الأستاذ سيد قطب.. سموّ النفس و علوّ المبادئ

الأستاذ سيد قطب.. سموّ النفس وعلوّ المبادئ – (مع زاد السائرين)

في هذه الإطلالة السريعة نقف مع الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- (شهيد الظلال)، في موقف له دلالاته التربوية والدعوية، وهو موقف حيّ يرويه شاهده بالعيان، ويدل هذا الموقف المؤثر على سمو نفس الشهيد واستعلاؤه أمام رغبات النفس ومصاعب الحياة ومحنها، بمنطق صاحب الدعوة الذى تجرد لدعوته، وأخلص لفكرته.

يروي الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي في كتابه (سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد) (1) قصة واقعية حول تجرد الشهيد سيد قطب وسموّ نفسه وعزتها، وإستعلاؤه على الأموال رغم حاجته إليها، فيقول:

حدثني الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار،(*) هذه الحادثة التي رآها من سيد بعينيه، وعاشها بكيانه، وهي أغرب من الخيال.

قال: اتصل بي سيد قطب تليفونياً ذات يوم، وطلب مني أن آتي إلى منزله سريعاً، وطلب مني -باستحياء- أن أحضر معي بضعة عشر جنيهاً قرضا، ليشتري بها دواء، وهو مريض ولا يملك ثمن الدواء!!.

فذهبت إلى المنزل سريعاً ومعي المبلغ المطلوب؛ ولما دخلت غرفة الإستقبال، رأيت مشهداً عجيباً، أقسم لقد دهشت مما رأيت!!

كان يجلس في الغرفة، موظف دبلوماسي في سفارة دولة عربية بترولية، وأمامه حقيبة مليئة بالأوراق المالية من مختلف الأرقام والفئات، تبلغ في مجموعها عدة آلاف من الجنيهات!!

وهو يرجو سيد قطب بإلحاح ورجاء وحرارة أن يأخذ الحقيبة، بما فيها من أموال، فهي هدية من دولته له، لأنها تعرف منزلته ومسؤولياته، وتريد منه أن يستعين بها على أعباء حياته، وتمويل مشروعاته الأدبية والفكرية، وكان سيد وقتها بصدد إصدار مجلة أدبية وفكرية إصلاحية -لعلها العالم العربي أو الفكر الجديد-.

فنظرت إلى سيد قطب الذي كان جالساً مريضاً، فإذا به حزين.

ثم رد هدية الرجل بحزم وأدب، وبدا عليه الغضب والحدة، وهو يخاطبه قائلاً«إنني لا ابيع نفسي وفكري بأموال الدنيا، فأعد أموالك إلى حقيبتك»!.

ثم التفت سيد إليّ، وقال لي: هل أحضرت ما طلبته منك؟
فقلت له: نعم، وناولته المبلغ، وأنا في غاية الدهشة والإستغراب والإنفعال!!

ولما عرف الدبلوماسي قصة هذا المبلغ، وأن سيد يومها مُعدم فقير لا يملك ثمن الدواء، ومع ذلك استعلى على آلاف الجنيهات، ورفضها، وردها مع حاجته الماسة إلى بعضها … خرج مُحتاراً متعجباً!!.

يقول الدكتور صلاح الخالدي -معقباً على ذلك-:

هذه الحادثة أثبتها، وأسوقها بدون تعليق .. وأقدمها هدية لمن يتناولون حياة سيد قطب وفكره وآراءه الحركية ومواقفه الجهادية، بالتخطئة والنقد والاتهام والتجهيل .. وهم يعيشون في ترف ظاهر، ويلهثون وراء المال، ويرتبطون الارتباطات المشبوهة، ويتصلون الاتصالات المريبة، ويمدون أيديهم لهنا وهناك!!

واقول لهم: قليلا يا هؤلاء! ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه فوقف عندها!! وأين أنتم من هذا الإمام الزاهد المتجرد الشهيد؟!!.

———————
(1) المصدر: كتاب: (سيد قطب من الميلاد إلى الإستشهاد) للدكتور صلاح الخالدي، صفحة (494-495)، الطبعة الثانية 1314هـ – 1994م، والصادر عن: دار القلم (دمشق) و الدار الشامية (بيروت).
(*) هـو الكـاتـب الكـبير والـصحفي الـقديـر والأديـب اللغـوي الأستـاذ أحمد عبد الغفور عطار، من مواليد مكة المكرمة سنة 1335هـ، بدأ تعليمه في المدارس النظامية، حتى حصل على الشهادة الثانوية من المعهد السعودي في العاصمة المقدسة، ثم أوفدته الحكومة السعودية إلى مصر لاستكمال دراسته في كلية دار العلوم بالقاهرة، فكان يجمع بين الانتظام فيها والاستماع بكلية الآداب في جامعة القاهرة.
ولكن ظروفًا عائلية اضطرته إلى العودة إلى بلده قبل أن يتم دراسته الجامعية، ومع هذا لم ينقطع عن مواصلة التحصيل العلمي ومتابعة الدراسة والقراءة في كتب الأدب والدين واللغة ومختلف المعارف، وقد عمل موظفًا مدة ثلاث سنوات، ثم تحول إلى العمل الصحفي والتأليف، فقد أسس وأصدر جريدة (عكاظ) عام (1379هـ – 1959م) اليومية ثم مجلة (كلمة الحق) عام (1387هـ – 1967م) ولم يتوقف عن التأليف والكتابة في الصحف والمجلات داخل المملكة وخارجها.  
وهو يحظى بتقدير كبير لدى الأدباء والباحثين وكانت له صلة وثيقة بالأستاذ سيد قطب الذي أحبه ووقف إلى جانبه في محنته أمام الطغاة والفراعنة، وقد كتب عنه في مجلته (كلمة الحق) بعد استشهاده.
وكانت بينه وبين الشهيد سيد قطب مراسلات حتى وهو في السجن، بل سعى لدى الملك فيصل بن عبد العزيز، كما سعى غيره من العلماء والصالحين بالمملكة كالشيخ ابن باز وغيره لعدم تنفيذ حكم الإعدام بسيد قطب، وذهبت برقية الملك فيصل إلى الطاغية، ولكنه أمر بسرعة التنفيذ وإعدام سيد قطب والجواب على البرقية بأنها وصلت بعد التنفيذ!!.
انتقل الأديب الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار إلى رحمة الله في يوم الجمعة السابع عشر من رجب عام 1411هـ، بعد صراع مع المرض عن عمر يناهر 77 عامًا قضاها في طلب العلم النافع، والدفاع عن لغة الضاد؛ فهو أهل لأن يكون أحد فرسانها.

اترك تعليقا