الرؤية الواضحة والبصيرة الواعية

الرؤية الواضحة والبصيرة الواعية  بقلم: الدكتور محيي حامد 

ونحن نسير في طريقنا إلى الله – عزَّ وجلَّ – والدعوة إليه لا بد من رؤيةٍ واضحةٍ نستبين بها طريقنا، وبصيرة واعية ندرك بها ما نريد تحقيقه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: من الآية 108)، والرؤية الواضحة لطريق الدعوة من الأمور الأساسية واللازمة، والتي يجب أن نعطيها اهتمامنا وجهدنا حتى نكون على بينةٍ من أمر هذه الدعوة ومنهجها الذي عليه نعمل وبه نسير.

إن للإخوان المسلمين منهاجًا محددًا يتابعون السير عليه ويعملون على تحقيقه، ووضوح الرؤية للمنهاج والوسائل يحمي من الانحراف عنه أو التجاوز فيه، وما أجمل ما ذكره الإمام البنا – رحمه الله – في هذا المعنى بقوله:

«إن القائمين بكل نهضةٍ موفقةٍ نجحت وأثمرت كان لهم منهاج محدود عليه يعملون، وهدف محدود إليه يقصدون، وضعه الداعون إلى النهوض، وعملوا على تحقيقه ما امتد بهم الأجل وأمكنهم العمل، وحتى إذا حِيل بينهم وبينه، وانتهت بهم تلك الفترة القصيرة فترة الحياة في هذه الدنيا خَلَفَهم من قومهم غيرُهم يعملون على منهاجهم، ويبدءون من حيث انتهوا، ولا يقطعون ما وصلوا، ولا يهدمون ما بنوا، ولا ينقضون ما أسسوا وشادوا، ولا يخربون ما عمَّروا، فإما زادوا ما عمل أسلافهم تحسينًا، أو مكنوا نتائجه تمكينًا، وإما تبعوهم على آثارهم، فزادوا البناء طبقةً، وساروا بالأمة أشواطًا إلى الغاية؛ حيث يصلون بها إلى ما تبتغي، وينصرفون راشدين ويخلُفهم غيرُهم، وهكذا دواليك حتى تتحقق الآمال، وتصدق الأحلام، ويتم النهوض، ويثمر الجهاد،وتصل الأمة إلى ما إليه قصدت وعملت».

إن فوائد وثمار الرؤية الواضحة والبصيرة الواعية كثيرة ومتعددة، ومن أهمها:

تحقيق حسن الفهم وصحة القصد، وهما من أهم ما يلزم لكل عامل مخلص لهذا الدين، كما يقول الله – عزَّ وجلَّ – في الآية الكريمة﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: من الآية 108).

تحقيق وحدة التصور ووحدة العمل، فالإنسان يعمل بما يؤمن، ويدعو إلى ما يعتقد، ويضحي في سبيل ما يعتقد أنه الحق.

تحقيق قوة الشخصية وفاعليتها وتأثيرها، كما في موقف الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه وقوله: «لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام».

 الحفاظ على منهج الجماعة من الانحراف عنه أو الخطأ فيه، كما يقول الإمام البنا رحمه الله: «.. ومعرفة بالمبدأ وإيمان به، يعصم من الخطأ فيه أو الانحراف عنه أو الخديعة بغيره أو المساومة عليه».

 تواصل الأجيال وتوريث الدعوة لهم غير منقوصة، فالمؤسسية في العمل الدعوي تتطلب وضوح الرؤية حول الفكرة والمنهج الذي نعمل من أجله.

 استمرار العمل في كل الظروف والأجواء دون توقف أو انقطاع، فصاحب الدعوة يدرك منعطفات الطريق والعقبات التي تعترضه وكيف يتعامل معها.

تحقيق الآمال والأحلام التي تتطلب أصحاب الهمم العالية والنفوس الذكية، كما في قول الإمام البنا: «اعلموا أن أسلافكم الكرام لم ينتصروا إلا بقوة إيمانهم، وذكاء أرواحهم، وطهارة نفوسهم، وعملهم على عقيدة واقتناع، فاختلطت عقيدتهم بنفوسهم، ونفوسهم بعقيدتهم، فأصبحوا هم الفكرة والفكرة هم».

وقد يتبادر إلى أذهان البعض أسئلة عدة تحتاج إلى تبيانٍ ووضوحٍ، حتى يستقيم أمر كل مَن يحمل هذه الدعوة المباركة، ومن هذه الأسئلة: من نحن؟ وماذا نريد؟ وهما أساسا الانطلاق والحركة لكلِّ مَن ينتمي لهذه الدعوة، فإذا وضحت الرؤية لهما أصبحت واضحةً فيما يتعلق بغيرها من التساؤلات والقضايا التي قد تُثار حول منهج هذه الدعوة ومواقفها من القضايا المطروحة أو غير ذلك؛ ولذا يجب علينا أن نبذل قصارى جهدنا حتى نصل إلى وحدة التصور والفكر، وما يترتب على ذلك من وحدة العمل وسلامته، ولنعلم أن أمانة هذه الدعوة عظيمة وتحتاج إلى جهود كل المخلصين الغيورين على دينهم ووطنهم.

إن طريق دعوتنا ليست بدعًا ولا مستحدثة، ولكنها الطريق التي سار عليها من قِبل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فكان نتاج ذلك التمكين لدين الله في الأرض وسيادة الدنيا وإسعاد البشرية، ولقد اقتبس الإمام البنا – رحمه الله – معالم هذه الدعوة من سيرةِ الحبيب المصطفى  وأرشدنا إليها، وحدد لنا كيف نحقق ما نصبو إليه من آمالٍ وطموحات، اتباعًا لمنهج النبوة وليس ابتداعًا، فيقول رحمه الله:

«ليست دعوة الإخوان إلا صدى للدعوة الأولى يدوي في قلوب هؤلاء المؤمنين، ويتردد على ألسنتهم، ويحاولون أن يقذفوا به إيمانًا في قلوب الأمة المسلمة؛ ليظهر عملاً في تصرفاتها وتتجمع قلوبها عليه، فإذا فعلوا ذلك أيَّدهم الله ونصرهم وهداهم سواء السبيل».

إن الإخوان المسلمين جماعة من المسلمين، تعاهدوا فيما بينهم على العمل الجاد لتحقيق متطلبات الإسلام في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرُّ بها الأمةُ الإسلاميةُ؛ ولذا فهم يسعون للتمكين لدين الله في الأرض بإقامة دولة الإسلام، وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، ولا يدَّعي الإخوان أن هذا واجبهم وحدهم، ولكن واجب سائر المسلمين، ويَدْعُون كل المسلمين إلى العمل معهم لتحقيق هذا الهدف العظيم، ولقد آمن الإخوان بما آمن به المسلمون الأُول بأن الإسلام عقيدة وعبادة، ووطنًا وجنسية، وخُلُقًا وعادة، وثقافة وقانون، وسماحة وقوة، فاعتقدوه نظامًا كاملاً يفرض نفسه على كلِّ مظاهر الحياة، ويُنظِّم أمر الدنيا كما يُنظِّم أمر الآخرة.

وانطلاقًا من هذا الفهم العام لطبيعة هذا الدين ورسالته، فقد حدد الإمام البنا – رحمه الله –  فكرة الإخوان المسلمين، والتي شملت كل مناحي الإصلاح في الأمة فيقول: «ونستطيع أن نقول ولا حرجَ: إن الإخوان المسلمين..

* دعوة سلفية: لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسول الله.

* وطريقة سُنِّيَّة: لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شيء، وبخاصة العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

* وحقيقة صوفية: لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس، ونقاء القلب، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب في الله، والارتباط على الخير.

* وهيئة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل، وتعديل صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعوب على العزةِ والكرامة.

* وجماعة رياضية: لأنهم يعتنون بأجسامهم، ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وأن النبي يقول: «إن لبدنك عليك حقًّا»، وإن تكاليفَ الإسلام كلها لا يمكن أن تُؤدَّى كاملةً صحيحةً إلا بالجسم القوي.

* ورابطة علمية وثقافية: لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلمٍ ومسلمة.

* وشركة اقتصادية: لأن الإسلام يعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه، وهو الذي يقول عنه نبيه : «نعم المال الصالح للرجل الصالح».

* وفكرة اجتماعية : لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي، ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها”، ويحدد في موضع آخر فيقول – رحمه الله -: «ولسنا جمعية خيرية إصلاحية وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا».

وهكذا نرى أن شمول معنى الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولاً لكل مناحي الإصلاح، ووجّه نشاط الإخوان إلى هذه المناحي، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلى جانب واحد دون غيره، يتجهون إليها جميعًا، ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعًا.

«فدعوتنا أجمع ما توصف به أنها (إسلامية) بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، فافهم فيها ما شئت بعد ذلك وأنت في فهمك هذا مقيد بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح من المسلمين».

ومن هنا كانت جماعة الإخوان المسلمين هيئة إسلامية شاملة، تتناول جميع المجالات الدعوية والتربوية والاجتماعية والسياسية إلى غير ذلك من شئون الأمة الإسلامية.

إن مهمة الإخوان المسلمين كبيرة وعظيمة.. سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظام الإسلام الصحيح وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن تسعد الناس.. ليست مهمة جزئية لتحقيق أهداف محددة في بعض النواحي السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، كما أنها ليست مهمة محلية أو إقليمية مقصورة على جنسٍ بعينه أو وطنٍ بذاته، ولكنها مهمة شملت كل نواحي الحياة على أكمل ما يكون إصلاحًا وسعادةً للبشرية كلها.

إن الهدف من سلوك طريقِ دعوة الإخوان المسلمين هو التمكين لدين الله في الأرض بإقامة دولة الإسلام العالمية وعلى رأسها الخلافة الإسلامية، ولا شك بأن هذا الهدف عظيم، ويُعتبر أعظم إنجاز يمكن أن يتحقق في حياة البشرية، وعلى مَن يسلك هذا الطريق أن يُدرك الهدف الذي نسعى لتحقيقه بكل أبعاده وحجمه واتساع رقعته ومراحل تحقيقه، وبالتالي ما يلزم من وقتٍ وجهدٍ وجهادٍ وتضحيةٍ، ولا يستكثر الجهود والتضحيات المبذولة في سبيله، كما لا يستبطئ الزمن، ومن ثَمَّ لا يداخله يأس أثناء سيره على الطريق إذا طال الوقت دون أن يرتفع بناء الدولة المنشودة.

ولنعلم أننا لا نهدف إلى إقامة حكوماتٍ إسلاميةٍ ضعيفة غير متماسكة، يستطيع الأعداء أن يقضوا عليها الواحدة بعد الأخرى، ولكننا نهدف إلى إقامة دولةٍ إسلاميةٍ عالميةٍ قاعدتها الساحة الإسلامية، تجمع كلمة المسلمين، وتسترد كل شبر اغتصب من أرض الإسلام وعلى رأسه المسجد الأقصى وأرض فلسطين الحبيبة، ومَن يتصور أن الهدف مجرَّد إقامة حكومة إسلامية محلية لا شأنَ لهم بغيرهم, وقد تدفعهم هذه النظرة إلى التسرع أو اللجوء إلى أسلوبِ الأحزاب السياسية أو الجمعيات الخيرية والدعوية، فيُفعِّلون الجانبَ السياسيَّ على الجانب الدعوي والتربوي، أو يفعِّلون الجانب الدعوي والاجتماعي على الجانب السياسي، وقد يغيب بذلك الهدف الأسمى الذي نسعى إليه.

إن وضوح الرؤية لعظم الجزاء الذي نرجوه من الله عز وجل، والذي يصغر دونه كل ما في حياتنا الدنيا من نعيم وملك وسلطان ومتع ولذات.. جنات عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر, وصحبة طيبة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم.

ولكن لمَن هذا الجزاء؟ أنه جزاء مَن ساروا على منهاج النبوة اتباعًا لا ابتداعًا، وحرصوا على السير في طريق الدعوة إلى الله وفق الغاية والأهداف التي من أجلها يعملون أو يسعون لتحقيقها، وتمسكوا بأصول هذه الدعوة ولم يفرطوا فيها بل كانوا رجالاً بصبرهم ومثابرتهم وجدهم وعملهم الدائب، وصبروا حتى تنمو البذرةَ وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف، فكان لهم عظيم الجزاء.. إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة..

نسأل الله العظيم أن نكون أوفياءَ لدعوتنا.. أمناء عليها.. مجاهدين في سبيلها حتى نلقى الله.. اللهم آمين.

اترك تعليقا