في رعاية النفس على طريق الدعوة– د. محمد حامد عليوة
وجب على الدعاة أن يراقبوا أنفسهم ويجاهدوها جهاداً عنيفاً، ويتشددوا دائماً في حسابها، ولا يتهاونوا معها بحال من الأحوال، ويأخذوها دائماً بالعزيمة حتى تستقيم على أمر الله، لأن مفاتن طريق الدعوة كثيرة ومتنوعة، ومنعطفاتها شديدة ومتعاقبة، لذلك كثيراً ما نبه الامام الشهيد حسن البنا إخوانه، فقال فيما يلزم الأخ على الطريق: «كف الأذى عن النفس ووجوب العناية بها»،وفي وصيته الجامعة للإخوان المسلمين في 1939م، عقب المؤتمر الخامس، قال:
«أيها الإخوان: العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا، فجاهدوا أنفسكم واحملوها علي تعاليم الإسلام وأحكامه، ولا تتهاونوا معها في ذلك بأي وجه من الوجوه، وأقبلوا على الطاعة، وفروا من الإثم وتطهروا من العصيان، وصلوا قلوبكم ومشاعركم دائماٍ بالله الذي له ملك السموات والأرض، قاوموا الكسل والعجز، ووجهوا شبابكم ومشاعركم وعواطفكم إلى الفضيلة الطاهرة النقية، وحاسبوا أنفسكم فيه حساباً عسيراً، واحذروا أن تمر بكم دقيقة واحدة لا يكون لأحدكم فيها عمل طيب وسعي مبرور».
ومما يجب على صاحب الدعوة أن يراقب قلبه ونفسه فيه (مطابقة قوله عمله)، لأن دعوة الناس إلى الخير والبر مع مخالفة ما ندعو الناس إليه مصيبة كبيرة وآفة عظيمة، قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)البقرة 44، ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)الصف 2-3. وقد روي أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام: «يا بن مريم : عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحى مني».
ومن سوء عاقبة هؤلاء يوم القيامة أن يراهم أهل الجنة وهم يعذبون في النار فيقولون لهم: ما أدخلكم النار؟ إنما دخلنا نحن الجنة بفضل تعليمكم وتأديبكم لنا!، فيقولون لهم: إنا كنا نأمركم بالمعروف ولا نأتيه وننهاكم عن المنكر ونأتيه. إنها لحسرة بالغة وندم شديد وخزي على رؤس الأشهاد.
والمطابقة بين القول والعمل ليست من الأمور الهينة على النفس، لأن للنفس شهواتها ومألوفاتها على الطريق، وبالتالي لزم للدعاة رياضة النفس ومجاهدتها ومراقبتها، ويُعين في ذلك الصلة بالله عز وجل وطلب العون منه دائماً، وإنكسار النفس أمامه سبحانه.
لذلك لا يمكن للداعية أن يكون قدوة فيما يقول إلا إذا وثَّق صلته بالله، واستمد منه العون وأصبحت، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، هي منهاجه ونبراسه، حينئذ يهديه ربه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، ويعينه على فتن الطريق ومنعطفاتها، فيري فيه الناس الصدق، فيفتح الله له القلوب والأبصار بصدقه.
يقول صاحب الظلال (الشهيد سيد قطب) – رحمه الله: «إن الكلمة لتنبعث ميته، وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يصبح هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق، عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من زينتها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها يومئذ دفعة حياة لأنها منبثقة من حياة». فى ظلال القرآن ج1 ص 68.
بقدر جهدك مع نفسك؛ يكون أثرك فى غيرك
ومن الكلم الطيب في رعاية النفس وأثر ذلك في الدعوة: «بقدر جهدك مع نفسك، يكون أثرك في غيرك». ومن لطائف هذه الحكمة، التوازن في معناها ومبناها، فنلاحظ أربع كلمات (كمقدمة)تؤدي لأربع مثلها (كنتيجة)، بل توازنت كلمات المقدمة والنتيجة في عدد أحرفها وبنفس الترتيب.
نعم إنها النفس الأَوّلَى بالرعاية، وساحة الجهد الأجدى بالوقاية، ولذلك كان «العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا»،كما وضح الإمام حسن البنا – رحمه الله.
إن ميدان النفس هو أول ميادين الكفاح والتغيير، وأول مراتب الإصلاح والتطوير، ومنطلق النجاح والتأثير. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)الرعد 11 .
نسأل الله سبحانه العون على أنفسنا، ونسأله الجهد في رعايتها وتزكيتها، فذلكم عين الفلاح (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)الشمس 9، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)الأعلى 14.
خلاصة القول في ذلك أمرين:
الأول: أن من دعا غيره إلى الهدى ولم يعمل به كان كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه. عافانا الله من ذلك.
الثانى: أن مسئولية الدعاة تجاه غيرهم لا يجب أن تشغلهم عن مسئوليتهم تجاه أنفسهم، وأن انشغالهم بإصلاح الناس يجب ألا يصرفهم عن إصلاح حالهم، فيعطوا المسئولية حقها في أنفسهم ونحو غيرهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل باطننا خيراً من ظاهرنا، وسرنا خيرا من علانيتنا، وأن يرزقنا الصدق فى القول والعمل، والاخلاص فى السر والعلن.