الدعوة إلى الله طريقها وآدابها

الدعوة إلى الله طريقها وآدابها
الشيخ العلامة محمد رشيد رضا (رحمه الله)

نشر هذا الموضوع في (مجلة المنار) التي كان يصدرها الشيخ العلامة محمد رشيد رضا (رحمه الله)، ونظرا لأن الحاجة ما زالت في هذا الوقت لمثل هذا الموضوع، ولمكانة الشيخ العلمية وخبرته الطويلة في مجال الدعوة إلى الله، رأينا نشر الموضوع ليستفيد منه الدعاة إلى الله، ويكون مناراً لكل داعية يرجو الله والدار الآخرة، ويحرص على دلالة الناس على الخير بأحسن طريق وألطفه.

يقول العلامة محمد رشيد رضا – رحمه الله -:
يقول الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) النحل.

علمنا الله تعالى في القرآن أن طريقة رسله في نشر الدين إنما هي الدعوة إليه، وعلمنا بسننه في شؤون الإنسان الاجتماعية أن هذه الطريقة هي الطريقة المثلى لنشر المذاهب والأديان لا يضل سالكها عن مقصده مهما عرف منارها وأعلامها، وراعى آدابها وأحكامها، وسدّد إلى الأغراض سهامها.
فخاطب العقل بالبرهان، وحرك سواكن الوجدان، وأشرف على النفوس من شرفات التأثير، وبصرها بحسن العاقبة أو سوء المصير.

والأديان والمذاهب لا تنتشر إلا بالدعوة، ولا تطوى إلا بتركها، وإن الشرط في انتشارها هو كون الدعوة صحيحة لا كونها هي صحيحة في نفسها، ولا بد من بيان شروط الدعوة وآدابها خدمة لمن يوفقه الله تعالى من فضلاء المسلمين وعلمائهم وأهل الغيرة والحمية منهم، لإقامة هذا الركن الأعظم، والقيام بهذا الفرض الاجتماعي المحتم، والتصدي لإرشاد هؤلاء الملايين الذين يتشدقون بكلمة (الإسلام) ولا يعلمون مسماها، ويتمسكون بلفظها ولا يفقهون حقيقة معناها، فقد قام فيهم دعاة يهتفون باسم المهدية، ومرشدون يدعون سلوك الطريقة الصوفية، ولكن أحداً منهم لم يرع الدعوة حق رعايتها. ويقف من الطريق على جادتها، فطاشت سهامهم، وخسرت أيامهم وزادوا شمل الأمة تفريقاً، وأديم الدين تمزيقا، على أن منهم من دعا إلى حق ولكن بغير حكمة، ولا مراعاة لما تقتضيه سياسة الأمة، وأمر بمعروف ولكن على غير المنهج المعروف، ونهى عن منكر ولكن على غير الوجه المألوف.

علمتنا الآية الكريمة التي افتتحنا بها هذه المقالة أن للدعوة طريقتين: الحكمة والموعظة الحسنة. فأما الحكمة فهي لخطاب العقل بالبرهان، وأما الموعظة فهي للتأثير في النفس بمخاطبة الوجدان، فالأولى للخواص والثانية للعوام والمقصد واحد.

ولا يحتاج إلى الطريقتين إلا من يدعو إلى حق موافق لمصلحة الناس الحقيقية، ولذلك قام أكثر الدعاة في العالم على الطريقة الثانية، ووقفوا على منبر الخطابة ابتغاء إقناع النفوس بالمسلمات، وجذبهم بزمام الوجدان حيث السلطان الأعلى للقياسات الخطابية والشعرية، لا للحجج البرهانية، وإذا نجح هؤلاء في كل عصر مضى فلا يدوم نجاحهم في هذا العصر، لأن العلم الحقيقي الرائجة سوقه فيه خصم لهم وهو الخصم الذي لا يغالب. القرت الذي لا يبارز، والقرن الذي لا يناهز، والناطق الذي لا تدحض حجته، والسالك الذي لا تنطمس محجته.

ذكر الله الطريقتين، ثم ذكر كيفية السلوك فيهما، والسير عليهما. وهي المجادلة بالتي هي أحسن. الهادية للتي هي أقوم.

الدعوة إلى الله طريقها وآدابها

ويشترط في هذه المجادلة بل وفي أصل الدعوة شروط:

* (أحدها): العلم بلغة من يراد دعوتهم ومجادلتهم، ولهذا ترى دعاة النصرانية يتعلمون جميع اللغات وينقلون إليها كتبهم الدينية، وأما رجال الدين من المسلمين فيرون في تعلم اللغات إعراضاً عن الدين الذي لا وظيفة لهم إلا القيام بحفظه ونصرته، ونشره وتعميم دعوته. وقد علمنا أن الداعي الذي في الهند عارف باللغات المنتشرة هنالك، كالأوردية والفارسية والإنكليزية كما هو عارف بالعربية، والشاهد لهذا الشرط من الكتاب العزيز قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ (4)). إبراهيم

* (ثانيهما): العلم بأخلاق الناس وعاداتهم، ومواقع أهوائهم ورغباتهم؛ ليخاطبهم بما يعقلون ويجادلهم بما يفهمون. وأكثر المشتغلين عندنا بعلم الدين يرون البحث في الأخلاق والعادات من تضييع الأوقات، والتنقيب عن شؤون الدهماء لا يليق بمقام العلماء.

* (ثالثها): الوقوف على ما عندهم من المذاهب والتقاليد الدينية والعلوم والفنون الدنيوية، ما يتعلق منها بالدعوة، ويصلح أن يكون شبهة، ومن جهل هذا القدر كان عاجزاً عن إزالة الشبهات، وحل عقد المشكلات، ومن فاته هذا الشرط وما قبله لا يقدر أن يخاطب الناس على قدر العقول والأحلام. كما كان شأن سادة الدعاة إلى الله عليهم الصلاة والسلام.

ولقد علم رؤساء الديانة النصرانية أن ما كان جهلهم بالعلوم الكونية ومعاداتهم لها، وتحكيمهم الدين فيها، مؤذن باضمحلالها ومُفض إلى زوالها، فأخذوا بزمامها، وقادوها بخطامها، وقربوا بين عالمي الملك والملكوت، وقرنوا بين علمي الناسوت واللاهوت، وبهذا أمكنهم حفظ حرمة الدين وإعلاء كلمته بين العالمين. وديننا هو الذي ربط بين العالمين ولكنا نقطع الروابط، وجمع العلمين ولكننا نهدم الجوامع. ولهذا جهلنا وتعلموا، وسكتنا وتكلموا. وتأخرنا وتقدموا، ونقصنا وزادوا، واُستعبدنا وسادوا.

* (رابعها): إلقاء الدعوة بصوت ينبه العقول والفكر، وصيحة تستلفتها إلى البحث والنظر، وتشوق النفوس إلى غايتها، وتخيفها من مغبة مخالفتها. هذا الشرط قد نطق به المتكلمون ونص بعضهم، على أن من لم تبلغه الدعوة على وجه يستلفت إلى النظر يكون معذوراً إذا بقي على كفره، ولا يمكن تحديد هذا الشرط إلا ببيان ما يدعو إليه الداعون، ويرشد إليه المصلحون، ومن نظر في تاريخ الملل، وأخبار دعاة المذاهب والنحل، يعلم أنه لم يُنشر مذهب ولا دين، إلا وكان هذا الشرط ركنه الركين. ومن شواهده في القرآن العزيز قوله تعالى: (وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)). النساء

* (خامسها): التلطف في القول، والرفق في المعاملة، وهذا أول ما يتبادر إلى الفهم من قوله تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، والقرآن يبين هذا في مواطن كثيرة وآيات متعددة. اقرأ إن شئت قوله عز وجل: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) 24-25 سبأ. فما بعد هذا التلطف فج يسار فيه، ولا وراء هذا الرفق غاية ينتهى إليها.

والسر فيه أن النفوس جُبلت على حب الكرامة. وتربت في الغالب على الرعونة، ونشأت على التقيد بالعادة، فمن رام الخروج بها عن عادتها، وصرفها عن غيها إلى رشادها. ولم يمزج مرارة الحق بحلاوة الرفق، ولم يصقل خشونة التكليف بصقال القول اللين اللطيف؛ كان إلى الانقطاع أقرب منه إلى الوصول، ودعوته أجدر بالرفض من القبول. وإن أردت الدليل الصريح من القرآن. على تأييد هذا البيان. فاتل قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)) طه، فهو ينبئك بأن لين القول محل رجا التذكر، والمعد للنفوس للخشية والتبصر.

ومن هنا تفهم السر في حماية الأنبياء عليهم السلام من العاهات المنفرة، وجعلهم أكمل الناس آدابًا وأخلاقًا. (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ (159)) آل عمران، وقد اهتدى لهذا دعاة المذاهب الناجحة والأديان المنتشرة، حتى إن دعاة النصرانية في الصين يلبسون لباس البوذيين ويحملون أصنامهم أو يبيعونها منهم توسلا إلى عقيدة يلقونها، وتوصلا إلى كلمة يقولونها، أو نفثة ينفثونها، غلوا بازاء غلو، وضعة في مقابلة كبر وعتو، فان الصينيين يغلون في الدين ويحتقرون من دونهم من العالمين، وكأين من داع أفسد العنف دعوته وأسفل كلمته، أولئك الذين فرقوا الدين الواحد بالخلاف، وألقوا العداوة بين الإخوة بقلة الإنصاف.

* (سادسها): تلبس القائم بالدعوة بما يدعو إليه بأن يكون موقناً أو مقتنعاً به إن كان اعتقاداً، ومتخلقًا به أن كان خُلقًا، وعاملاً به إن كان من الأعمال. فمن لم يكن موقنًا ولا مقتنعاً فقلما يقدر على إقناع غيره، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن حث على التحلي بفضيلة وهو عاطل منها، أو أمر بالتزكي من رذيلة وهو متلوث بها، لا يُقَابل قوله إلا بالرد، ولا يُعامل إلا بالإعراض والصد.

وينشده لسان الحال، إذا سكت لسان المقال:

يا أيها الرجل المعلم غيره … هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي … العنا كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تجذب للرشاد نفوسنا … أبدا وأنت من الرشاد عديم
فابدأ بنفسك فانهما عن غيها … فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك ينفع ما تقول ويقتدى … بالقول منك وينفع التعليم

وما كان من الدعوة متعلقًا بالأخلاق والأعمال فهو تربية، والتربية النافعة إنما تكون بالفعل، لأنها مبنية على القدوة وحسن الأسوة، لا بمجرد القول. ألم يبلغك حديث الحلق في الحديبية؟ وكيف لم يمتثل الصحابة عليهم الرضوان أمر النبي به، حتى حلق هو فاقتدوا بفعله أجمعين، ومن هاتفهم السر في عصمة الأنبياء عليهم السلام.

* (سابعها): الصبر وسعة الصدر، فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، ومن ضاق صدره مل والملل آفة العمل، وقد جعلنا هذين الشرطين واحدًا لتلازمهما وجودا وعدمًا، وحسبك من دليل اشتراطهما في الكتاب قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ (35)) الأحقاف، وقوله عز وجل: (فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ (2)) الأعراف، وقوله تبارك اسمه: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)) الكهف، ولا يختص الصبر بعدم استعجال الفائدة قبل وقتها بل الصبر على الإيذاء الذي يبتلى به الدعاة دائمًا آكد وألزم، وفضله أكبر وأعظم، وهو الذي جعله الله تعالى دليل الإيمان والمميز لأهله عن المنافقين (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ (10)) العنكبوت.

ولم يعر دعاة النصرانية من هذه المزية السامية والمنقبة الشريفة، فان الجرائد والبرقيات تحدثنا آنًا بعد آن بما يقاسون من الإهانة والإيذاء والمشقة والبلاء لا سيما في أحشاء إفريقيا والصين، ولكن علماءنا يشترطون أن يكافؤوا على الدعوة بالتعظيم، والأجر العاجل الكريم، وأن يكفل لهم كافل بأنهم يقابلون بالقبول، وحصول المأمول، حتى إن منهم من كتب ذلك في جريدة، وصرح بأنه مبني على أصول العقيدة.

ومما يحسن ذكره ههنا ما بلغني من كيفية امتحان الدعاة، وإليك حديث امتحان منها، درس بعض المستعدين للدعوة علم اللاهوت والعلوم الاجتماعية والتهذيبية والرياضية والطبيعية، واخذ الشهادات بها، ثم طلب امتحان الدعوة من إحدى الجمعيات الدينية، فأحالته الجمعية على رجل في بلد غير الذي هو فيه، فلما جاءه استأذن عليه معرفًا بقصده، فأجابه خادمه أن انتظره ساعة في هذا المكان من بيته، فمرت الساعة واليوم وخرج الرجل من البيت وعاد إليه ولم يقابله، فلما كان اليوم الثاني دخل عليه بعد الظهر وأكلا، وبعد الأكل كتب له الشهادة من غير أن يسأله عن شيء، وإنما كتب حكايته معه، وقال: «إنه أكل معي من غير انفعال ولا تأثر، ولم أر على وجهه شيئًا من ملامح الامتعاض لسوء المعاملة التي عاملته بها فليقبل».

* (ثامنها) الأمل بالنجاح والرجاء بالفلاح، مهما عظمت المصاعب وانتابت النوائب، فان اليأس أدوأ الأدواء، الذي لا ينجع مع وجوده دواء، وناهيك أن القرآن جمعه مع الكفر في قرن، وجعله مع الضلال كفن، والآيات في هذا طوافة في الأذهان فائضة على كل لسان، واذكر من تلبس دعاة النصرانية بهذا الشرط ما كنت قرأته في جريدة لهم قالت ما مثاله:

أن أول بعثة أرسلت إلى الصين بعد الاستعداد بتعلم اللغة الصينية، وطبع الكتاب المقدس بها مكثت بضع سنين (وأظنها حددتها بثمان)، لم يجب دعوتها أحد، فاستأذنت من الجمعية الكبرى بمغادرة الصين لليأس من تنصر أحد من أهله، فأجابتهم الجمعية بأنكم لم ترسلوا لتنصير الناس أو إلزامهم بالنصرانية فترجعوا لعدم حصول المقصود، وإنما وظيفتكم الدعوة إلى آخر الحياة سواء أجابكم الناس أم لم يجيبوكم ،فثبتوا حتى صار الناس يدخلون في دينهم بالتدريج، وإنما هدى هؤلاء للقيام بهذا الشرط كغيره الصدق في خدمة دينهم والحرص على نشره،

وقد فقدنا نحن هذا من عهد بعيد، فصرنا نقرأ القرآن (الذي لم يغادر شرطًا من شروط الدعوة إلا بينه) للتبرك وشفاء الأمراض الجسدية، أو للطرب في الأفراح، وهم الذين قاموا بالعمل به، هل تفكرت يا أخي المسلم بقوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)) الغاشية،  وقوله: (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107)) الأنعام، وقوله: (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (45)) ق، وهل أطلت الفكرة يا أخي فيمن قام بحقوق هذه الآيات وأمثالها ولم تكتف عند قراءتها وسماعها بقول: (الله الله) سبحان من هذا كلامه، كما تلقيت عن عامة الناس؟

هذا ما تيسر إيراده من آداب وطرق الدعوة إلى الله نسأل الله جل وعلا أن ينفع بها.

———————————

(*) وُلِد الشيخ محمد رشيد رضا في في قرية قلمون بالقرب من طرابلس الشام عام  27جمادى الأول 1282هـ  الموافق 1865 م، و تلقّى تعليمه فيها. وكان في بداياته واعظاً متصوّفاً، ثم تأثر بمدرسة الأفغاني و محمد عبده بعد قراءته لأحد أعداد مجلتهما العروة الوثقى، وارتحل إلى مصر عام 1315 هـ، و تنقّل من الإسكندرية إلى القاهرة التي استـقـرّ به النوى فيها عام 1315 هـ، و التقى بالأستاذ محمد عبده و لازمه، و أفصح له عن رغبته بإصدار مجلة تعتني بأحوال المسلمين، وطرق إصلاح واقعهم المتردّي، لكن الأستاذ محمد عبده لم يكن متحمساً لإنشاء مجلة لاقتناعه بعدم جدواها في مقاومة الصحف التي تهتم بأخبار الخديوي و الإنجليز مثل (المؤيد)و(المقطم) و(الأهرام)، إلا أن محمد رشيد رضا أقنعه بصحة رأيه و ضرورة إنشاء المجلة للتصدي لمهمة الإصلاح المنشودة، و أنه في هذا السبيل على استعداد للمغامرة و تحمّل تبعات هذه المغامرة، و قال له: «إن معالجة قضايا التربية و التعليم و نشر الأفكار الصحيحة لمقاومة الجهل و الأفكار الفاسدة التي فشت في الأمة كالجبر و الخرافات، هي الباعث لي على إنشاء هذه الجريدة، و إنني أسمح أن أنفق عليها سنة أو سنتين من غير أن أكسب شيئا».
و لما صحّ العزم من الشيخ محمد رشيد رضا قام بإنشاء المجلة، و أطلق عليها اسم : (المنار)، و طبعها في مطبعة التوفيق القبطية، فصدر أول أعدادها في تاريخ 22 من شوال عام 1315 هـ، الموافق 15 مارس من عام 1898 م. يتألف العدد منها من ثمان صفحات كبيرة، تتوسّطها كلمة المنار بخطّ كبير .
توُفّي الشيخ محمد رشيد رضا في 23 من جمادى الأولى لعام 1354 هـ، الموافق 22 ـ أغسطس 1935 م، بعد أن استكملت المنار مجلدها الرابع و الثلاثين و شرعت في الخامس و الثلاثين، فكان لوفاة الشيخ و انقطاع المجلة وقعاً محزناً في العالم الإسلامي، فطالب الكثيرون من العلماء و الأدباء و المؤرخين بإعادة إصدارها مرة أخرى لسدّ الفراغ الكبير الذي أحدثه توقفها، فأصدر أخوه ” محي الدين رضا ” عددين فقط، و لكنه لم يستطع الإستمرار. توقّفت بعد هذا المجلة لمدة عامين، ثم تولّى الأستاذ حسن البنا زمام المجلة، ، فصدرت ستة أعداد منها، ثم توقّفت نهائياً في شعبان 1359 هـ، الموافق سبتمبر عام 1940 م، لينطفيء آخر إشعاع انبثق من هذا (المنار) الشامخ الباذخ، فرحم الله الشيخ و أجزل له المثوبة عنا و عن أمة الإسلام.

اترك تعليقا