ولا يتصور أن نجعل من كل المسلمين علماء متخصصين في العلوم الإسلامية، ولكن فئة منهم يتفقهون ويتخصصون والباقون ينالون قسطًا من العلم ينير لهم الطريق ويصحح لهم عملهم وعباداتهم، ثم يتقن كل فرد تخصصه ليخدم به أمته الإسلامية ولا نترك مقدرات شعوبنا الإسلامية في أيدي أعداء الله.
فإننا نحتاج إلى الطبيب المسلم والمهندس المسلم والزراعي المسلم والتجاري وكل المهن النافعة للمسلمين. كما أن العبادة لا تستدرجنا لذتها وروحانيتها إلى الاقتصار والعكوف عليها فلا رهبانية في الإسلام، وقد اعترض رسول الله ﷺ على ذلك النفر الذي قالوا بقيام الليل طول العمر والصيام كل العمر واعتزال النساء. كما لا بدَّ أن نعمل على بناء شخصية المسلم بناء متكاملًا بحيث يكون سليم العقيدة صحيح العبادة متين الخلق مثقف الفكر قوى البنية قادرًا على الكسب نافعًا للغير منظمًا في شئونه حريصًا على وقته وهكذا يكون نموذجًا ممثلًا للإسلام المتكامل.
وهناك نوع من الاستدراج الذي يبدأ بسيطًا ثم يزداد ويرتب آثار جانبية خطيرة، وهو الخلاف حول الأمور الفرعية في أمور الدين والتي فيها أكثر من رأى ولكل رأى دليله. ثم يتطور الخلاف إلى جدال ومراء ويتدخل الشيطان ويوغر الصدور، والمراء لا يأتي بخير كما تضيع الأوقات والجهود في غير النافع المفيد وربما حال بين التعاون على البر والتقوى بين العاملين للإسلام.
والخلاف في الفرعيات أمر لا مفر منه ولا يجوز أن يكون سببًا في تمزيق وحدة المسلمين لذلك كانت تلك العبارة التي وجهنا إليها الإمام الشهيد: «نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيه اختلفنا فيه» كان لها الأثر الكبير في جميع المسلمين، وارتاحت إليها نفوس العاملين في حقل الدعوة وساعدت على إبعاد روح الخلاف بينهم.
وننبه إلى خطأ في فهم هذه العبارة فقد سمعت فهمًا شاذًا لها وهي أنه تعنى أن الغاية تبرر الوسيلة أو الميكيافيلية ولعل هذا الفهم الخاطئ جاء نتيجة فهم كلمة (اختلفنا فيه) أنها (خالفنا فيه) أى نعذر بعضنا بعضًا في مخالفتنا للشرع وهذا أمر مستغرب ومستبعد.
والإمام البنا في هذه الأمور التي فيها أكثر من رأى ولكل رأى دليل لم يلزم أفراد الجماعة جميعًا برأى واحد دون غيره في مثل هذه الامور حتى لا تتحول جماعة الإخوان إلى فرقة أو مذهب، ولكن تجمع المسلمين على اختلاف آرائهم ما دامت هذه الآراء لا تخرجهم عن الإسلام. والواجب أن نتواصى في مثل هذه الأمور أن نأخذ بالرأي الأرجح ونحاسب على الأدنى ولا نختلف بين ذلك.
وزاوية أخرى نوصى إخواننا ألا يستدرجوا فيها وتشغلهم عن العمل الجاد وهي ما قد يسمعونه من البعض من شبهات أو تشكيكات حول الجماعة سواء في مفهومها أو أهدافها أو وسائلها أو أشخاصها أو قيادتها، سواء صدر ذلك من أعداء الله أو من بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، فلا يصح أن يثيرنا هذا القول ويستدرجنا إلى مهاترات أو إساءات، فلنطمئن ولا ننزعج، فلن ينال ذلك من الجماعة ومنزلتها فقد تعرضت إلى كثير من ذلك في الماضى ومع ذلك فهي تزداد أصالة وامتداد وحازت ثقة المخلصين من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية في أرجاء العالم الإسلامي، وعلينا أن نقتدي برسول الله ﷺ في صبره واحتسابه ما تعرض له من إيذاء واتهام بأنه ساحر أو كذاب أو شاعر أو مجنون وكان يقول: «رب اهد قوى فإنهم لا يعلمون»، ولنفرق بين من يتشكك من المسلمين في أمر ويريد أن يتبين الحق، فعلينا أن نبينه له، أما من يريد أن يدخل في جدال ومراء فلا نتجاوب معه في ذلك … فالوقت هو الحياة، والواجبات أكثر من الأوقات، ومع ذلك نظل نحبه ونرجو فيأه ورجوعه.
يمكن أن يأتي الاستدراج والانصراف عن العمل الجاد للدعوة عن طريق العمل لكسب المال لضرورات الحياة، فإذا اتسعت أبواب الرزق أمامه يزداد انشغالًا ويزداد تعلقًا بجمع المال شيئًا فشيئًا، فالمال كالأفيون يمكن أن يسيطر على الإنسان ويسخره في جمعه ونمائه والمحافظة عليه، وكثيرًا ما يعجز عن انتزاع نفسه من هذه الدوامة إلا بتوفيق الله ثم عون إخوانه له.
وهناك جواذب أخرى غير المال كالاستدراج في كماليات الحياة وجواذب الأرض ومطالب الجسد مما تجعل صاحبها يثاقل إلى الأرض شيئًا فشيئًا ويتكاسل عن أعمال الدعوة وتكاليفها شيئًا فشيئًا، فالواجب أن ننبه إلى هذه المزالق ولا نستسلم لها، وواجب الأخوَّة يحتم علينا أن نأخذ بيد من يتعرض إلى مثل هذه المزالق ونجذبه قبل أن يصعب ذلك ويزداد إخلادًا إلى الأرض.
هذه بعض صور الاستدراج التي يجب أن يتحرز منها من يسلك طريق الدعوة حتى لا يحرم الخير ولكي يواصل المسيرة مع موكب النور وقافلة الدعوة في قوة وثبات بعون الله.
———————— المصدر: مقال للأستاذ مصطفي مشهور، نشر بمجلة الدعوة، العدد (60) السنة الثلاثون، جمادى الآخرة 1401 هـ، أبريل 1981م.